السبت، ديسمبر 17، 2005

سيرة شعب عبر سيرة أسرة

حازم صاغيّة - الحياة
لو ترك لفارغاس يوسّا ان «يؤرخ» روائياً لبلد، أو لجماعة، من خلال عائلة لابتدأ، كما ابتدأ غسان تويني، بجبران الجد. ذاك ان الدراما تأسست معه، هو الذي تبنّى قضايا العرب وفلسطين ودافع عنها، على ما ذكر نجله في الكلمة النبيلة التي ألقاها رثاءً لنجله.
فقد كان جبران الجد وريث التقليد النهضوي الذي انطلق، أواخر القرن التاسع عشر، من جبل لبنان ومن بيروت. وكانت العروبة الثقافية - ولم تكن العروبة السياسية قد نشأت ولا نشأت الدول العربية - إشارة على الموقف التقدمي ودليلاً اليه. فالعروبي، بالمعنى هذا، كان من يعادي الاستبداد، ومن يشيع قيم التنوير، ومن يطالب بحقوق المرأة والأقليات، ومن يعمل على إحياء اللغة والثقافة المحليتين، فيما يوسّع المعرفة بالعالم ولغاته. وهو، كذلك، من يرى ان جدارة العربي بالحرية والاستقلال متلازمة مع جدارته في معاداة الاستبداد، وإشاعة قيم التنوير، والمطالبة بحقوق المرأة والأقليات، والسعي الى إحياء اللغة والثقافة المحليتين مع توسيع المعرفة بالعالم ولغاته.
وتغير الزمن مع غسان تويني. فالعروبة السياسية كانت نشأت، فلم تُفضِ إلا إلى تصديع الدول الناشئة بالانقلاب عليها. وفي الغضون هذه، وطّد الانقلابيون الجدد أجساماً استبدادية غير مسبوقة، وهمّشوا الأقليات وأحياناً خنقوها، وعزلوا بلدانهم عن العالم وثقافاته ولغاته، بل تراجعت على ايديهم حتى المعرفة باللغة والثقافة المحليتين. أما حقوق المرأة فلم تعد أكثر من ديكور استعراضي تزيّن به واجهة الدولة «الحديثة».
وانتمى غسان تويني الى جيل من المثقفين تراءى له ان الحزب السوري القومي يوفّر الاستئناف الأفضل لما وعدت به «النهضة العربية». وفي الحالات كافة، غدت العروبة معه أضيق نطاقاً مما كانت مع أبيه، وإن ظلّت سورية تحتل مركز القلب في المشروعين.
ومن نافذته في «النهار» كان يراقب، عاماً بعد عام، حجم التناقض بين العروبة السياسية والحرية، وكيف ان الأولى لا تخطئ في اختيار الإعلام عدواً أولاً لها. هكذا لاحظ كيف قُتل صديقه كامل مروة، وعاين كيف خُطف صديقه ميشال أبو جودة. وبين الحدثين عاش التجربة الشهابية بوصفها ضريبة تدفعها الديموقراطية لإرضاء العروبة السياسية. يومها استفظع غسان تويني ضروباً من القمع تبيّن أنها، بقياس الأزمنة اللاحقة، لعب أطفال وتسلية هواة.
ولم يكن هذا وذاك غير تمارين على حروب العروبة اياها فوق ارض لبنان، بالاستفادة طبعاً من نزاعات طوائفه، لكنْ باستثمار النزاعات هذه على نحو مترع بالأنانية «القُطرية» وبنقص في الاخلاق والضمير مصحوب بفيض في القسوة.
وشاهد أصدقاءه يتساقطون وبلده يتساقط، فاندفع في المرارة حتى افتراض الحرب مجرد «حرب آخرين على أرضنا». ويبدو أنه، على رغم كل شيء، نشّأ نجله جبران على القيم التي ورثها عن أبيه جبران، أو هذا ما قاله في مرثاته. لكن الواقع الذي كان يعانيه جبران الحفيد بدا، من دون شك، أقوى أثراً. ففي العقود الثلاثة الأخيرة راح يتبدّى أن العروبة السياسية، ولم يتبقَ منها إلا المخابرات، لا ترضى بأقل من سحق لبنان وهضمه، ولا يرويها ما يقلّ عن إذلال شعبه فرداً فرداً إن أمكن.
ولئن راحت الاستباحة المتمادية تفسّر التطرف رداً عليها، فقد جاءت عارية من كل برهان يصلح لإقناع المتطرف بأن يعتدل. وهو ما أضحى، في السنة الأخيرة من حياة جبران، ومن حياتنا جميعاً، كابوساً مطبقاً يمارس نفسه يومياً كما لو انه الليل «الذي هو مُدركنا» شئنا أم أبينا. فلا انسحاب الجيش يسحب الشر، ولا العقاب الدولي يعاقب القاتل وينهي القتل.
وإذ أنشبت آخر الجرائم أظفارها في جبران تويني الحفيد، فإنها أعلنت هيولية التحوّل الذي عاشه اللبنانيون، وعرب آخرون من غير شك، عبر أجيال ثلاثة في أسرة واحدة.

ليست هناك تعليقات: