الدكتور طالب الرمَّاحي
في حديث للمرحوم العلامة السيد عبد الزهرة الخطيب - رحمه الله – نقل له أحد الفضلاء أنه في النصف الأول من القرن الماضي وفي إحدى الليالي ، زار أحد المراجع الكبار في النجف الأشرف، فوجده دون عشاء في تلك الليلة ، ولمَّا سأله عن السبب قال له ذلك العالم الجليل : لا أملك ما أشتري به طعام الليلة .. ثم بادر: ألا تعلم محسنا يهدي للعلويات ثمن طعام الليلة فقد يبيتن بلا عشاء .... واضاف المتحدث أنه كان الى جنب ذلك العالم الجليل ( قاصة ) مليئة بالحقوق الشرعية لكنه ما كان ليجرء على أخذ شيء منها خشية وخوفا من الله حتى وإن كان المبلغ شيئا يسيرا يسد به رمقه ورمق بناته العلويات .. وكان العلامة الكبير والفيلسوف الإمام الشهير السيد محمد حسين الطباطبائي ، يرفض وحتى آخر يوم من حياته أن يأكل من سهم الإمام أو الحقوق الشرعية ، فكان يعيش على ما كان يكسبه من أرضه الزراعية في تبريز ومن عوائد مؤلفاته وريع ما يطبعه ، يقول ولده : كنت أتمنى أن يقبل أبي مني شيئا من المال ، فأضع أحيانا بين يديه قبضة من الأوراق النقدية وأصر عليه أن يقبلها أو شيئا يسيرا منها ، فكان يرفض رفضا باتا .. لقد عاش رحمه الله كريما عزيز النفس لم يذله المال حتى كان يقول : لو أعمل بيدي وأحصل على ثلاثة (تومانات) في اليوم أحب ألي من أن اطرق بيوت الآخرين مادَّاً إليهم يدي لحاجة ، بحيث أكون رهينا لأحد ... فعاش رحمه الله رفيع الهمة صادق المروءة أنفا غيور - وقدر المرء على قدر همته وصدقه .. وقدر مروءته وشجاعته على قدر أنفته - وعفته على قدر غيرته ... أما الشهيد الصدر (رض) فقد أبى أن يشتري دارا ، وحين يُعرض عليه ذلك من قبل أحد التجار المؤمنين ، كان يرفض دائما ثم يقول : إذا وهبتموني دارا فسوف أجعلها مدرسة للطلبة .. وكان رحمه الله يدرِّس طلبته في ( مقبرة آل ياسين ) في حرِّ الصيف ولم يكن هناك ( مبردة ) في المقبرة .. ولم يكن يملك مثلها في بيته ، وكان يتحرج من صرف الحقوق الشرعية على نفسه فيعاني الحرمان وشضف العيش ولا يمد يديه الى ما لايملك .. وما كان الشهيد الصدر يعيش حالة الزهد إلا لأنه يؤمن أن من أولويات وواجبات (عالم الدين) أن يعيش بالشكل الذي يكون معه انموذجا يُحتذى به في الوسط الإجتماعي الذي يعيش أغلب أبنائه العوز والحرمان ... وثمة مثل للزهد والأمانة والإعراض عن الدنيا .. إنه الإمام الخميني ( رحمه الله ) فقد كان في وسعه أن يمتلك القصور الفارهة وأمثالها من مغريات هذه الدنيا الفانية ، وقد أصبح قائدا لأكبر ثورة في تاريخنا المعاصر ، لكن نظرته الثاقبة للدنيا وعمق تفكيره في الحياة جعله من الزاهدين ، حتى أنه رفض أن يسكن في قصر شامخ من قصور الشاه وفضل أن يبق في حسينية متواضعة ، يأكل ما يأكل الناس ويتصرف كأنه أحد منهم ، حتى وافته المنية ، وبوصية منه ، طلب ولده المرحوم السيد ( أحمد ) من الشعب الإيراني أن لآ يودع أحد في حسابات الإمام شيئا من الحقوق بعد موته.
أما إمام الزاهدين الإمام علي عليه السلام فقد رسم لنا لوحة رائعة للزهد والزاهدين ، رسمها لعلماء أمته وأولى بهم أن يتحلوا ولو ببعض زهده ويتقمصوا بعض أخلاقه ، فيقول سلام الله عليه : ( ألا وأن إمامكم قد اكتفى من الدنيا بطمريه ، ومن طمعها بقرصيه ... ثم يقول : فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً ، ولا أدخرت من غنائمها وفرا ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا ، ولا حزت من ارضها شبرا ) .. هكذا يكون إمام المسلمين أو بعض هكذا إذا أراد أن يدَّعى الإمامة أو يتصدى مسؤولية الأمة ، فهل اعتبرنا بقول سيدنا ، وهل أخذنا من حياته ما يفيدنا في آخرتنا أم أنا في زمن ( المعروف فيه ما عرفناه والمنكر ما أنكرناه ) فاعتبرنا مايصل إلينا من أموال الله ملكاً لنا وغنيمة اغتنمناها على حق ابتدعناه وفصلناه على مقاس اطماعنا وشهواتنا ، وذريعة تسلحنا بها لصد الناس عن طلب حقها .. فكثرت الشقق الفاخرة والسيارات الفارهة ، .. وهذا أمير المؤمنين نعود إليه لنرى ماذا قال لقاضيه حينما بلغه أنه اشترى دارا بثمانين ديناراً: ( انظر يا شريح لاتكن ابتعت هذه الدار من غير مالك ، أو نقدَّت الثمن من غير حلالك ، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة) .. وأي خسارة تلك التي أشار إليها أمير المؤمنين ، إنها والله خسارة كبيرة لا تعادلها أموال قارون أو ملك الرشيد هارون ...
الإسلام دين الرحمة والكرم ، وقد أقر جوانب الترف المقنن ، والمعقول وهو الى ذلك لم ينه الناس عن التمتع بالحياة ( قل من حرَّم زينة الله ) ، وعلماء الأمة ومتصديها هم أفراد من هذه الأمة لم يميزهم عن باقي المسلمين ، ولم يمنحهم امتيزات إضافية ، وإذا ما توفرت فرصة في أن يكون خازنا على أموالهم ، فلايعني ذلك أن له حرية البذخ والتصرف غير المشروع على نفسه والأقربين ولا حتى إقامة المشاريع التي تستنزف أموال الأمة بلا مشورة من أصحاب الرأي ، حيث يكون مقياس إقامة المشروع الإجتهاد الشخصي أو المصلحة الذاتية ، كما فعل البعض في إقامة مشاريع عملاقة لم تنفع الإسلام ولا المسلمين ، بل لتكون ( ممالك صغيرة ) يشبعون فيها غرائزهم في الظهور بمظاهر دنيوية مقيتة أو يجعلون منها مصائد للتجَّار والمتبرعين وأصحاب الخير، لتزداد أموالهم وماهي في الواقع بإموالهم..
الإسلام لم يترك العالم أو المتصدي بلا حقٍ يقيم فيها أوده فهو من العاملين عليها ، وقد بين ذلك الحق ، ورسم لنا حدوده الإمام علي عليه السلام حين قال لبعض عماله : ( إن لك في هذه الصدقة نصيبا مفرضا ، وحقا معلوما ، وشركاء أهل مسكنة ، وضعفاء ذوي فاقة ، وإنا موفوك حقك ، فوفهم حقوقهم ، وإلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوما يوم القيامة ) ... إذن هذه الأموال هي أموال ذوي الفاقة وأهل المسكنة والضعفاء وهي باختصار شديد أموال الناس ، وليس للوصي عليها ومن أتيحت له فرصة الحيازة ، أن يتصرف بها وبشكل تمليه عليه غرائزه ونوازعه النفسية ، بل ليس له أكثر من ( نصيب مفروض ) لا يحدده هو وإنما يفرضه الإمام في وجوده أو الأمة في غيابه ، من خلال لجان تعمل الأمة على اختيارها من الفضلاء والمؤتمنين وأصحاب الدين والضمير ، .. وقد عمل بذلك الشهيد الصدر الأول( رض ) ، عندما منع وكلائه من قبول أي هدية من أحد ، أو التصرف بالأموال العامة دون مشورة منه ، فكان وكلاؤه على قصر المدة التي عملوا فيها في العراق لهم أثرهم الواضح في المحيط الذي عملوا فيه ، وكان أحدهم انموذجا لعالم الدين الحريص على مصلحة العقيدة والأموال العامة ، والحريص على عاقبته وحسن سمعته ، وكان نتيجة لذلك أن أصبحت لوكلاء الصدر شعبية ومحبة وموقعا متميزا بين الناس.
إن التصرف بأموال الله وهي حق الفقراء والمحرومين ذنب لا يعادله ذنب بل هي ظلم صريح وتجاوز على حقوق الآخرين، وأي جريرة تعادل أكل السحت والحرام .. وقد حذر امير المؤمنين من هذه الجريمة عندما خاطب أحد أولئك الذين يقضمون أموال الله قضما دون حق مشروع : (كيف تسيغ شرابا وطعاما ، وأنت تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما وتبتاع الإماء وتنكح النساء ، من أموال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين؟؟) ... وهكذا ينهى الإمام سلام الله عليه عن التصرف بأموال العامة فهو من مظاهر الكسب غير المشروع من قبل رجال الدين ، وخاصة أولئك الذين يتطاولون على أموال الله وحقوق الفقراء والمساكين .. بل أن الإمام عليه السلام من خلال مقولته التي تعكس مظاهر الزهد والعرض عن الدنيا ومغرياتها ، يريد أن يدلنا على الطبيعة التي يجب أن تكون عليها الشخصية العلمائية ، فهذه الشخصية ترتكز على أسس دينية ، فارتداء جبة الإسلام واعتبار المرء نفسه من أهل العلم والخوض في غمار العقيدة وطرح النفس في عالم الوعظ والنصيحة ، كل ذلك يعني أن المرء قد اختار طريق الآخرة والزهد في الدنيا ، كما أن ذلك لا يعني ( التصوف ) بمعناها المتعارف وأنما أن يرجح العالم جلَّ اهتمامه وعنايته في الآخرة ويميل إليها عن الدنيا ، فأما أن يسلك هذا الدرب ، أما أن يتعامل مع العقيدة تعاملأ تجاريا ويجعلها وسيلة من وسائل الكسب وجسراً يعبر من خلاله للدنيا ، ويرتدي العباءة الإسلامية طمعا فيها ، فإن ذلك شكل من أشكال النفاق والجشع ، وأولى بمثل هؤلاء أن يرأفوا بحالهم وحال الأمة ، وأن يفتشوا عن طريق أخرى للثراء من خلال التجارة والأعمال المربحة التي اجازها الله لعباده ... فعالم الدين من جنود الله يحارب به الشرك والطمع والجشع وسفينته في كل ذلك (الدين) ، والدين لا يهتم بكثرة العقارات وبناء ( الممالك الصغيرة ) أو الترف وملاحقة التجار في مواسم الحج والعمرة ، وأنما يدعو أهله للزهد والاكتفاء بلقمة الحلال ... إذن هنالك فرق كبير بين أن يكون المرء داعية ومصلحا إسلاميا وبين أن يكون إنسانا من العامة ، فثمة مسؤلية خاصة وواجبات محدودة وأسس معينة يستوجب على الأول أن يعمل بها وأن لا يتجاوز حدودها ويتسلح بكفاءة مرضية ، تؤهله لأن يكون رمزا إسلاميا ، وعالما ربانيا دون غيره من الناس ، وبخلاف ذلك لايكون ثمة فرق بينه وبين تجار المكاتب ، وموظفي الدوائر الرسمية ، بل يصبح عالة على الأمة الإسلامية وظاهرة سلبية تهد من أركانها ، وتخلف نتائج خطيرة من خلال ارتباك علاقة الإنسان بالشريعة ، واتخاذها وسيلة لتحقيق أهدافه المادية أو الإجتماعية أو الدنيوية ....
إن أمر التحكم بأموال العامة من قبل البعض ، لهو ظاهرة خطيرة تعاني منها الأمة وقد انتبه لهذه الظاهرة الكثير من العلماء والمفكرين المخلصين ، فحاول البعض أن يجد لها حلولا ناجعة تصلح أمرها وتقلل من معاناتها ، وخاصة بعد التمادي الكبير والتجاوزات المستمرة الخطيرة من قبل البعض ، فعمدوا الى وضع أطروحات مختلفة لمعاجة هذا الأمر الذي يشكل عمودا فقريا في تطور الأمة أو تخلفها ، وانتشال الأموال العظيمة التي يستحوذ عليها نفر قليل وتسليمها الى اياد امينة من خلال تشكيل هياكل ولجان اقتصادية شرعية ، وكان من أبرز تلك الطروحات مشروع ( المرجعية الرشيدة ) التي كتب عنها الشهيد الأول محمد باقر الصدر رضوان الله عليه ومشروع ( المرجعية الشاملة ) للعلامة السيد فضل اللة ، وكلا المشروعين يعالجان الجانب الإقتصادي وما يتعلق بالأموال العامة معالجة موضوعية يخرجها من التصرف والإجتهاد الشخصي الى تصرف الأمة ، من خلال تشكيل لجان مسؤولة تؤمِّن صرف الحقوق والأموال العامة في مواضعها الشرعية الصحيحة ، وثمة اقتراحات اختصت بالجوانب المالية ، كتشكيل مجلس من بعض العلماء يشرف على الأموال العامة ، من العلماء الذين تحمسوا لمثل هذا لمشروع العلامة السيد عبد الله الغريفي إلا أن هذا المشروع لاقى معارضة شديدة من قبل الوكلاء الذين كانت أو ما زالت لهم وصاية على أموال المسلمين من الحقوق والصدقات وغيرها .
إن العبث في الحقوق الشرعية من قبل البعض ، واعتبار تلك الأموال وكأنها أموال خاصة ، وصرفها في مخارج أغلبها شخصي وذاتي لا يمت الى المصلحة الإسلامية فلا تصل الى مستحقيها الشرعيين من المحرومين والفقراء أو المشروعات التي تفيد الأمة حاضرا ومستقبلاً، أو رميها في مشاريع تنبع الرغبة في إنشائها من المصالح الذاتية والمنافع الشخصية ، لهي أمور في غاية الأهمية والخطورة في هذه المرحلة التي تواجهها أمتنا الإسلامية وشعبنا العراقي المظلوم الذي يدَّعي الإنتساب إليه أغلب المتحكمين بتلك ألأموال الله ، والذي يعيش حالة مزرية الفقر والعوز ...
وأنا أدعوا مثقفي الأمة وعلمائها الأعلام الذين يدركون أكثر من غيرهم خطورة هذا الأمر أن يتحركوا بكل قوة ، لإيجاد صيغة عصرية تنسجم والتحول الكبير الذي حصل في العراق ، فمن غير المعقول أن يكون التحكم بأموال الطائفة وهي أموال كبيرة بوحي من اجتهاد شخصي أو نزعات فردية تحكمها في الغالب أهواء ورغبات ، لابد من نقل هذه المسؤولية الخطيرة الى الأمة ومحاولة الضغط على أصحاب العلاقة من أجل تشكيل لجان وهيئات يكون فيها الرأي الجماعي هو الحاكم ، وخاصة أن الحاجة أصبحت ملحة للتفكير في مستقبل الطائفة بشكل جدي ومعاصر للإرتقاء بها الى المستوى الذي بلغته الأمم والطوائف الأخرى ، والأهم في الأمر أن أغلب الذين يمتلكون قرار التصرف في أموال الطائفة لديهم صلاحيات مفتوحة لا حدود لها في الصرف والتحكم بأموال الفقراء والمساكين وبالصدقات والخيرات ، وليس ثمة ضوابط معينة أو تعليمات ما تدعوهم عند الصرف الرجوع إلى المرجعية الدينية أو أي طرف شرعي آخر في الأمة ، وهذا أمر في غاية الغرابة ، إذ أن الطوائف في كل العالم لها مجالس اقتصادية ولجان حسابات وهيئات مراقبة تشرف على الصرف في المشاريع الإنسانية والثقافية وغيرها وتمنع أي تجاوز أو اختلاس من الجماعات أو الأفراد ، لكن ذلك وللأسف غير موجود لدى المرجعية ، بل أن الكثير من الوكلاء لايمتلكون عقولا متنورة وليس لديهم أي تصور لما يحصل حولهم ، ومازالت تحكمهم أطر عقلية متخلفة ومتحجرة ، حتى أن أحدهم ( وهو من وكلاء المرجعية في أوربا ) قدمت له رسالة لدعم ( إقامة مؤتمر ومعرض للمقابر الجماعية في لندن ) يهدف الى إيصال مظلومية الطائفة للعالم وإخراجها من قمقم العراق ، وفضح جرائم النظام البعثي السابق بحق الطائفة أمام المجتمع البريطاني ، فتعامل هذا الوكيل مع الفكرة بازدراء ، ودفعا للإحراج كتب صكا بمبلغ تافه ودفعه لمن يتصدى للمشروع قائلا ً : ياحبذا لو تصرف هذا المبلغ على الجياع في العراق !!! طبعا ، رفض الساعي في المشروع المبلغ ، وحاول أن يفهمه أهمية ذلك العمل ، فوجده جاهلا تماما بما يحيط بمثل هذه الأعمال وأهميتها في هذا العصر ففضل الإنسحاب وعدم ضياع الوقت ..........*
في حديث للمرحوم العلامة السيد عبد الزهرة الخطيب - رحمه الله – نقل له أحد الفضلاء أنه في النصف الأول من القرن الماضي وفي إحدى الليالي ، زار أحد المراجع الكبار في النجف الأشرف، فوجده دون عشاء في تلك الليلة ، ولمَّا سأله عن السبب قال له ذلك العالم الجليل : لا أملك ما أشتري به طعام الليلة .. ثم بادر: ألا تعلم محسنا يهدي للعلويات ثمن طعام الليلة فقد يبيتن بلا عشاء .... واضاف المتحدث أنه كان الى جنب ذلك العالم الجليل ( قاصة ) مليئة بالحقوق الشرعية لكنه ما كان ليجرء على أخذ شيء منها خشية وخوفا من الله حتى وإن كان المبلغ شيئا يسيرا يسد به رمقه ورمق بناته العلويات .. وكان العلامة الكبير والفيلسوف الإمام الشهير السيد محمد حسين الطباطبائي ، يرفض وحتى آخر يوم من حياته أن يأكل من سهم الإمام أو الحقوق الشرعية ، فكان يعيش على ما كان يكسبه من أرضه الزراعية في تبريز ومن عوائد مؤلفاته وريع ما يطبعه ، يقول ولده : كنت أتمنى أن يقبل أبي مني شيئا من المال ، فأضع أحيانا بين يديه قبضة من الأوراق النقدية وأصر عليه أن يقبلها أو شيئا يسيرا منها ، فكان يرفض رفضا باتا .. لقد عاش رحمه الله كريما عزيز النفس لم يذله المال حتى كان يقول : لو أعمل بيدي وأحصل على ثلاثة (تومانات) في اليوم أحب ألي من أن اطرق بيوت الآخرين مادَّاً إليهم يدي لحاجة ، بحيث أكون رهينا لأحد ... فعاش رحمه الله رفيع الهمة صادق المروءة أنفا غيور - وقدر المرء على قدر همته وصدقه .. وقدر مروءته وشجاعته على قدر أنفته - وعفته على قدر غيرته ... أما الشهيد الصدر (رض) فقد أبى أن يشتري دارا ، وحين يُعرض عليه ذلك من قبل أحد التجار المؤمنين ، كان يرفض دائما ثم يقول : إذا وهبتموني دارا فسوف أجعلها مدرسة للطلبة .. وكان رحمه الله يدرِّس طلبته في ( مقبرة آل ياسين ) في حرِّ الصيف ولم يكن هناك ( مبردة ) في المقبرة .. ولم يكن يملك مثلها في بيته ، وكان يتحرج من صرف الحقوق الشرعية على نفسه فيعاني الحرمان وشضف العيش ولا يمد يديه الى ما لايملك .. وما كان الشهيد الصدر يعيش حالة الزهد إلا لأنه يؤمن أن من أولويات وواجبات (عالم الدين) أن يعيش بالشكل الذي يكون معه انموذجا يُحتذى به في الوسط الإجتماعي الذي يعيش أغلب أبنائه العوز والحرمان ... وثمة مثل للزهد والأمانة والإعراض عن الدنيا .. إنه الإمام الخميني ( رحمه الله ) فقد كان في وسعه أن يمتلك القصور الفارهة وأمثالها من مغريات هذه الدنيا الفانية ، وقد أصبح قائدا لأكبر ثورة في تاريخنا المعاصر ، لكن نظرته الثاقبة للدنيا وعمق تفكيره في الحياة جعله من الزاهدين ، حتى أنه رفض أن يسكن في قصر شامخ من قصور الشاه وفضل أن يبق في حسينية متواضعة ، يأكل ما يأكل الناس ويتصرف كأنه أحد منهم ، حتى وافته المنية ، وبوصية منه ، طلب ولده المرحوم السيد ( أحمد ) من الشعب الإيراني أن لآ يودع أحد في حسابات الإمام شيئا من الحقوق بعد موته.
أما إمام الزاهدين الإمام علي عليه السلام فقد رسم لنا لوحة رائعة للزهد والزاهدين ، رسمها لعلماء أمته وأولى بهم أن يتحلوا ولو ببعض زهده ويتقمصوا بعض أخلاقه ، فيقول سلام الله عليه : ( ألا وأن إمامكم قد اكتفى من الدنيا بطمريه ، ومن طمعها بقرصيه ... ثم يقول : فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً ، ولا أدخرت من غنائمها وفرا ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا ، ولا حزت من ارضها شبرا ) .. هكذا يكون إمام المسلمين أو بعض هكذا إذا أراد أن يدَّعى الإمامة أو يتصدى مسؤولية الأمة ، فهل اعتبرنا بقول سيدنا ، وهل أخذنا من حياته ما يفيدنا في آخرتنا أم أنا في زمن ( المعروف فيه ما عرفناه والمنكر ما أنكرناه ) فاعتبرنا مايصل إلينا من أموال الله ملكاً لنا وغنيمة اغتنمناها على حق ابتدعناه وفصلناه على مقاس اطماعنا وشهواتنا ، وذريعة تسلحنا بها لصد الناس عن طلب حقها .. فكثرت الشقق الفاخرة والسيارات الفارهة ، .. وهذا أمير المؤمنين نعود إليه لنرى ماذا قال لقاضيه حينما بلغه أنه اشترى دارا بثمانين ديناراً: ( انظر يا شريح لاتكن ابتعت هذه الدار من غير مالك ، أو نقدَّت الثمن من غير حلالك ، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة) .. وأي خسارة تلك التي أشار إليها أمير المؤمنين ، إنها والله خسارة كبيرة لا تعادلها أموال قارون أو ملك الرشيد هارون ...
الإسلام دين الرحمة والكرم ، وقد أقر جوانب الترف المقنن ، والمعقول وهو الى ذلك لم ينه الناس عن التمتع بالحياة ( قل من حرَّم زينة الله ) ، وعلماء الأمة ومتصديها هم أفراد من هذه الأمة لم يميزهم عن باقي المسلمين ، ولم يمنحهم امتيزات إضافية ، وإذا ما توفرت فرصة في أن يكون خازنا على أموالهم ، فلايعني ذلك أن له حرية البذخ والتصرف غير المشروع على نفسه والأقربين ولا حتى إقامة المشاريع التي تستنزف أموال الأمة بلا مشورة من أصحاب الرأي ، حيث يكون مقياس إقامة المشروع الإجتهاد الشخصي أو المصلحة الذاتية ، كما فعل البعض في إقامة مشاريع عملاقة لم تنفع الإسلام ولا المسلمين ، بل لتكون ( ممالك صغيرة ) يشبعون فيها غرائزهم في الظهور بمظاهر دنيوية مقيتة أو يجعلون منها مصائد للتجَّار والمتبرعين وأصحاب الخير، لتزداد أموالهم وماهي في الواقع بإموالهم..
الإسلام لم يترك العالم أو المتصدي بلا حقٍ يقيم فيها أوده فهو من العاملين عليها ، وقد بين ذلك الحق ، ورسم لنا حدوده الإمام علي عليه السلام حين قال لبعض عماله : ( إن لك في هذه الصدقة نصيبا مفرضا ، وحقا معلوما ، وشركاء أهل مسكنة ، وضعفاء ذوي فاقة ، وإنا موفوك حقك ، فوفهم حقوقهم ، وإلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوما يوم القيامة ) ... إذن هذه الأموال هي أموال ذوي الفاقة وأهل المسكنة والضعفاء وهي باختصار شديد أموال الناس ، وليس للوصي عليها ومن أتيحت له فرصة الحيازة ، أن يتصرف بها وبشكل تمليه عليه غرائزه ونوازعه النفسية ، بل ليس له أكثر من ( نصيب مفروض ) لا يحدده هو وإنما يفرضه الإمام في وجوده أو الأمة في غيابه ، من خلال لجان تعمل الأمة على اختيارها من الفضلاء والمؤتمنين وأصحاب الدين والضمير ، .. وقد عمل بذلك الشهيد الصدر الأول( رض ) ، عندما منع وكلائه من قبول أي هدية من أحد ، أو التصرف بالأموال العامة دون مشورة منه ، فكان وكلاؤه على قصر المدة التي عملوا فيها في العراق لهم أثرهم الواضح في المحيط الذي عملوا فيه ، وكان أحدهم انموذجا لعالم الدين الحريص على مصلحة العقيدة والأموال العامة ، والحريص على عاقبته وحسن سمعته ، وكان نتيجة لذلك أن أصبحت لوكلاء الصدر شعبية ومحبة وموقعا متميزا بين الناس.
إن التصرف بأموال الله وهي حق الفقراء والمحرومين ذنب لا يعادله ذنب بل هي ظلم صريح وتجاوز على حقوق الآخرين، وأي جريرة تعادل أكل السحت والحرام .. وقد حذر امير المؤمنين من هذه الجريمة عندما خاطب أحد أولئك الذين يقضمون أموال الله قضما دون حق مشروع : (كيف تسيغ شرابا وطعاما ، وأنت تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما وتبتاع الإماء وتنكح النساء ، من أموال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين؟؟) ... وهكذا ينهى الإمام سلام الله عليه عن التصرف بأموال العامة فهو من مظاهر الكسب غير المشروع من قبل رجال الدين ، وخاصة أولئك الذين يتطاولون على أموال الله وحقوق الفقراء والمساكين .. بل أن الإمام عليه السلام من خلال مقولته التي تعكس مظاهر الزهد والعرض عن الدنيا ومغرياتها ، يريد أن يدلنا على الطبيعة التي يجب أن تكون عليها الشخصية العلمائية ، فهذه الشخصية ترتكز على أسس دينية ، فارتداء جبة الإسلام واعتبار المرء نفسه من أهل العلم والخوض في غمار العقيدة وطرح النفس في عالم الوعظ والنصيحة ، كل ذلك يعني أن المرء قد اختار طريق الآخرة والزهد في الدنيا ، كما أن ذلك لا يعني ( التصوف ) بمعناها المتعارف وأنما أن يرجح العالم جلَّ اهتمامه وعنايته في الآخرة ويميل إليها عن الدنيا ، فأما أن يسلك هذا الدرب ، أما أن يتعامل مع العقيدة تعاملأ تجاريا ويجعلها وسيلة من وسائل الكسب وجسراً يعبر من خلاله للدنيا ، ويرتدي العباءة الإسلامية طمعا فيها ، فإن ذلك شكل من أشكال النفاق والجشع ، وأولى بمثل هؤلاء أن يرأفوا بحالهم وحال الأمة ، وأن يفتشوا عن طريق أخرى للثراء من خلال التجارة والأعمال المربحة التي اجازها الله لعباده ... فعالم الدين من جنود الله يحارب به الشرك والطمع والجشع وسفينته في كل ذلك (الدين) ، والدين لا يهتم بكثرة العقارات وبناء ( الممالك الصغيرة ) أو الترف وملاحقة التجار في مواسم الحج والعمرة ، وأنما يدعو أهله للزهد والاكتفاء بلقمة الحلال ... إذن هنالك فرق كبير بين أن يكون المرء داعية ومصلحا إسلاميا وبين أن يكون إنسانا من العامة ، فثمة مسؤلية خاصة وواجبات محدودة وأسس معينة يستوجب على الأول أن يعمل بها وأن لا يتجاوز حدودها ويتسلح بكفاءة مرضية ، تؤهله لأن يكون رمزا إسلاميا ، وعالما ربانيا دون غيره من الناس ، وبخلاف ذلك لايكون ثمة فرق بينه وبين تجار المكاتب ، وموظفي الدوائر الرسمية ، بل يصبح عالة على الأمة الإسلامية وظاهرة سلبية تهد من أركانها ، وتخلف نتائج خطيرة من خلال ارتباك علاقة الإنسان بالشريعة ، واتخاذها وسيلة لتحقيق أهدافه المادية أو الإجتماعية أو الدنيوية ....
إن أمر التحكم بأموال العامة من قبل البعض ، لهو ظاهرة خطيرة تعاني منها الأمة وقد انتبه لهذه الظاهرة الكثير من العلماء والمفكرين المخلصين ، فحاول البعض أن يجد لها حلولا ناجعة تصلح أمرها وتقلل من معاناتها ، وخاصة بعد التمادي الكبير والتجاوزات المستمرة الخطيرة من قبل البعض ، فعمدوا الى وضع أطروحات مختلفة لمعاجة هذا الأمر الذي يشكل عمودا فقريا في تطور الأمة أو تخلفها ، وانتشال الأموال العظيمة التي يستحوذ عليها نفر قليل وتسليمها الى اياد امينة من خلال تشكيل هياكل ولجان اقتصادية شرعية ، وكان من أبرز تلك الطروحات مشروع ( المرجعية الرشيدة ) التي كتب عنها الشهيد الأول محمد باقر الصدر رضوان الله عليه ومشروع ( المرجعية الشاملة ) للعلامة السيد فضل اللة ، وكلا المشروعين يعالجان الجانب الإقتصادي وما يتعلق بالأموال العامة معالجة موضوعية يخرجها من التصرف والإجتهاد الشخصي الى تصرف الأمة ، من خلال تشكيل لجان مسؤولة تؤمِّن صرف الحقوق والأموال العامة في مواضعها الشرعية الصحيحة ، وثمة اقتراحات اختصت بالجوانب المالية ، كتشكيل مجلس من بعض العلماء يشرف على الأموال العامة ، من العلماء الذين تحمسوا لمثل هذا لمشروع العلامة السيد عبد الله الغريفي إلا أن هذا المشروع لاقى معارضة شديدة من قبل الوكلاء الذين كانت أو ما زالت لهم وصاية على أموال المسلمين من الحقوق والصدقات وغيرها .
إن العبث في الحقوق الشرعية من قبل البعض ، واعتبار تلك الأموال وكأنها أموال خاصة ، وصرفها في مخارج أغلبها شخصي وذاتي لا يمت الى المصلحة الإسلامية فلا تصل الى مستحقيها الشرعيين من المحرومين والفقراء أو المشروعات التي تفيد الأمة حاضرا ومستقبلاً، أو رميها في مشاريع تنبع الرغبة في إنشائها من المصالح الذاتية والمنافع الشخصية ، لهي أمور في غاية الأهمية والخطورة في هذه المرحلة التي تواجهها أمتنا الإسلامية وشعبنا العراقي المظلوم الذي يدَّعي الإنتساب إليه أغلب المتحكمين بتلك ألأموال الله ، والذي يعيش حالة مزرية الفقر والعوز ...
وأنا أدعوا مثقفي الأمة وعلمائها الأعلام الذين يدركون أكثر من غيرهم خطورة هذا الأمر أن يتحركوا بكل قوة ، لإيجاد صيغة عصرية تنسجم والتحول الكبير الذي حصل في العراق ، فمن غير المعقول أن يكون التحكم بأموال الطائفة وهي أموال كبيرة بوحي من اجتهاد شخصي أو نزعات فردية تحكمها في الغالب أهواء ورغبات ، لابد من نقل هذه المسؤولية الخطيرة الى الأمة ومحاولة الضغط على أصحاب العلاقة من أجل تشكيل لجان وهيئات يكون فيها الرأي الجماعي هو الحاكم ، وخاصة أن الحاجة أصبحت ملحة للتفكير في مستقبل الطائفة بشكل جدي ومعاصر للإرتقاء بها الى المستوى الذي بلغته الأمم والطوائف الأخرى ، والأهم في الأمر أن أغلب الذين يمتلكون قرار التصرف في أموال الطائفة لديهم صلاحيات مفتوحة لا حدود لها في الصرف والتحكم بأموال الفقراء والمساكين وبالصدقات والخيرات ، وليس ثمة ضوابط معينة أو تعليمات ما تدعوهم عند الصرف الرجوع إلى المرجعية الدينية أو أي طرف شرعي آخر في الأمة ، وهذا أمر في غاية الغرابة ، إذ أن الطوائف في كل العالم لها مجالس اقتصادية ولجان حسابات وهيئات مراقبة تشرف على الصرف في المشاريع الإنسانية والثقافية وغيرها وتمنع أي تجاوز أو اختلاس من الجماعات أو الأفراد ، لكن ذلك وللأسف غير موجود لدى المرجعية ، بل أن الكثير من الوكلاء لايمتلكون عقولا متنورة وليس لديهم أي تصور لما يحصل حولهم ، ومازالت تحكمهم أطر عقلية متخلفة ومتحجرة ، حتى أن أحدهم ( وهو من وكلاء المرجعية في أوربا ) قدمت له رسالة لدعم ( إقامة مؤتمر ومعرض للمقابر الجماعية في لندن ) يهدف الى إيصال مظلومية الطائفة للعالم وإخراجها من قمقم العراق ، وفضح جرائم النظام البعثي السابق بحق الطائفة أمام المجتمع البريطاني ، فتعامل هذا الوكيل مع الفكرة بازدراء ، ودفعا للإحراج كتب صكا بمبلغ تافه ودفعه لمن يتصدى للمشروع قائلا ً : ياحبذا لو تصرف هذا المبلغ على الجياع في العراق !!! طبعا ، رفض الساعي في المشروع المبلغ ، وحاول أن يفهمه أهمية ذلك العمل ، فوجده جاهلا تماما بما يحيط بمثل هذه الأعمال وأهميتها في هذا العصر ففضل الإنسحاب وعدم ضياع الوقت ..........*
للحديث بقية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق