العفيف الأخضر
لا وجود لعمل سياسي بدون استراتجيا. ولا معني لأية استراتجيا إذا لم تتوفر الوسائل لتحقيقها. اسمحوا لي أن أتطفل عليكم فأقترح بعض الخطوط العريضة لاستراتجيا قد تكون صالحة لنصرة القضية القبطية، وقضايا الأقليات الأخرى المضطهدة في أرض الإسلام ، والوسائل التي قد تكون كفيلة بتحقيقها.
لكن عليّ أولاً أن أبرر شرعية تدخلي في هذا المؤتمر أنا الذي لست قبطياً ولا مصرياً. وهو تطفل قد يستهجنه في آن معاً بعض الأقباط وبعض المسلمين. شرعية تدخلي استمدها من قناعتي الإنسانية، التي جعلت دائماً الإنسان من لحم ودم مركز اهتمامي وجعلت من الدفاع عن حياته وحريته وكرامته وحقوقه فريضة؛ وأستمدها من قناعتي الأخلاقية التي حكمت ولا تزال فكري وممارستي التي تعتبر البشر كافة متساوين في الحقوق والواجبات كافة سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاُ، آمنوا بهذا الدين أو ذاك أو لم يأخذوا بدين من الأديان. المساواة بين البشر في الحقوق والواجبات خير مطلق، والتمييز بينهم على أساس الإثنية أو اللون أو الجنس أو الدين شر مطلق علينا أن نحاربه باليد، فإن لم نستطع فباللسان، فإن لم نستطع فبالقلب وهو أضعف الإيمان بالقيم الأخلاقية والإنسانية. الخير هو الدفاع عن حقوق الإنسان بما هو إنسان في أن يكون سعيداً، حراً، ومستقلاً يقرر مصيره في حياته اليومية ويختار قيمه بنفسه باستقلال نسبي عن المجتمع. الشر هو سلبه سعادته وحريته واستقلاله وحقه في تقرير مصيره؛ واستمدها من قناعتي بأن الأقليات كانت دائماً ولا تزال حاملة للأفكار التقدمية والقيم الإنسانية والأخلاقية والعقلانية التي بدونها يظل الإنسان ذئباً للإنسان بدلاً من أن يكون له أخاً وصديقاً ورفيقاً. في تاريخ الإسلام لعبت الأقليات خاصة المسيحية دوراً رائداً في الحضارة العربية الإسلامية بل يمكن اعتبار المسيحيين واليهود والأكراد والفرس شركاء في صنع هذه الحضارة. فالمترجمون النصارى هم الذين نقلوا إلى العربية الفكر اليوناني الذي خصب الثقافة العربية الإسلامية بالعقلانية الإغريقية.اسماء مثل يوحنا بن ماسويه، وحنين بن اسحاق ويوحنا بن البطريق ... ارتبطت ببيت الحكمة التي ترجمت الفلسفة والطب إلى العربية، وكانت المعمل الذي صنعت فيه الحضارة العربية الإسلامية . منذ انطوت النخبة الإسلامية على نفسها ابتداء من القرن الثاني عشر وتنكرت للفكر اليوناني وشرعت في إقصاء اليهود والمسيحيين من حظيرتها انحطت تلك الحضارة إلى عداء لغير المسلم وللمرأة وللعقل.
لماذا كانت الأقليات رائدة لكل ما هو تقدمي وإنساني؟ لأنها حساسة للظلم الذي كابدته وما تزال على مر العصور حيث كانت كثيراً وغالباً ضحية لعنصرية الأغلبية التي تدفعها نرجسيتها الجمعية لكراهية المختلف عنها إثنياً ولغوياً ودينياً وتحويله إلى كبش محرقة تحمله شعورياً أو لاشعورياً أخطاءها وخطاياها الجمعية لتنفس فيه بدائيتها وعدوانيتها وساديتها. النرجسية الدينية للأغلبية الكاثوليكية في أوربا القرون الوسطي وللأغلبية المسلمة في أرض الإسلام في القرن الحادى والعشرين أقنعت نفسها بوهم أن دينها هو الدين الحق، الوحيد الطبيعي، أي المتفق مع الفطرة والطبيعة البشرية وما عداه من الأديان مجرد زندقات أو مجرد شرائع منسوخة لا تصلح بحال أن تكون إحدى طرق الخلاص الروحي، أو إحدى جوازات المرور إلى الجنة ...
لعبت الأقلية اليهودية دور كبش المحرقة في تاريخ أوربا حيث كانت الأغلبية الكاثوليكية في العصور الوسطي تحملها مسؤولية كل الكوارث الطبيعية كالجفاف والأوبئة وكذلك مسؤولية التوترات والصراعات داخل الكثلكة، ولعبت الأقلية المسيحية وخاصة القبطية في تاريخ الإسلام ذات الدور حيث كانت تتعرض للإضطهاد كلما حلت بالمسلمين الشدائد والأزمات.أو تعرضوا لغزو خارجي أو كلما شاء ذلك ذلك المتعصبون كما هو اليوم.
انطلاقاً من هذه القناعات دافعت ولا أزال عن الأقليات في أرض الإسلام: دافعت عن الأقلية الكردية في كل من العراق وتركيا وإيران. الصديق المفكر الكردي فاضل رسول أقام عندي ثلاثة أيام للتشاور في شروط المصالحة التي سيعرضها زعيم أكراد إيران قاسملو على المفاوضين الإيرانيين في فيينا سنة 1989 ، وفعلاً سافرا مع الرئيس بن بلا للقاء الوفد الإيراني. وفي اللقاء الثاني طلبوا من الرئيس بن بلا عدم حضور جلسة النقاش وما إن حضر رسول وقاسملو حتى بادرهما الإرهابي أحمدي نجاد رئيس كوماندوس القتلة بالأمس، رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم، بالرصاص. ودافعت عن الأقليات المسيحية في المشرق العربي وعلى الأقلية الشيعية المضطهدة في السعودية وعلى الأقلية السنية المضطهدة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الدفاع عن أقليات العالم العربي والإسلامي من يهود ومسيحيين وأكراد وشيعة وأمازيغ وزيديين وصابئة ... ليس ضرورياً لإنصاف هذه الأقليات وحسب بل وأيضاً ضروري بنفس المقدار للأغلبية المسلمة نفسها التي بإبقائها الأقليات محرومة من حقوقها التي اعترفت لها بها المواثيق والقوانين الدولية تبقي هي نفسها سجينة القدامة والتخلف والهمجية ومحرومة من الارتقاء إلى مصاف الشعوب الحديثة التي تتميز خاصة بدرجة معقولة من احترام حقوق أقلياتها، ويبقي هذه الأغلبية نفسها محرومة من المواطنة الحديثة التي تتنافي مع التمييز الديني أو الاثني أو الجنسي أو اللغوي ... ويبقيها أخيراً واقفة في قفص الاتهام أمام الرأي العام العالمي الذي هو اليوم القوة الكبرى الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة.
الاستراتجيا التي أقترحها على مؤتمركم من فراش مرضي الذي أقعدني عن شرف الحضور بينكم هي مجرد اقتراح أقصى مناه هو أن يدعو سامعه أو قارئه إلى أن يفكر في ما لم يفكر فيه بعد.
1- النضال بكافة الوسائل المشروعة وغير العنيفة في سبيل المواطنة الحديثة التي تساوي بين المسلم وغير المسلم، وبين الرجل والمرأة في حقوق المواطنة وواجباتها كافة. هذه المواطنة لن تتحقق إلا بالفصل في القوانين والدساتير والمؤسسات والإعلام والتعليم بين المؤمن والمواطن. المؤمن هو المؤمن بدين ما لا يعطيه حقوقاً سياسية أو مدنية ولا يحرمه منها. أما المواطن فهو المتمتع بجميع حقوق المواطنة والملتزم بجميع واجباتها.تاريخياً لم يقع هذا الفصل بين المؤمن والمواطن إلا في أنظمة الحكم العلمانية التي فصلت بيد الدين والسياسة، وبين الدين والبحث العلمي، وبين الدين والإبداع الأدبي والفني.
2- الإعلام جامعة بلا جدران يصنع الرأي العام الديمقراطي إذا كان حديثاً . أما إذا كان مشبعاً بفقه القرون الوسطي الإسلامي التمييزي. فإنه يغسل أدمغة جمهوره. من هنا ضرورة تطهيره من عداء المرأة والأقليات ومن كل هجوم على معتقداتهم وسخرية من رموزهم الدينية كما تفعل بعض الصحف اليوم بالتطاول الوقح على قداسة البابا شنوده الثالث مباشرة أو مختفية وراء بعض الأقباط المصابين بالحقد على الذات.
3- إصلاح التعليم والتعليم الديني بتطهيره من كل تمييز ضد المرأة وغير المسلمين ومن كل تحريض عليهم، حظر تدريس كتاب "عهد عمر" العنصري أو بما هو أدق العهد المنسوب لعمر والذي بين المؤرخ المصري د. عباده عبد الرحمن كحيلة في كتابه "عهد عمر : قراءة جديدة"أن لا علاقة لعمر بهذا العهد. والحجج التاريخية التي قدمها مقنعة. منها أن العهد مليء بالتناقضات فهو " صادر عن المغلوب وليس عن الغالب والمعروف تاريخياً أن الغالب هو الذي يملي شروطه على المغلوب، أما في عهد عمر فالمغلوب هو الذي أملي على نفسه عهداً في منتهي القسوة والإذلال. وهذا المغلوب هو مرة نصارى الشام (...) ومرة نصارى الشام ومصر". كما يقول د. كحيلة مضيفاً بأن هذا العهد لم يذكره كبار مؤرخي الإسلام كالواقدي والبلاذري والطبري ... وأقدم كتابين ظهر فيهما العهد هما المحليّ لأبن حزم (ت سنة 456هـ)، وكتاب "السنن الكبير" للبيهقي (ت سنة 458 هـ)... أي بعد أكثر من أربعة قرون من الكتابة المفترضة لهذا العهد الرهيب الذي قام عليه فقه الذمة في الإسلام والذي مازال يدرسه النشء حتى الآن في جميع بلدان العالم الإسلامي باستثناء تونس، يتساءل د. كحيلة عن المسؤول عن انتحال عهد عمر، ويجيب عن ذلك بأنهم بعض الفقهاء الذين انتحلوه في عهد التوتر والنزاع بين المسلمين وأهل الذمة، مضيفاً لم يصبح العهد متداولاً إلا في بداية القرن السادس الهجري "بعد الهجمة الصليبية والتتارية وتورط بعض الذميين في الهجمتين" كما يقول د. كحيلة.
هذا العهد مازال يدرسه مليون ونصف تلميذ في ثانويات الأزهر ، مثلاً في كتاب "الروض المربع بشرح زاد المستنقع"الذي ألفه الفقيه الحنبلي منصور البهوتي. منذ أربعة قرون و مازال الأزهر يغسل بأحكامه المسبقة ضد المرأة والعبد وغير المسلم وأهل الكتاب أدمغة مئات آلاف المراهقين. يقول هذا الكتاب في "باب عقد الذمة وأحكامها":"الذمة لغة العهد والضمان والأمان، ومعني عقد الذمة إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة، والأصل فيها قوله تعالي "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (...) وهي مال يؤخذ على وجه الصغار كل عام بدلاً من قتلهم وإقامتهم بدارنا [أي دار الإسلام] بما أن الأقباط لم يعودوا يعطون الجزية فقتلهم إذن مباح كما يوحي الكتاب. ثم يفصل الكتاب لتلامذة الأزهر الشروط الظالمة على أهل الذمة، اليهود والمسيحيين، الواردة في العهد المنسوب لعمر :"ويلزم الإمام أخذ أهل الذمة بحكم الإسلام في ضمان النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه كالزنا (...) لأن عقد الذمة لا يصح إلا بالتزام أحكام الإٌسلام (...) ويلزمهم التمييز عن المسلمين بالقبور بأن لا يدفنوا في مقابرنا، وحلق مقدم رؤوسهم لا كعادة الأشراف ولدخول حمامنا بجلجل أو خاتم رصاص برقابهم ولهم ركوب غير الخيل كالحمير بغير سرج (...) لما روي "الخلال" أن عمر أمر بجز نواصي أهل الجزيرة أن يشدوا المناطق (...) ولا يجوز تصديرهم في المجالس ولا القيام لهم ولا بدؤهم بالسلام أو بكيف أصبحت أو أمسيت أو حالك، ولا تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم وشهادة أعيادهم لحديث أبي هريرة مرفوعاً "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها" قال الترمذي في حديث حسن صحيح:"ويمنعون من إحداث كنائس وبيع [كنائس اليهود] ومجتمع للصلاة في دارنا ومن بناء ما تهدم منها ولو ظلماً لما روي عن كثير بن مرة قال سمعت عمر بن الخطاب يقول قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا تبنى الكنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها. ويمنعون أيضاً من تعلية بنيان على مسلم ولو رضي هو بذلك، يقول عليه السلام : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ..." إلى آخر الشروط التي جاءت في العهد المنسوب إلى عمر والتي تشكل في بداية الألفية الثالثة وصفة مثالية لاضطهاد المسيحيين أو لاندلاع حروب دينية.
لاحظوا "ويمنعون احداث الكنائس... ومن بناء ما تهدم منعا" الذي مازال الأقباط يعانون منه الأمرين.
هذا التعليم الديني العنصري مصدر للحقد والتحريض على اضطهاد المسيحيين . وهو المسؤول الأول عن تكوين أمثال مصطفي مشهور المرشد السابق للإخوان المسلمين الذي طالب بطرد الأقباط من الجيش والإدارة وتطبق فقه الذمة عليهم، وعن تكوين الأساتذة الذين يعطون درجات ضعيفة في الامتحانات للطلبة الأقباط بسبب أسمائهم المسيحية لاسقاطهم أو منعهم من النجاح بتفوق ، أو المسؤولين الذين يمنعونهم من دراسة الطب النسائي حتى لا يكشفوا عن جسد المرأة المسلمة أو يسقطوهم في الامتحانات، أو الإداريين الذين اقصوا الأقباط من الوظائف السامة ، أو القتلة الذين احرقوا الكنائس وقتلوا الأقباط في الكشح وغيره.
للأسف حتى الآن لم أقرأ اعتراضاً قبطياً واحداً على تدريس هذا الكتاب الذي يحرض على اضطهادهم وقتلهم والحال أن بإمكانهم تقديم دعوى قضائية لمنعه!.
4-باستثناء المؤسسة المدرسية التونسية لا يدرس النشء المسلم حقوق الإنسان والحال أن تدريسها ضروري لفتح الوعي الإسلامي المعاصر على المواطنة الحديثة التي تساوى بين الرجل والمرأة والمسلم وغير المسلم بينما يعتبر الإسلام التقليدي والسياسي التفاوت بينهم تفاوتاً جوهرانياً، أي غير قابل للتغيير. بينما الانتقال من الدولة الدينية إلى الدولة المدنية ومن الحكومة التسلطية إلى الحكومة الديمقراطية لا سبيل إليه إلا بإقرار هذه المساواة التي تشكل شرطاً شارطاً لدخول الحداثة السياسية، أي الديمقراطية وحقوق الإنسان. مطلب الديمقراطية الذي هو اليوم على كل شفة ولسان لا معني له طالما لم تتمتع المرأة وغير المسلم بالمواطنة الكاملة بما فيها حقهما في أن يكونا ناخبين ومنتخبين لجميع المؤسسات دون استثناء وفي مقدمتها رئاسة الدولة، وحفهما في اختيار شريك الحياة دون تضييق، أي حق غير المسلم في الزواج من المسلمة وحق المسلم في الزواج من غير المسلمات.
5- ضرورة تدريس حوار الأديان : يدرس تلاميذ وطلبة التعليم الديني في أرض الإسلام باستثناء تونس النرجسية الدينية التي تلقنهم بأن الإسلام هو الدين الوحيد الصحيح. جميع الأنبياء منذ إبراهيم كانوا مسلمين ولم يكونوا يهوداً ولا نصارى بل آمنوا بالإسلام قبل ظهوره بقرون ! وبأن الديانتين اليهودية والمسيحية ليستا ديانتين بل هما مجرد شريعتين نسختهما الشريعة الإسلامية ولم تعودا بعد ظهور الإسلام طريقين ممكنين للخلاص الروحي للمؤمنين بهما. فقد غدا الإسلام "الدين الحق" هو طريق الخلاص الوحيد. ومن هنا فلا معني لحوار الأديان لأنه بكل بساطة لا توجد أديان غير دين الإسلام. وهكذا صرح الرئيس السابق للجنة الفتوى بالأزهر سنة 2001 "لا معني لحوار الأديان إلا إذا كان دعوة بابا الفاتيكان إلى اعتناق الإسلام". تدريس حوار الأديان هو الكفيل بإخراج الإسلام المعاصر من نرجسيته وانطوائه على نفسه ليغدو ديناً من الأديان ولا يعود ديناً ناسخاً لجميع الأديان .
6- النضال من أجل أن يتمتع الأقباط بجميع حقوقهم الدينية والمدنية المنصوص عليها في المواثيق الدولية والقانون الدولي.
7- وقف نزيف هجرة الأقباط ومسيحي الشرق وأقلياته الدينية والاثنية. نشرت اليومية الفرنسية "لومند" هذه السنة ملفاً عن مسيحي العالم العربي وتركيا وإيران جاء فيه أن هؤلاء المسيحيين يتناقصون بشكل خطير بسبب الهجرة. أسباب الهجرة في مقدمتها ، كما تقول اليومية الفرنسية، صعود الإسلام السياسي الذي سجل على أجندته غير المعلنة "التطهير الديني" لأرض الإسلام من غير المسلمين للقضاء ، أو على الأقل إضعاف ، التعددية الديني الثقافية. ربع مسيحي العراق هاجروا بعد 1991 فراراً من جنون صدام الدموي وأثار الحصار المدمرة. وإذا أضفنا من هاجروا قبل هذا التاريخ يكون عدد المهاجرين ، كما تقول الصحيفة، ثلثي مسيحي العراق. كان مسيحو سوريا سنة 1950 مليونين ونصف، لم يبق منهم اليوم إلا مليون ومائتي ألف نسمة. في لبنان كان المسيحيون يشكلون 60% من السكان، أما اليوم فنسبتهم هي 35%. كان الأقباط ، دائما كما تقول الصحيفة، سنة 1950 يشكلون 15% من السكان أما اليوم فلم يعودوا يشكلون إلا 10% من السكان بسبب نزيف الهجرة إلى أمريكا واستراليا ونيوزيلاندا . أما الإخوان المسلمون، كما تلاحظ اليومية الفرنسية، فإنهم يخفضون نسبة الأقباط إلى 5% فقط كتبرير لهضم حقوقهم. يقول مراسل اليومية الفرنسية "ليبراسيون" أن نصف المسيحيين الفلسطينيين هاجروا خلال الانتفاضة الثانية فراراً من اضطهاد حماس لهم الذي كانت تفرض عليهم الجزية لتمويل عملياتها الانتحارية. يتضح من هذه الوقائع أن الإسلام السياسي هو العدو الأول للمسيحيين وعلى هؤلاء أن يستخلصوا من ذلك جميع النتائج الضرورية. وعليهم أن يكونوا خلايا تفكير من المسيحيين والمسلمين المستنيرين والأقليات الأخرى في كل بلد وعلى مستوى الشرق الأوسط كله للبحث عن حلول عملية لوقف نزيف هجرة الأقليات ومحاولة إعادة من هاجروا أو على الأقل إشراكهم في نضال مواطنيهم ضد الإضطهاد الذي يكابدونه. هجرة المسيحيين تضعفهم كمياً ونوعياً وتفقد المسلمين العلمانيين والمستنيرين حلفاءهم في عملية تحديث مجتمعاتهم التقليدية.
ما هي الوسائل الملائمة لتحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية ؟
1- النخب الحاملة لمشروع مجتمع حديث والأقليات الفعالة هي الصانع للتاريخ. شاع في الدراسات التاريخية أن الثورة الفرنسية كانت من صنع الشعب. لكن الدراسات المعمقة في العقود الأخيرة أثبتت أن النخب الواعية بأهدافها ووسائل تحقيقها هي التي صنعتها. فما هي الأقليات الفعالة والنخب الحاملة لمشروع تحديث البلدان العربية والإسلامية التي يستطيع الأقباط وغيرهم من الأقليات التحالف معها لتحقيق أهدافهم الاستراتيجية؟ هي جميع الأقليات التي لها مصلحة موضوعية في الانتقال إلى الحداثة، أي للمؤسسات والقيم الإنسانية والعلوم الحديثة، والمرأة التي يعتبرها فقه القرون الوسطي الإسلامي والقوانين والدساتير المتأثرة به "ناقصة عقل في الولاية" [= الحكم] و"ناقصة دين في العبادة"، ونصف رجل في الشهادة والميراث ، وصفر- رجل في حقوق المواطنة، والمسلمون المستنيرون الواعون بضرورة إعطاء غير المسلمين وجميع الأقليات الأخرى والمرأة حقوقهم الدينية والمدنية. هذه هي أهم القوى المؤهلة لتشكيل جبهة عريضة لتحديث كل بلد مسلم. لكن دروس التاريخ المعاصر تعلمنا أن الحداثة غدت بالأحرى خارجية المنشأ. وهكذا فإن قوى التحديث الداخلية وحدها لم تعد كافية لإنجاح مشروع الحداثة بوتيرة تسارع التاريخ المعاصر. من هنا ضرورة التحالف مع قوى التحديث الخارجية التي هي المجتمع المدني العالمي الذي تشكله أساساً منظمات حقوق الإنسان وجمعيات المجتمع المدني ، والإعلام العالمي الذي يصنع الرأي العام العالمي الذي يمثل، في عصر ثورة الاتصالات، قوة عالمية ضاربة تنهار أمامها كل مقاومة يائسة وأخيراً الدبلوماسية الدولية التي غدت عبر الضغوط الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية وأحياناً العسكرية وعقوبات مجلس الأمن شبحاً يؤرق أنصار الطغيان والجمود والتخلف في العالم الإسلامي والعالم.
2- خروج النخبة القبطية من سلبيتها ، السلبية تقليد قديم لدى الأقباط الذين كابدوا اضطهاد جميع المحتلين من الرومان إلى العرب. خلال فترة الاحتلال الروماني، التي كانت سلسلة متواصلة من الاضطهاد بلغ ذروته مع الإمبراطور الروماني دسيوس ( 251- 249) الذي كان يرغم الأقباط على الردة عن المسيحية واعتناق الوثنية. كانت المقاومة يائسة لذلك لاذ الأقباط بالصحراء وأديرتها قراراً بدينهم. بعد الفتح العربي تعرض الأقباط لاضطهاد متواصل لم تنقطع حلقته إلا لفترة قصيرة في ظل الدولة الطولونية ( 868- 905) بعد أن استقلت بمصر عن الخلافة العباسية التي كانت، منذ عهد عثمان بن عفان، تعتبر الأقباط بقرة حلوباً.
أضم صوتي إلى صوت: يوسف سيدهم و مجدي خليل و عادل جندي و وليم الميري و عماد سمير عوض في دعوتهم النخبة القبطية للخروج من سلبيتها والمشاركة بكثافة في الحياة السياسية المصرية لتغيير موازين القوي لصالح أنصار الحداثة وتمكين المسيحيين والنساء وجميع الأقليات الأخرى حقوقها المدنية والدينية. وزن الأقباط الانتخابي هو حوالي خمسة ملايين ناخب كما قال الأستاذ مجدي خليل وهكذا يمثلون قوة انتخابية هائلة كفيلة في السنوات القادمة، عندما تتعاظم الشفافية الانتخابية، بتغيير ميزان القوة على نحو مشهود.
3- في عهد ثورة الاتصالات لا تستطيع أية مجموعة بشرية مضطهدة أن تستجير بالرأي العام الوطني والعالمي إلا بالاستخدام الكثيف لوسائل الاتصال المعاصرة وفي مقدمتها الانترنت والتلفزيون . بإمكان الموسرين الأقباط أن يمولوا ، إضافة إلى المواقع العشرة الحالية، عشرات المواقع الأخرى بالعربية والانجليزية والفرنسية والأسبانية للمطالبة بحقوقهم وبإمكانهم إنشاء تليفزيون علماني لتوعية الرأي العام في مصر وفي العالم العربي وفي العالم بحقوقهم المشروعة وحقوق جميع الأقليات الأخرى والنساء الذين يعانون مثلهم من هضم الحقوق. هذه المطالب لن تتحقق إلا بتحديث المجتمع المصري كله.
الاتجاه التاريخي العام هو التقدم المتسارع إلى الحداثة بما هي مساواة بين جميع الناس مهما كان دينهم أو عرفهم أو لونهم أو لغتهم. الاتجاه المضاد لهذا الاتجاه التاريخي هو النكوص إلى "الخلافة الراشدة" ، أي إلى الحكم الشخصي وإلى حرمان المرأة وغير المسلم وغير العربي من حقوق المواطنة . منطق الحقبة يقول بأن هذا الاتجاه المضاد لا مستقبل له.
المقال هو مداخلة في مؤتمر "المواطنة" الذي يقيمه أقباط مصر في واشنطن أيام 18،17،19 من نوفمبر
لا وجود لعمل سياسي بدون استراتجيا. ولا معني لأية استراتجيا إذا لم تتوفر الوسائل لتحقيقها. اسمحوا لي أن أتطفل عليكم فأقترح بعض الخطوط العريضة لاستراتجيا قد تكون صالحة لنصرة القضية القبطية، وقضايا الأقليات الأخرى المضطهدة في أرض الإسلام ، والوسائل التي قد تكون كفيلة بتحقيقها.
لكن عليّ أولاً أن أبرر شرعية تدخلي في هذا المؤتمر أنا الذي لست قبطياً ولا مصرياً. وهو تطفل قد يستهجنه في آن معاً بعض الأقباط وبعض المسلمين. شرعية تدخلي استمدها من قناعتي الإنسانية، التي جعلت دائماً الإنسان من لحم ودم مركز اهتمامي وجعلت من الدفاع عن حياته وحريته وكرامته وحقوقه فريضة؛ وأستمدها من قناعتي الأخلاقية التي حكمت ولا تزال فكري وممارستي التي تعتبر البشر كافة متساوين في الحقوق والواجبات كافة سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاُ، آمنوا بهذا الدين أو ذاك أو لم يأخذوا بدين من الأديان. المساواة بين البشر في الحقوق والواجبات خير مطلق، والتمييز بينهم على أساس الإثنية أو اللون أو الجنس أو الدين شر مطلق علينا أن نحاربه باليد، فإن لم نستطع فباللسان، فإن لم نستطع فبالقلب وهو أضعف الإيمان بالقيم الأخلاقية والإنسانية. الخير هو الدفاع عن حقوق الإنسان بما هو إنسان في أن يكون سعيداً، حراً، ومستقلاً يقرر مصيره في حياته اليومية ويختار قيمه بنفسه باستقلال نسبي عن المجتمع. الشر هو سلبه سعادته وحريته واستقلاله وحقه في تقرير مصيره؛ واستمدها من قناعتي بأن الأقليات كانت دائماً ولا تزال حاملة للأفكار التقدمية والقيم الإنسانية والأخلاقية والعقلانية التي بدونها يظل الإنسان ذئباً للإنسان بدلاً من أن يكون له أخاً وصديقاً ورفيقاً. في تاريخ الإسلام لعبت الأقليات خاصة المسيحية دوراً رائداً في الحضارة العربية الإسلامية بل يمكن اعتبار المسيحيين واليهود والأكراد والفرس شركاء في صنع هذه الحضارة. فالمترجمون النصارى هم الذين نقلوا إلى العربية الفكر اليوناني الذي خصب الثقافة العربية الإسلامية بالعقلانية الإغريقية.اسماء مثل يوحنا بن ماسويه، وحنين بن اسحاق ويوحنا بن البطريق ... ارتبطت ببيت الحكمة التي ترجمت الفلسفة والطب إلى العربية، وكانت المعمل الذي صنعت فيه الحضارة العربية الإسلامية . منذ انطوت النخبة الإسلامية على نفسها ابتداء من القرن الثاني عشر وتنكرت للفكر اليوناني وشرعت في إقصاء اليهود والمسيحيين من حظيرتها انحطت تلك الحضارة إلى عداء لغير المسلم وللمرأة وللعقل.
لماذا كانت الأقليات رائدة لكل ما هو تقدمي وإنساني؟ لأنها حساسة للظلم الذي كابدته وما تزال على مر العصور حيث كانت كثيراً وغالباً ضحية لعنصرية الأغلبية التي تدفعها نرجسيتها الجمعية لكراهية المختلف عنها إثنياً ولغوياً ودينياً وتحويله إلى كبش محرقة تحمله شعورياً أو لاشعورياً أخطاءها وخطاياها الجمعية لتنفس فيه بدائيتها وعدوانيتها وساديتها. النرجسية الدينية للأغلبية الكاثوليكية في أوربا القرون الوسطي وللأغلبية المسلمة في أرض الإسلام في القرن الحادى والعشرين أقنعت نفسها بوهم أن دينها هو الدين الحق، الوحيد الطبيعي، أي المتفق مع الفطرة والطبيعة البشرية وما عداه من الأديان مجرد زندقات أو مجرد شرائع منسوخة لا تصلح بحال أن تكون إحدى طرق الخلاص الروحي، أو إحدى جوازات المرور إلى الجنة ...
لعبت الأقلية اليهودية دور كبش المحرقة في تاريخ أوربا حيث كانت الأغلبية الكاثوليكية في العصور الوسطي تحملها مسؤولية كل الكوارث الطبيعية كالجفاف والأوبئة وكذلك مسؤولية التوترات والصراعات داخل الكثلكة، ولعبت الأقلية المسيحية وخاصة القبطية في تاريخ الإسلام ذات الدور حيث كانت تتعرض للإضطهاد كلما حلت بالمسلمين الشدائد والأزمات.أو تعرضوا لغزو خارجي أو كلما شاء ذلك ذلك المتعصبون كما هو اليوم.
انطلاقاً من هذه القناعات دافعت ولا أزال عن الأقليات في أرض الإسلام: دافعت عن الأقلية الكردية في كل من العراق وتركيا وإيران. الصديق المفكر الكردي فاضل رسول أقام عندي ثلاثة أيام للتشاور في شروط المصالحة التي سيعرضها زعيم أكراد إيران قاسملو على المفاوضين الإيرانيين في فيينا سنة 1989 ، وفعلاً سافرا مع الرئيس بن بلا للقاء الوفد الإيراني. وفي اللقاء الثاني طلبوا من الرئيس بن بلا عدم حضور جلسة النقاش وما إن حضر رسول وقاسملو حتى بادرهما الإرهابي أحمدي نجاد رئيس كوماندوس القتلة بالأمس، رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم، بالرصاص. ودافعت عن الأقليات المسيحية في المشرق العربي وعلى الأقلية الشيعية المضطهدة في السعودية وعلى الأقلية السنية المضطهدة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الدفاع عن أقليات العالم العربي والإسلامي من يهود ومسيحيين وأكراد وشيعة وأمازيغ وزيديين وصابئة ... ليس ضرورياً لإنصاف هذه الأقليات وحسب بل وأيضاً ضروري بنفس المقدار للأغلبية المسلمة نفسها التي بإبقائها الأقليات محرومة من حقوقها التي اعترفت لها بها المواثيق والقوانين الدولية تبقي هي نفسها سجينة القدامة والتخلف والهمجية ومحرومة من الارتقاء إلى مصاف الشعوب الحديثة التي تتميز خاصة بدرجة معقولة من احترام حقوق أقلياتها، ويبقي هذه الأغلبية نفسها محرومة من المواطنة الحديثة التي تتنافي مع التمييز الديني أو الاثني أو الجنسي أو اللغوي ... ويبقيها أخيراً واقفة في قفص الاتهام أمام الرأي العام العالمي الذي هو اليوم القوة الكبرى الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة.
الاستراتجيا التي أقترحها على مؤتمركم من فراش مرضي الذي أقعدني عن شرف الحضور بينكم هي مجرد اقتراح أقصى مناه هو أن يدعو سامعه أو قارئه إلى أن يفكر في ما لم يفكر فيه بعد.
1- النضال بكافة الوسائل المشروعة وغير العنيفة في سبيل المواطنة الحديثة التي تساوي بين المسلم وغير المسلم، وبين الرجل والمرأة في حقوق المواطنة وواجباتها كافة. هذه المواطنة لن تتحقق إلا بالفصل في القوانين والدساتير والمؤسسات والإعلام والتعليم بين المؤمن والمواطن. المؤمن هو المؤمن بدين ما لا يعطيه حقوقاً سياسية أو مدنية ولا يحرمه منها. أما المواطن فهو المتمتع بجميع حقوق المواطنة والملتزم بجميع واجباتها.تاريخياً لم يقع هذا الفصل بين المؤمن والمواطن إلا في أنظمة الحكم العلمانية التي فصلت بيد الدين والسياسة، وبين الدين والبحث العلمي، وبين الدين والإبداع الأدبي والفني.
2- الإعلام جامعة بلا جدران يصنع الرأي العام الديمقراطي إذا كان حديثاً . أما إذا كان مشبعاً بفقه القرون الوسطي الإسلامي التمييزي. فإنه يغسل أدمغة جمهوره. من هنا ضرورة تطهيره من عداء المرأة والأقليات ومن كل هجوم على معتقداتهم وسخرية من رموزهم الدينية كما تفعل بعض الصحف اليوم بالتطاول الوقح على قداسة البابا شنوده الثالث مباشرة أو مختفية وراء بعض الأقباط المصابين بالحقد على الذات.
3- إصلاح التعليم والتعليم الديني بتطهيره من كل تمييز ضد المرأة وغير المسلمين ومن كل تحريض عليهم، حظر تدريس كتاب "عهد عمر" العنصري أو بما هو أدق العهد المنسوب لعمر والذي بين المؤرخ المصري د. عباده عبد الرحمن كحيلة في كتابه "عهد عمر : قراءة جديدة"أن لا علاقة لعمر بهذا العهد. والحجج التاريخية التي قدمها مقنعة. منها أن العهد مليء بالتناقضات فهو " صادر عن المغلوب وليس عن الغالب والمعروف تاريخياً أن الغالب هو الذي يملي شروطه على المغلوب، أما في عهد عمر فالمغلوب هو الذي أملي على نفسه عهداً في منتهي القسوة والإذلال. وهذا المغلوب هو مرة نصارى الشام (...) ومرة نصارى الشام ومصر". كما يقول د. كحيلة مضيفاً بأن هذا العهد لم يذكره كبار مؤرخي الإسلام كالواقدي والبلاذري والطبري ... وأقدم كتابين ظهر فيهما العهد هما المحليّ لأبن حزم (ت سنة 456هـ)، وكتاب "السنن الكبير" للبيهقي (ت سنة 458 هـ)... أي بعد أكثر من أربعة قرون من الكتابة المفترضة لهذا العهد الرهيب الذي قام عليه فقه الذمة في الإسلام والذي مازال يدرسه النشء حتى الآن في جميع بلدان العالم الإسلامي باستثناء تونس، يتساءل د. كحيلة عن المسؤول عن انتحال عهد عمر، ويجيب عن ذلك بأنهم بعض الفقهاء الذين انتحلوه في عهد التوتر والنزاع بين المسلمين وأهل الذمة، مضيفاً لم يصبح العهد متداولاً إلا في بداية القرن السادس الهجري "بعد الهجمة الصليبية والتتارية وتورط بعض الذميين في الهجمتين" كما يقول د. كحيلة.
هذا العهد مازال يدرسه مليون ونصف تلميذ في ثانويات الأزهر ، مثلاً في كتاب "الروض المربع بشرح زاد المستنقع"الذي ألفه الفقيه الحنبلي منصور البهوتي. منذ أربعة قرون و مازال الأزهر يغسل بأحكامه المسبقة ضد المرأة والعبد وغير المسلم وأهل الكتاب أدمغة مئات آلاف المراهقين. يقول هذا الكتاب في "باب عقد الذمة وأحكامها":"الذمة لغة العهد والضمان والأمان، ومعني عقد الذمة إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة، والأصل فيها قوله تعالي "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (...) وهي مال يؤخذ على وجه الصغار كل عام بدلاً من قتلهم وإقامتهم بدارنا [أي دار الإسلام] بما أن الأقباط لم يعودوا يعطون الجزية فقتلهم إذن مباح كما يوحي الكتاب. ثم يفصل الكتاب لتلامذة الأزهر الشروط الظالمة على أهل الذمة، اليهود والمسيحيين، الواردة في العهد المنسوب لعمر :"ويلزم الإمام أخذ أهل الذمة بحكم الإسلام في ضمان النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه كالزنا (...) لأن عقد الذمة لا يصح إلا بالتزام أحكام الإٌسلام (...) ويلزمهم التمييز عن المسلمين بالقبور بأن لا يدفنوا في مقابرنا، وحلق مقدم رؤوسهم لا كعادة الأشراف ولدخول حمامنا بجلجل أو خاتم رصاص برقابهم ولهم ركوب غير الخيل كالحمير بغير سرج (...) لما روي "الخلال" أن عمر أمر بجز نواصي أهل الجزيرة أن يشدوا المناطق (...) ولا يجوز تصديرهم في المجالس ولا القيام لهم ولا بدؤهم بالسلام أو بكيف أصبحت أو أمسيت أو حالك، ولا تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم وشهادة أعيادهم لحديث أبي هريرة مرفوعاً "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها" قال الترمذي في حديث حسن صحيح:"ويمنعون من إحداث كنائس وبيع [كنائس اليهود] ومجتمع للصلاة في دارنا ومن بناء ما تهدم منها ولو ظلماً لما روي عن كثير بن مرة قال سمعت عمر بن الخطاب يقول قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا تبنى الكنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها. ويمنعون أيضاً من تعلية بنيان على مسلم ولو رضي هو بذلك، يقول عليه السلام : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ..." إلى آخر الشروط التي جاءت في العهد المنسوب إلى عمر والتي تشكل في بداية الألفية الثالثة وصفة مثالية لاضطهاد المسيحيين أو لاندلاع حروب دينية.
لاحظوا "ويمنعون احداث الكنائس... ومن بناء ما تهدم منعا" الذي مازال الأقباط يعانون منه الأمرين.
هذا التعليم الديني العنصري مصدر للحقد والتحريض على اضطهاد المسيحيين . وهو المسؤول الأول عن تكوين أمثال مصطفي مشهور المرشد السابق للإخوان المسلمين الذي طالب بطرد الأقباط من الجيش والإدارة وتطبق فقه الذمة عليهم، وعن تكوين الأساتذة الذين يعطون درجات ضعيفة في الامتحانات للطلبة الأقباط بسبب أسمائهم المسيحية لاسقاطهم أو منعهم من النجاح بتفوق ، أو المسؤولين الذين يمنعونهم من دراسة الطب النسائي حتى لا يكشفوا عن جسد المرأة المسلمة أو يسقطوهم في الامتحانات، أو الإداريين الذين اقصوا الأقباط من الوظائف السامة ، أو القتلة الذين احرقوا الكنائس وقتلوا الأقباط في الكشح وغيره.
للأسف حتى الآن لم أقرأ اعتراضاً قبطياً واحداً على تدريس هذا الكتاب الذي يحرض على اضطهادهم وقتلهم والحال أن بإمكانهم تقديم دعوى قضائية لمنعه!.
4-باستثناء المؤسسة المدرسية التونسية لا يدرس النشء المسلم حقوق الإنسان والحال أن تدريسها ضروري لفتح الوعي الإسلامي المعاصر على المواطنة الحديثة التي تساوى بين الرجل والمرأة والمسلم وغير المسلم بينما يعتبر الإسلام التقليدي والسياسي التفاوت بينهم تفاوتاً جوهرانياً، أي غير قابل للتغيير. بينما الانتقال من الدولة الدينية إلى الدولة المدنية ومن الحكومة التسلطية إلى الحكومة الديمقراطية لا سبيل إليه إلا بإقرار هذه المساواة التي تشكل شرطاً شارطاً لدخول الحداثة السياسية، أي الديمقراطية وحقوق الإنسان. مطلب الديمقراطية الذي هو اليوم على كل شفة ولسان لا معني له طالما لم تتمتع المرأة وغير المسلم بالمواطنة الكاملة بما فيها حقهما في أن يكونا ناخبين ومنتخبين لجميع المؤسسات دون استثناء وفي مقدمتها رئاسة الدولة، وحفهما في اختيار شريك الحياة دون تضييق، أي حق غير المسلم في الزواج من المسلمة وحق المسلم في الزواج من غير المسلمات.
5- ضرورة تدريس حوار الأديان : يدرس تلاميذ وطلبة التعليم الديني في أرض الإسلام باستثناء تونس النرجسية الدينية التي تلقنهم بأن الإسلام هو الدين الوحيد الصحيح. جميع الأنبياء منذ إبراهيم كانوا مسلمين ولم يكونوا يهوداً ولا نصارى بل آمنوا بالإسلام قبل ظهوره بقرون ! وبأن الديانتين اليهودية والمسيحية ليستا ديانتين بل هما مجرد شريعتين نسختهما الشريعة الإسلامية ولم تعودا بعد ظهور الإسلام طريقين ممكنين للخلاص الروحي للمؤمنين بهما. فقد غدا الإسلام "الدين الحق" هو طريق الخلاص الوحيد. ومن هنا فلا معني لحوار الأديان لأنه بكل بساطة لا توجد أديان غير دين الإسلام. وهكذا صرح الرئيس السابق للجنة الفتوى بالأزهر سنة 2001 "لا معني لحوار الأديان إلا إذا كان دعوة بابا الفاتيكان إلى اعتناق الإسلام". تدريس حوار الأديان هو الكفيل بإخراج الإسلام المعاصر من نرجسيته وانطوائه على نفسه ليغدو ديناً من الأديان ولا يعود ديناً ناسخاً لجميع الأديان .
6- النضال من أجل أن يتمتع الأقباط بجميع حقوقهم الدينية والمدنية المنصوص عليها في المواثيق الدولية والقانون الدولي.
7- وقف نزيف هجرة الأقباط ومسيحي الشرق وأقلياته الدينية والاثنية. نشرت اليومية الفرنسية "لومند" هذه السنة ملفاً عن مسيحي العالم العربي وتركيا وإيران جاء فيه أن هؤلاء المسيحيين يتناقصون بشكل خطير بسبب الهجرة. أسباب الهجرة في مقدمتها ، كما تقول اليومية الفرنسية، صعود الإسلام السياسي الذي سجل على أجندته غير المعلنة "التطهير الديني" لأرض الإسلام من غير المسلمين للقضاء ، أو على الأقل إضعاف ، التعددية الديني الثقافية. ربع مسيحي العراق هاجروا بعد 1991 فراراً من جنون صدام الدموي وأثار الحصار المدمرة. وإذا أضفنا من هاجروا قبل هذا التاريخ يكون عدد المهاجرين ، كما تقول الصحيفة، ثلثي مسيحي العراق. كان مسيحو سوريا سنة 1950 مليونين ونصف، لم يبق منهم اليوم إلا مليون ومائتي ألف نسمة. في لبنان كان المسيحيون يشكلون 60% من السكان، أما اليوم فنسبتهم هي 35%. كان الأقباط ، دائما كما تقول الصحيفة، سنة 1950 يشكلون 15% من السكان أما اليوم فلم يعودوا يشكلون إلا 10% من السكان بسبب نزيف الهجرة إلى أمريكا واستراليا ونيوزيلاندا . أما الإخوان المسلمون، كما تلاحظ اليومية الفرنسية، فإنهم يخفضون نسبة الأقباط إلى 5% فقط كتبرير لهضم حقوقهم. يقول مراسل اليومية الفرنسية "ليبراسيون" أن نصف المسيحيين الفلسطينيين هاجروا خلال الانتفاضة الثانية فراراً من اضطهاد حماس لهم الذي كانت تفرض عليهم الجزية لتمويل عملياتها الانتحارية. يتضح من هذه الوقائع أن الإسلام السياسي هو العدو الأول للمسيحيين وعلى هؤلاء أن يستخلصوا من ذلك جميع النتائج الضرورية. وعليهم أن يكونوا خلايا تفكير من المسيحيين والمسلمين المستنيرين والأقليات الأخرى في كل بلد وعلى مستوى الشرق الأوسط كله للبحث عن حلول عملية لوقف نزيف هجرة الأقليات ومحاولة إعادة من هاجروا أو على الأقل إشراكهم في نضال مواطنيهم ضد الإضطهاد الذي يكابدونه. هجرة المسيحيين تضعفهم كمياً ونوعياً وتفقد المسلمين العلمانيين والمستنيرين حلفاءهم في عملية تحديث مجتمعاتهم التقليدية.
ما هي الوسائل الملائمة لتحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية ؟
1- النخب الحاملة لمشروع مجتمع حديث والأقليات الفعالة هي الصانع للتاريخ. شاع في الدراسات التاريخية أن الثورة الفرنسية كانت من صنع الشعب. لكن الدراسات المعمقة في العقود الأخيرة أثبتت أن النخب الواعية بأهدافها ووسائل تحقيقها هي التي صنعتها. فما هي الأقليات الفعالة والنخب الحاملة لمشروع تحديث البلدان العربية والإسلامية التي يستطيع الأقباط وغيرهم من الأقليات التحالف معها لتحقيق أهدافهم الاستراتيجية؟ هي جميع الأقليات التي لها مصلحة موضوعية في الانتقال إلى الحداثة، أي للمؤسسات والقيم الإنسانية والعلوم الحديثة، والمرأة التي يعتبرها فقه القرون الوسطي الإسلامي والقوانين والدساتير المتأثرة به "ناقصة عقل في الولاية" [= الحكم] و"ناقصة دين في العبادة"، ونصف رجل في الشهادة والميراث ، وصفر- رجل في حقوق المواطنة، والمسلمون المستنيرون الواعون بضرورة إعطاء غير المسلمين وجميع الأقليات الأخرى والمرأة حقوقهم الدينية والمدنية. هذه هي أهم القوى المؤهلة لتشكيل جبهة عريضة لتحديث كل بلد مسلم. لكن دروس التاريخ المعاصر تعلمنا أن الحداثة غدت بالأحرى خارجية المنشأ. وهكذا فإن قوى التحديث الداخلية وحدها لم تعد كافية لإنجاح مشروع الحداثة بوتيرة تسارع التاريخ المعاصر. من هنا ضرورة التحالف مع قوى التحديث الخارجية التي هي المجتمع المدني العالمي الذي تشكله أساساً منظمات حقوق الإنسان وجمعيات المجتمع المدني ، والإعلام العالمي الذي يصنع الرأي العام العالمي الذي يمثل، في عصر ثورة الاتصالات، قوة عالمية ضاربة تنهار أمامها كل مقاومة يائسة وأخيراً الدبلوماسية الدولية التي غدت عبر الضغوط الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية وأحياناً العسكرية وعقوبات مجلس الأمن شبحاً يؤرق أنصار الطغيان والجمود والتخلف في العالم الإسلامي والعالم.
2- خروج النخبة القبطية من سلبيتها ، السلبية تقليد قديم لدى الأقباط الذين كابدوا اضطهاد جميع المحتلين من الرومان إلى العرب. خلال فترة الاحتلال الروماني، التي كانت سلسلة متواصلة من الاضطهاد بلغ ذروته مع الإمبراطور الروماني دسيوس ( 251- 249) الذي كان يرغم الأقباط على الردة عن المسيحية واعتناق الوثنية. كانت المقاومة يائسة لذلك لاذ الأقباط بالصحراء وأديرتها قراراً بدينهم. بعد الفتح العربي تعرض الأقباط لاضطهاد متواصل لم تنقطع حلقته إلا لفترة قصيرة في ظل الدولة الطولونية ( 868- 905) بعد أن استقلت بمصر عن الخلافة العباسية التي كانت، منذ عهد عثمان بن عفان، تعتبر الأقباط بقرة حلوباً.
أضم صوتي إلى صوت: يوسف سيدهم و مجدي خليل و عادل جندي و وليم الميري و عماد سمير عوض في دعوتهم النخبة القبطية للخروج من سلبيتها والمشاركة بكثافة في الحياة السياسية المصرية لتغيير موازين القوي لصالح أنصار الحداثة وتمكين المسيحيين والنساء وجميع الأقليات الأخرى حقوقها المدنية والدينية. وزن الأقباط الانتخابي هو حوالي خمسة ملايين ناخب كما قال الأستاذ مجدي خليل وهكذا يمثلون قوة انتخابية هائلة كفيلة في السنوات القادمة، عندما تتعاظم الشفافية الانتخابية، بتغيير ميزان القوة على نحو مشهود.
3- في عهد ثورة الاتصالات لا تستطيع أية مجموعة بشرية مضطهدة أن تستجير بالرأي العام الوطني والعالمي إلا بالاستخدام الكثيف لوسائل الاتصال المعاصرة وفي مقدمتها الانترنت والتلفزيون . بإمكان الموسرين الأقباط أن يمولوا ، إضافة إلى المواقع العشرة الحالية، عشرات المواقع الأخرى بالعربية والانجليزية والفرنسية والأسبانية للمطالبة بحقوقهم وبإمكانهم إنشاء تليفزيون علماني لتوعية الرأي العام في مصر وفي العالم العربي وفي العالم بحقوقهم المشروعة وحقوق جميع الأقليات الأخرى والنساء الذين يعانون مثلهم من هضم الحقوق. هذه المطالب لن تتحقق إلا بتحديث المجتمع المصري كله.
الاتجاه التاريخي العام هو التقدم المتسارع إلى الحداثة بما هي مساواة بين جميع الناس مهما كان دينهم أو عرفهم أو لونهم أو لغتهم. الاتجاه المضاد لهذا الاتجاه التاريخي هو النكوص إلى "الخلافة الراشدة" ، أي إلى الحكم الشخصي وإلى حرمان المرأة وغير المسلم وغير العربي من حقوق المواطنة . منطق الحقبة يقول بأن هذا الاتجاه المضاد لا مستقبل له.
المقال هو مداخلة في مؤتمر "المواطنة" الذي يقيمه أقباط مصر في واشنطن أيام 18،17،19 من نوفمبر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق