السبت، نوفمبر 05، 2005

سوريا في عنق الزجاجة

محمد بن عبداللطيف آل الشيخ - إيلاف
من الخطأ إلى حد كبير القول أن النظام الحاكم في سوريا (ضعيف) من الداخل، بحيث أتى تقرير المحقق الدولي (ديتلف ميليس) ليهزه ويعزز من تضعضعه. صحيح أن هذا النظام يُعاني من (ضعف) واضح في علاقاته الخارجية، ومعالجاته للشؤون الدبلوماسية، ناهيك عن حاجته الماسة لوسائل إعلام فاعلة ومؤثرة، وهو يفقد ومازال الكثير من الحلفاء في الخارج، أو من يفترض أنهم حلفاء، يوماً بعد يوم، وبالذات على المستوى العربي، بسبب عدم قراءة صناع القرار السوري للواقع كما ينبغي، غير أن ذلك كله لا يعني مطلقاً أنه ضعيف داخلياً.مازال في يد الرئيس بشار الأسد الكثير من الأوراق، والتي بإمكانه اللعب بها لإخراج بلاده من الأزمة. غير أن مشكلة الدبلوماسية السورية، أو بالأحرى صانعي هذه الدبلوماسية، أنهم لا يُجيدون تقدير التوقيت المناسب للحركة، الأمر الذي جعل قراراتهم دائماً تأتي في الوقت الضائع، ليكون مردودها السياسي على الوضع المُـراد معالجته متدنياً وكأنها لم تكن.الأمر الآخر الذي يجبُ أن يعيه صانع القرار السياسي السوري أن الزمن قد تغير. وأن مواجهة مثل هذه التحديات، كتقرير ميليس، بالغوغاء والمظاهرات والإحتجاجات وأحداث الصخب لن يفيد إطلاقاً في مثل هذه الحالات. فقد جرب هذا الأساليب صدام من قبل وخرج منها بخفي حنين. صحيح أن مثل هذه المظاهرات الصاخبة كان لها أبلغ الأثر في إخراج سوريا من لبنان مثلاً، غير أن الحالة السورية تختلف تماماً. فالجميع يعرف أن هذه التظاهرات و المسيرات الشعبية التي تنطلقُ من الداخل السوري (مفبركة)، وان المشاركين فيها يتجمعون بأمر، وينصرفون بأمر آخر؛ بمعنى أنها ليست مشاركة عفوية أوعن قناعة بأهداف هذه التجمعات الجماهيرية بحيث يستطيع المراقب والراصد للأحداث أن يقيس من خلالها قناعات الشعوب في التعبير عن ذاتها. ومتى ما فقدت هذه الظواهر الشعبية الجماهيرية تلقائياتها وعفويتها فقدت بالضرورة قدرتها على التأثير. كما أن رفض السوريين (لتسييس) تقرير ميليس كما هو الشعار الذي ترفعه الديبلوماسية السورية الآن في تعاملها مع مستجدات التقرير، لن يجدي نفعاً تماماً ؛ بل يُمكن اعتبار أن رفع هذا الشعار في مواجهة اتهامات هذا التقرير (سذاجة) سياسية. فكل شيء في عالم اليوم (مسيّس)، ابتداءً من الفعاليات الرياضية العالمية وانتهاء بمشاريع الإغاثة والمواقف الإنسانية بمافيها الطب والدواء. لكنه تسييس الاقوياء، الذي يتم إخراجه وكأنه ضربٌ من ضروب العدل والإنصاف و الإنسانية، بينما هو في حقيقته لعبة المصالح العليا لهذا أو ذاك. وهذا ما حدث تماماً في الحالة السورية. فالتحقيق الدولي جاء أساساً للبحث عَمّن إغتالَ الحريري، وانتهى ـ كما نرى ـ إلى أن قميص الحريري الذي مزقه الإنفجار أصبح كقميص عثمان وأصابع نائلة، ذريعة لإسقاط النظام.. نعم، ربما أن التوظيف السياسي لتقرير ميليس حقيقة، غير أنها ليست بذات قيمة في منطق الأقوياء وشريعة الأمم المتحدة، لتكون أساساً صالحاً لأن يقوم عليه (الدفع) في المرافعات السياسية لهذه القضية. وهذا ما يجبُ أن يُدركه السوريون تمام الإدراك.وبغض النظر عَمّن اغتال الحريري، و الاتهامات الموجهة إلى المسؤولين السوريين، وهل هي صحيحة أم لا ؛ فالقضية الأهم أن التقرير أصبح (حقيقة) واقعة، لا بد من التعامل معه بواقعية بدلاً من الإمعان في المكابرة والعناد والإصرار على تحديه؛ خاصة بعد صدور قرار مجلس الأمن الأخير رقم 1636 والذي يحث سوريا على (التعاون) مع قاضي التحقيق في اغتيال الحريري، حاملاً في مضمونه احتمالية (العقوبات) الاقتصادية وربما خيار (القوة) مستقبلاً، حسب مقتضيات (الفصل السابع) من ميثاق الأمم المتحدةالذي استند إليه القرار الأخير،وهو قرار لا يعني السوريين فقط، وإنما يجبُ أن يقرأه بتمعن وتؤده كل دول العالم الثالث.ومن المناسب هنا أن نشير إلى أن المأزق السياسي الذي وصل إليه السوريون كان نتيجة متوقعة للكثير من القرارات الخاطئة التي اتخذتها القيادة السورية الشابة، ابتداء من الإصرار على التمديد غير الدستوري لولاية الرئيس اللبناني إميل لحود، ومروراً بفتح جبهة مواجهة غير مباشرة مع القوات الدولية التي تقودها الولايات المتحدة في العراق. وأخيراً، وهو الأخطر والأدهى والأمر، تجاوز مصالح حلفائها العرب التقليديين، والذهاب خارج (منظومة) المصالح العربية، إلى التحالف مع الإيرانيين في العراق.ورغم أن المتشائمين يُصرون على أن سوريا دخلت إلى النفق المظلم، الذي يزداد ظلمة يوماً بعد يوم، وليس ثمة على المدى القريب و البعيد ما يُطمئن للخروج منه، إلا أنني أرى أن الرئيس الاسد مازال يملك في يديه الكثير من الأوراق التي فيما لو لعبها بذكاء وحذر وحصافة، وأمسك بخيوط اللعبة (الداخلية) بوعي وبقوة ستقوده إلى الخروج من عنق الزجاجة. فقط يحتاج الأمر إلى شجاعة ومراجعات جادة وقرارات جريئة، وخاصة فيما يتعلق بإعادة تقييم الدائرة المحيطة به من المستشارين وصناع القرار، الذين أثبت الزمن كما أثبتت الوقائع أن قراءتهم للشأن الخارجي لم تكن قراءة واعية أو حصيفة.

ليست هناك تعليقات: