أ . عيسى الشارقي - جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية
قيل في الاعتراض على مناقشة أعضاء المجالس النيابية للقوانين الشرعية؛ فيما لورفعت إليهم، أن هذا فيه إهانة للشرع المقدس، حينما يكون عرضة للموافقة أو المعارضة من نواب لا يحيطون بالشرع، وليسوا من أهل الاختصاص فيه، بل وقد لا يقدّرون الحكم الشرعي، فيرفضونه جرَّاء اعتقاداتهم (اللادينيةّ!)، ومجانبتهم السلوكية لأحكام الشريعة، وقيل إنّ في هذا تعريضا للشرع للتحريف والانتهاك، وعليه فلا يحق للمجالس النيابية سوى التصديق الشكلي على أحسن رأي من أحسن بهم ظناً، أو أن لا يمر عليهم القانون كلية، عند من ظل متمسكاً بإساءة الظن بهم وبكفاءاتهم في مجال الشريعة، وقدَّم المعارضون اشتراطات احتياطية للأمن على الشريعة من أن تمتد لها يد العبث والتحريف.أما فيما يتعلق بطلب الضمانات، بأن لا يكون قانون الأحوال الشخصية مدنياً، بل يظل شرعياً، فهذا لا يختلف عليه أحد، ذلك أن كل الناس في هذا البلد مسلمون، يرون أن ما عدا الأحكام الشرعية في أحوالهم الشخصية حرام، ولأن الأحكام الشخصية لا مناص منها للناس، وليست كسائر الأحكام، فلايمكن إلاّ التمسك بها في سائر الأحوال، بل ويمكن القول جزما أن (اللادينيّين) أنفسهم، مع أنّ أكثرهم مسلم في الحقيقة، لن يقبلوا الزواج والطلاق والإنجاب، إلا وفقا للشريعة ما داموا في بلاد المسلمين، عقلا منهم لما يمكن أن ينالهم من التحقير، والطعن في شرفهم، وصحة نسبهم، وحرمة الزواج منهم، وحرمة دفنهم، ونجاسة أبدانهم، وغير ذلك مما هم قد عرفوه وذاقوه. ولكن الاختلاف حول نوعية هذه الضمانات أيجب أن تكون دستورية أم مضمنة في القانون نفسه؟ ومرجعيتها، أيجب أن تكون خارجية أم وطنية في ضمن المؤسسات الرسمية والأهلية المحلية؟ ونحن مع الثاني، أولاً لكفايته، ولوجود الكفاءات اللازمة له، ولأنه لا يتغير بتغير المواقف السياسية، فالولاء والمعارضة في الدولة، كلهم لا يريدون أن يتزوجوا أو يطلقوا أو يورثوا، إلاّ على وفق الأحكام الإسلامية، فهذا عند الناس أمر عظيم، ليس المتدينون فيه أشد غيرة من سواهم من عامة الناس، فلا داعي للتشدد والتزمت والتعصب، والتشكيك في صدق دين الناس في هذا المجال أو نوّابهم، فهو مما لا تريد الدولة أصلاً أن يتبدل، وهو بالنسبة لمن يجهر بلا إسلاميّته - وهم ندرة - واقع في دائرة الانتحار السياسي والاجتماعي، أن يطالب أحد منهم بمخالفة الشرع فيه، بل هم أشد الناس خوفاً من الاتهام عند العامة، بإحلال الحرام وهتك الأعراض، مع تأكيدنا على التفريق بين مُبغض الدين وقيَم الإيمان، وبين من يقف ضدّ شرع وأقضية غير عادلة يُحاول أن يفرضها رجال دين متشدّدين فيُصنّف بأنّه لا دينيّ ظلماً (أو علماني)، مع أنّه يعتقد بضرورات الإسلام ومبادئه في الحقيقة. إننا نرى أن القفز بالضمانات إلى أعلى السقف، ناجم عن عدم الرغبة أصلا في التفاهم وعدم الرغبة في التدوين، ولو كان المؤمنون بالإسلام هم أقلية في البلاد لما زادوا في طلب الضمان على ما قد طلبه المعترضون، ولكن ليس هذا هو ما نريد الوقوف عنده هنا.إننا نريد أن نناقش الإدعاء بعدم أهلية المجالس النيابية عامة للتصديق على الأحكام الشرعية، بدعوى عدم الاختصاص، وعدم الأهلية، وتدنيس حرمة المقدس. فأما الإدعاء بأن مناقشة الأحكام في البرلمانات تدنس المقدسات، فهذا القول إنما يريد حصر الحديث في الدين والشرع في رجال الدين وخريجي الحوزات العلمية، وإلاّّ فإن الأحكام الشرعية ليست مقدسة في ذاتها، وإنما نصوصها القرآنية بالدرجة الأولى هي المقدسة، وفرق بين النص وبين الاجتهاد فيه، مهما بدا لنا هذا الاجتهاد نهائياً، فالاجتهاد يظل قابلاً للنظر ولا قدسية له، والحال إن ما سيعرض في المجالس ليس هو النصوص القرآنية، وإنما اجتهادات الفقهاء فيها ببدائلها وخياراتها من أقوالهم، وهذه تحترم ولكن لا تقدس، ولا يعد النقاش فيها انتهاكاً لحرمة المقدسات، بل لا يجوز اعتبارها نصوصاً مقدسة كنصوص القرآن الكريم، والفقهاء أنفسهم لا يعاملونها على أنها مقدسة، فسيرتهم وكتبهم واضحة بأنهم يعتبرون أقوالهم اجتهادات، يردّها بعضهم على بعض، ويخالفون فيها بعضهم بعضا، بل وقد يسفهون أقوالاً لهم بأشد العبارات وأقساها، فهي مهما كانت، اجتهادات قابلة للصواب والخطأ.وأما إذا كان الكلام يريد الإشارة إلى ما يثبت من الدين بالضرورة عند كافة المسلمين من إباحة الزواج وحرمة الزنا، أو أن الورثة هم الأبناء والبنات والأقارب دون البعيدين من الناس، وأمثال ذلك من المسلمات عند سائر المسلمين فإن أمثال هذا خارج النقاش، حتى لو كان المجلس كله من الفقهاء العدول، وعليه فإن ما سيعرض على المجالس ليس مقدساً ولا يُعد النقاش فيه انتهاكاً للمقدس، بل هي أقوال بشرية ثم القول بأن القداسة تقتضي حجب القانون عن النقاش هو أمر لا يصمد للنقاش، فهل طرح النواب الإسلاميين مقترحات إسلامية بديلة لبعض أو كل القوانين التي تعرض على المجالس يعد تعريضاً للمقدس للإهانة؟ أم أنه أمر ضروري ومهم؟ لإدخال البدائل الإسلامية في ساحة النقاش على الأقل، بدل ما هي مؤخرة أو مجهولة، أو ليس هذا هو الخط العملي لكل التيارات الإسلامية في البرلمانات؟ وهل امتنع الله سبحانه عن مناقشة العباد من المشركين والمنافقين والكافرين والجاهلين عبر آياته؟ أو لم يعرض أسماءه الحسنى وآياته البينات للاعتراض والسخرية والاستهزاء حينما خاطبهم بها؟ أو ليس هذا هو الطبيعي في هذه الحياة؟ أولا يلجأ المنكرون للإسلام لنفيه عن ساحات النقاش أحياناً احتيالاً بأنه مقدس فليكن خارج الجدل؟وأما من حيث عدم أهلية المجالس النيابية لمناقشة مسودات القوانين الشرعية، فإن كان الاعتراض قائماً على دعوى عدم الاختصاص، فلعمري إنّ كل النواب في كل العالم لا ينتخبون على أساس أنهم مختصون في التشريع، لا المدني ولا الدستوري ولا الشرعيّ، ولا على أنهم اقتصاديون أو سياسيون أو أطباء محترفون، بل على أنهم من عقلاء الناس وذوو الحل والعقد فيهم وممثّلو صلاح المجتمع، يجتمعون ليتشاوروا في تشخيص مصالح الناس وانتظام أحوالها، ولا يتطلب هذا اختصاصاً محدداً، سوى النزاهة والعقل والقدرة على الموضوعية، وليست القوانين الشرعية وحدها من تحتاج إلى المتخصصين، فالدساتير وسائر القوانين المنظمة يضعها أهل الاختصاص، ثم تعرض على النواب للتصديق على أنها نافعة للناس في هذا الوقت أم غير نافعة، وفي كل القوانين هناك قواعد عامة لا يجوز للنواب مخالفتها أثناء التعديلات، فللفقه الدستوري أصول لا يحق للنواب النص على ما يعارضها، والخبير الدستوري يبين لهم ذلك، ولمناقشة الميزانيات أصول على النواب أن يعملوا بها وهكذا في أكثر الأمور العامة المهمة. وهنا سيكون الخبير هو العالم الديني القانوني المختص سواءً كان هو واضع المسودة أو من يتولى بيانها وشرحها للنواب، ومادام هناك تسالم ونص على وجوب إسلامية هذا التشريع فلو طرح أحد النواب ما يخالف الشريعة فسيرفضه الخبير اعتماداً على ذلك، وهذا أمر يمكن التوثيق له، وقد يقال هنا فما الحاجة إذاً لمناقشة النواب؟إن مناقشة النواب وتصديقهم يمكن النظر إليها من ناحيتين: شكلية وموضوعية فأما الشكلية فانسجاماً مع الدستور (الدساتير) والحياة البرلمانية التي أعطت حق إقرار القوانين لمجالس الشورى، ومخالفة ذلك في القوانين الشرعية، توسعة لباب لازالت الحكومات تتحايل من خلاله لتسريب التشريعات خارج سلطة البرلمان. وأما الموضوعية فذلك أنّ مواد القانون تحتوي على نوعين من الأحكام: أحكام تتعلق بالحلال والحرام، وأخرى تتعلق بمتعلقات عرفية، وفي كلى الجانبين يتمكن النواب من الاختيار والانتقاء، فمع أن ما هو حرام لا يجوز أبداً إباحته وما هو واجب لا يجوز مطلقاً إسقاطه، إلاّ أنه يجوز تقنين ما هو حلال سواءً بالمنع لعلة عارضة ولأجل محدّد، أو بالاشتراط فيه، فالزواج والطلاق هما من القضايا المباحة (حلال) لا هي بالمحرمة ولا بالواجبة عينا، فاتّخاذ الإجراءات التنظيمية لهما لا مانع منها، ما دامت لا تسقط واجباً ولا تحل حراماً، حتى لو منعت حلالاً لعلة مبينة ولأمدٍ مذكور، كأنْ يحدّد سنّ للزواج، وتحدّد شروط معينة مالية أو غيرها، من صحة وسكن وتكافؤ في الأعمار، ويُحدّد سقف أعلى للمهر لظروف اقتصادية واجتماعية، والأمر في هذه النواحي مفتوح لخيارات متنوعة، ستكون فيها أكثر التطويرات والتشريعات وليس في الحرام والواجب منها. ثم إن هناك أمورا عرفية، الناس أعلم فيها من المشرعين أنفسهم، فهناك مفهوم (العضل) مثلاً الناس أقدر من الفقهاء على وضع معاييره والاحتياط من حيله وألاعيبه، وهناك مندوب الكفاءة بين الزوجين، أو تشخيص العيوب المؤذنة بجواز طلب الفصل، وهناك النفقة اللائقة، الناس أقدر على تشخيص المقدار اللائق من النفقة، وهناك مصلحة الصغير، العقلاء وخبراء الاجتماع وأهل الحل والعقد أبصر من غيرهم في وضع شروط التحقق من وجود المصلحة، وقد يقترح النواب نظما محددة للتأكد من حصول المصلحة للصغير، ولا يكتفي بالتخويل للآباء في كل شيء منها، خاصة فيما له أثر بالغ على مستقبل الصغير، وأمثال هذه الأمور كثير، مما يجب تضمينه القانون، وفيه تقع أكثر المشاكل.ثم إن للفقهاء أقوالا متعددة في العديد من مسائل الأحوال الشخصية، والحكم في القضاء أمرٌ خارج عن تقليد المكلفين، فأقوال الفقهاء تقع على مسافة واحدة من حيث إبراء الذمة، ولا قول فيها هو أقرب إلى الله من قول، فلماذا لا يجوز للنواب أن يتبصروا منها ما هو أنفع لزمانهم وحالهم، ولماذا يلزمون بما يراه فئة من رجال الدين دون غيرهم، إلا أن يدّعون بأن الفقهاء في مسائل الأحوال الشخصية على قول واحد،أو أن الناس ملزمة شرعا بما يرونه لهم، سلهم أيهم بذلك زعيم؟هذا إن كان الاعتراض على عدم الاختصاص، وأما إن كان الاعتراض من ناحية عدم أهلية النواب لمناقشة الشرع، لما هم عليه من عدم تدين والتزام، فأولاً إن الخيانة وعدم الشرف موجودة في مختلف أصناف النواب المتدينين وغير المتدينين، والشرفاء والعقلاء بحسب ما هو مشهود موجودون في كل الألوان، وإن من غير المتدينين من هو أصدق في الديمقراطية ومراعاة خيارات الشعب من المتدينين أنفسهم.ويقول الله سبحانه:"إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فبشرهم بعذاب أليم"، تشير الآية إلى صنفين من أصحاب المواقف النبيلة (النبيّين والآمرين بالقسط)، يقفون صفا واحدا قبالة الكفار، والكفّار هنا ليسوا كفّار اعتقاد بمقدار ما هم الذين يحاربون المنطق الحق ويعضلون تغيير الفساد، فليس الكفار هم غير المسلمين كما هو مشتهر، فالعرب قبل الدعوة لم يكونوا كفارا، وإنما كانوا مشركين، ومن لم يحارب الدعوة منهم ليس كافرا وإن لم يسلم، مادام مسالما، فالنبيون وأتباعهم المؤمنون، والحقوقيون من الناس والمصلحون، هم خط واحد في الصراع مع الظلم، ويتعرضون لنفس الحرب من الظالمين، وعلى المؤمنين أن لا يفرقوا بين هذا التعاون بلواحظ أخرى، فيخسروا أنصارا يمكن أن يكونوا أعوانا، خصوصا في مثل العمل البرلماني والتدافع الاجتماعي.(الأمر بالقسط) عقيدة يمكن أن يشترك فيها النبيون وغيرهم من الناس، من غير قيد إضافي على لفظ (الناس)، مسلمين ومتدينين أو غير ذلك، ذلك أن الأمر بالقسط منسجم مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والمفترض أننا سنقدم مسودة للأحوال تأمر بالقسط،إذا كانت منسجمة مع حكم الله، فلنخاطب في النواب غير المتدينين (لو وُجدوا) حبهم المفترض للأمر بالقسط، مبينين لهم جوانب القسط في حكم الله، يعيننا في ذلك أن العقلانيّين والعلمانيين لا يقدسون أحكاما مخصوصة، ولا يلتزمون بأقوال ثابتة في المسائل الشخصية، وإنما يطالبون بمبادئ عامة، يمكن أن تنطبق على كيفيات مختلفة، ويؤمنون بتنوع المواقف التي تمثل العدالة في مختلف الظروف والبيئات،وهم يريدون أن يظهروا لشعوبهم المسلمة، أنهم لم يخرجوا عما يمثل العدل والشرف، وأنهم لا يعادون الدين بالمطلق، وهذا شعور صادق عند بعضهم، أو موقف برجماتي لدى آخرين سيتطلبه الحرص على أصوات الناخبين على الأقل، ولو عرض عليهم القانون فسيصدقون عليه رغبة أو رهبة أو نزاهة لانسجامه مع استوائهم الإنساني، فالضمانة الأقوى لبقاء قوانين الأحوال شرعية، هو إيمان الناس بها واستعدادهم للدفاع عنها.هذا من جهة ومن جهة أخرى عدم وقوف أمثال هذه القوانين عقبة في وجه التنفذ السياسي للمتنفذين، فهي لا تزاحمهم في السيطرة على المال والقرار، مطلبهم الأول والأخير، وإنما هي كالصلاة والصيام، والذين عرف الرؤساء منذ القديم كيف يوظفونها لصالح الدعاية لحكوماتهم، فليطمئن المستغفلون فليس قانون الأحوال عند الحكومات مستهدفا، كما هي مستهدفة الحريات السياسية والأموال العامة والاستحواذ على القرار، بل هي في أسوأ الظنّ ستستخدم للظهور بمظاهر الصلاح والتدين والمحافظة، كما استخدمت منذ الدولة الأموية، فلا حاجة للبس الأكفان، ولا المناداة باسم الحسين الشهيد، فليس على مثل هذا تقتل الحكومات، ومن زعم لهم ذلك، إنما أراد أن يظهر الشجاعة في يوم يعلم أن لا قتل فيه ولا قتال، تعمية عن يوم فرّ فيه من القتال.ثم إن المعتبر في مناقشة المشاريع، إنما هو المتفق العام بين أغلبية النواب، وليس ما يطرحه أحدهم أو بعضهم، ومن البعيد أن يجتمع النواب فيما لو كانوا منتخبين من الناس على أحكام تخالف الإسلام، وهو دينهم ودين من انتخبهم، وعلى الخصوص في مثل الأحوال الشخصية وأحكام الأسرة، ذلك أن هذه القوانين بالغة الحساسية، تمس كل الناس في أعلى قيمهم وخصوصياتهم، وليس من فراغ تركها الاستعمار والأحزاب النابذة للدين في الوطن العربي دون مساس حتى أيام سطوتهم واستبدادهم.ثم إن فساد وانحراف بعض النواب منجبر بالضمانات المذكورة في نفس القانون حول ضرورة عدم منافاته لأحكام الشريعة، بل يمكن القول بأن وجود أصوات كالعلمانيين في مناقشة التشريعات الدينية هو نافع للقانون نفسه، لأنهم أبصر بعيوبه ونواقصه من عيون المؤيدين حيث الأمر كما قال الشاعر: عين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المعايباوهل الشورى إلاّ طلب معايب الآراء، فما المانع من الاستماع لهم والاستفادة مما عندهم؟ فالأحوال الشخصية مشرّع لها في كل بلدان العالم، والمشاكل هي المشاكل لأن الناس هم الناس، فلعلهم قد اكتشفوا من الأدوات والإجراءات أو حتى الأحكام الجديدة ما ينسجم مع شرعنا فما المانع من أخذه ما دام حكمة؟ ثم إنها فرصة لنا لنخرج لهم جمال وعظمة التشريع الإسلامي، وموضوعيته وصلاحه للناس ومرونته، ومن أدبياتنا أننا نقول رحم الله عبدا أهدى إليّ عيوبي.إن (الإسلاميين) يريدون الدخول للبرلمان، بعقلية من يظن أن القول بأن (هذا حكم الله)، هو قول كاف ليسلّم الآخرون، فلا يبذلون الجهد الكافي لإبراز جمال وصحة ما يطرحون، ولا يجدون حاجة في تعزيز المقترح الشرعي، بأدلة موضوعية، أو إثباتات علمية أو إحصائية، وهو عكس الواجب، فنحن لا نريد أن نفرض الحكم فرضا بالأغلبية وفقط، بل أن نكتسب احترام وقناعة الناس ما أمكن، لأنها السبيل الصحيح للطاعة، والطريق السوي لاحترام العقل وكرامة الإنسان، حتى لو كان مؤمنا. ثم إن الديمقراطية هي قائمة على فن التعايش بين المختلفين، ضمن متفق عليه، في حدوده المانعة من اصطدام المكونات الاجتماعية المختلفة، واضطهادها لبعضها البعض، واحترام رأي غير المتدين هو من أصول الديمقراطية، وتسليمه لإيمان الأغلبية هو مقتضى قبوله بها، وفي الحركة المطلبية قبل الناس مشاركة اليسار والعلمانيين والقوميين، وقبل اليسار والعلمانيون العمل مع المتدينين، والقبول يقتضي البحث عن مديماته، لا التنكر اليوم لشركاء الأمس، خاصة وهم لم ينقضوا عهدهم غير المكتوب، في الإقرار بالإسلام دينا وشريعة للمواطنين، الإسلام الذي هو دينُهم أيضاً لو برق صحيحُه.
قيل في الاعتراض على مناقشة أعضاء المجالس النيابية للقوانين الشرعية؛ فيما لورفعت إليهم، أن هذا فيه إهانة للشرع المقدس، حينما يكون عرضة للموافقة أو المعارضة من نواب لا يحيطون بالشرع، وليسوا من أهل الاختصاص فيه، بل وقد لا يقدّرون الحكم الشرعي، فيرفضونه جرَّاء اعتقاداتهم (اللادينيةّ!)، ومجانبتهم السلوكية لأحكام الشريعة، وقيل إنّ في هذا تعريضا للشرع للتحريف والانتهاك، وعليه فلا يحق للمجالس النيابية سوى التصديق الشكلي على أحسن رأي من أحسن بهم ظناً، أو أن لا يمر عليهم القانون كلية، عند من ظل متمسكاً بإساءة الظن بهم وبكفاءاتهم في مجال الشريعة، وقدَّم المعارضون اشتراطات احتياطية للأمن على الشريعة من أن تمتد لها يد العبث والتحريف.أما فيما يتعلق بطلب الضمانات، بأن لا يكون قانون الأحوال الشخصية مدنياً، بل يظل شرعياً، فهذا لا يختلف عليه أحد، ذلك أن كل الناس في هذا البلد مسلمون، يرون أن ما عدا الأحكام الشرعية في أحوالهم الشخصية حرام، ولأن الأحكام الشخصية لا مناص منها للناس، وليست كسائر الأحكام، فلايمكن إلاّ التمسك بها في سائر الأحوال، بل ويمكن القول جزما أن (اللادينيّين) أنفسهم، مع أنّ أكثرهم مسلم في الحقيقة، لن يقبلوا الزواج والطلاق والإنجاب، إلا وفقا للشريعة ما داموا في بلاد المسلمين، عقلا منهم لما يمكن أن ينالهم من التحقير، والطعن في شرفهم، وصحة نسبهم، وحرمة الزواج منهم، وحرمة دفنهم، ونجاسة أبدانهم، وغير ذلك مما هم قد عرفوه وذاقوه. ولكن الاختلاف حول نوعية هذه الضمانات أيجب أن تكون دستورية أم مضمنة في القانون نفسه؟ ومرجعيتها، أيجب أن تكون خارجية أم وطنية في ضمن المؤسسات الرسمية والأهلية المحلية؟ ونحن مع الثاني، أولاً لكفايته، ولوجود الكفاءات اللازمة له، ولأنه لا يتغير بتغير المواقف السياسية، فالولاء والمعارضة في الدولة، كلهم لا يريدون أن يتزوجوا أو يطلقوا أو يورثوا، إلاّ على وفق الأحكام الإسلامية، فهذا عند الناس أمر عظيم، ليس المتدينون فيه أشد غيرة من سواهم من عامة الناس، فلا داعي للتشدد والتزمت والتعصب، والتشكيك في صدق دين الناس في هذا المجال أو نوّابهم، فهو مما لا تريد الدولة أصلاً أن يتبدل، وهو بالنسبة لمن يجهر بلا إسلاميّته - وهم ندرة - واقع في دائرة الانتحار السياسي والاجتماعي، أن يطالب أحد منهم بمخالفة الشرع فيه، بل هم أشد الناس خوفاً من الاتهام عند العامة، بإحلال الحرام وهتك الأعراض، مع تأكيدنا على التفريق بين مُبغض الدين وقيَم الإيمان، وبين من يقف ضدّ شرع وأقضية غير عادلة يُحاول أن يفرضها رجال دين متشدّدين فيُصنّف بأنّه لا دينيّ ظلماً (أو علماني)، مع أنّه يعتقد بضرورات الإسلام ومبادئه في الحقيقة. إننا نرى أن القفز بالضمانات إلى أعلى السقف، ناجم عن عدم الرغبة أصلا في التفاهم وعدم الرغبة في التدوين، ولو كان المؤمنون بالإسلام هم أقلية في البلاد لما زادوا في طلب الضمان على ما قد طلبه المعترضون، ولكن ليس هذا هو ما نريد الوقوف عنده هنا.إننا نريد أن نناقش الإدعاء بعدم أهلية المجالس النيابية عامة للتصديق على الأحكام الشرعية، بدعوى عدم الاختصاص، وعدم الأهلية، وتدنيس حرمة المقدس. فأما الإدعاء بأن مناقشة الأحكام في البرلمانات تدنس المقدسات، فهذا القول إنما يريد حصر الحديث في الدين والشرع في رجال الدين وخريجي الحوزات العلمية، وإلاّّ فإن الأحكام الشرعية ليست مقدسة في ذاتها، وإنما نصوصها القرآنية بالدرجة الأولى هي المقدسة، وفرق بين النص وبين الاجتهاد فيه، مهما بدا لنا هذا الاجتهاد نهائياً، فالاجتهاد يظل قابلاً للنظر ولا قدسية له، والحال إن ما سيعرض في المجالس ليس هو النصوص القرآنية، وإنما اجتهادات الفقهاء فيها ببدائلها وخياراتها من أقوالهم، وهذه تحترم ولكن لا تقدس، ولا يعد النقاش فيها انتهاكاً لحرمة المقدسات، بل لا يجوز اعتبارها نصوصاً مقدسة كنصوص القرآن الكريم، والفقهاء أنفسهم لا يعاملونها على أنها مقدسة، فسيرتهم وكتبهم واضحة بأنهم يعتبرون أقوالهم اجتهادات، يردّها بعضهم على بعض، ويخالفون فيها بعضهم بعضا، بل وقد يسفهون أقوالاً لهم بأشد العبارات وأقساها، فهي مهما كانت، اجتهادات قابلة للصواب والخطأ.وأما إذا كان الكلام يريد الإشارة إلى ما يثبت من الدين بالضرورة عند كافة المسلمين من إباحة الزواج وحرمة الزنا، أو أن الورثة هم الأبناء والبنات والأقارب دون البعيدين من الناس، وأمثال ذلك من المسلمات عند سائر المسلمين فإن أمثال هذا خارج النقاش، حتى لو كان المجلس كله من الفقهاء العدول، وعليه فإن ما سيعرض على المجالس ليس مقدساً ولا يُعد النقاش فيه انتهاكاً للمقدس، بل هي أقوال بشرية ثم القول بأن القداسة تقتضي حجب القانون عن النقاش هو أمر لا يصمد للنقاش، فهل طرح النواب الإسلاميين مقترحات إسلامية بديلة لبعض أو كل القوانين التي تعرض على المجالس يعد تعريضاً للمقدس للإهانة؟ أم أنه أمر ضروري ومهم؟ لإدخال البدائل الإسلامية في ساحة النقاش على الأقل، بدل ما هي مؤخرة أو مجهولة، أو ليس هذا هو الخط العملي لكل التيارات الإسلامية في البرلمانات؟ وهل امتنع الله سبحانه عن مناقشة العباد من المشركين والمنافقين والكافرين والجاهلين عبر آياته؟ أو لم يعرض أسماءه الحسنى وآياته البينات للاعتراض والسخرية والاستهزاء حينما خاطبهم بها؟ أو ليس هذا هو الطبيعي في هذه الحياة؟ أولا يلجأ المنكرون للإسلام لنفيه عن ساحات النقاش أحياناً احتيالاً بأنه مقدس فليكن خارج الجدل؟وأما من حيث عدم أهلية المجالس النيابية لمناقشة مسودات القوانين الشرعية، فإن كان الاعتراض قائماً على دعوى عدم الاختصاص، فلعمري إنّ كل النواب في كل العالم لا ينتخبون على أساس أنهم مختصون في التشريع، لا المدني ولا الدستوري ولا الشرعيّ، ولا على أنهم اقتصاديون أو سياسيون أو أطباء محترفون، بل على أنهم من عقلاء الناس وذوو الحل والعقد فيهم وممثّلو صلاح المجتمع، يجتمعون ليتشاوروا في تشخيص مصالح الناس وانتظام أحوالها، ولا يتطلب هذا اختصاصاً محدداً، سوى النزاهة والعقل والقدرة على الموضوعية، وليست القوانين الشرعية وحدها من تحتاج إلى المتخصصين، فالدساتير وسائر القوانين المنظمة يضعها أهل الاختصاص، ثم تعرض على النواب للتصديق على أنها نافعة للناس في هذا الوقت أم غير نافعة، وفي كل القوانين هناك قواعد عامة لا يجوز للنواب مخالفتها أثناء التعديلات، فللفقه الدستوري أصول لا يحق للنواب النص على ما يعارضها، والخبير الدستوري يبين لهم ذلك، ولمناقشة الميزانيات أصول على النواب أن يعملوا بها وهكذا في أكثر الأمور العامة المهمة. وهنا سيكون الخبير هو العالم الديني القانوني المختص سواءً كان هو واضع المسودة أو من يتولى بيانها وشرحها للنواب، ومادام هناك تسالم ونص على وجوب إسلامية هذا التشريع فلو طرح أحد النواب ما يخالف الشريعة فسيرفضه الخبير اعتماداً على ذلك، وهذا أمر يمكن التوثيق له، وقد يقال هنا فما الحاجة إذاً لمناقشة النواب؟إن مناقشة النواب وتصديقهم يمكن النظر إليها من ناحيتين: شكلية وموضوعية فأما الشكلية فانسجاماً مع الدستور (الدساتير) والحياة البرلمانية التي أعطت حق إقرار القوانين لمجالس الشورى، ومخالفة ذلك في القوانين الشرعية، توسعة لباب لازالت الحكومات تتحايل من خلاله لتسريب التشريعات خارج سلطة البرلمان. وأما الموضوعية فذلك أنّ مواد القانون تحتوي على نوعين من الأحكام: أحكام تتعلق بالحلال والحرام، وأخرى تتعلق بمتعلقات عرفية، وفي كلى الجانبين يتمكن النواب من الاختيار والانتقاء، فمع أن ما هو حرام لا يجوز أبداً إباحته وما هو واجب لا يجوز مطلقاً إسقاطه، إلاّ أنه يجوز تقنين ما هو حلال سواءً بالمنع لعلة عارضة ولأجل محدّد، أو بالاشتراط فيه، فالزواج والطلاق هما من القضايا المباحة (حلال) لا هي بالمحرمة ولا بالواجبة عينا، فاتّخاذ الإجراءات التنظيمية لهما لا مانع منها، ما دامت لا تسقط واجباً ولا تحل حراماً، حتى لو منعت حلالاً لعلة مبينة ولأمدٍ مذكور، كأنْ يحدّد سنّ للزواج، وتحدّد شروط معينة مالية أو غيرها، من صحة وسكن وتكافؤ في الأعمار، ويُحدّد سقف أعلى للمهر لظروف اقتصادية واجتماعية، والأمر في هذه النواحي مفتوح لخيارات متنوعة، ستكون فيها أكثر التطويرات والتشريعات وليس في الحرام والواجب منها. ثم إن هناك أمورا عرفية، الناس أعلم فيها من المشرعين أنفسهم، فهناك مفهوم (العضل) مثلاً الناس أقدر من الفقهاء على وضع معاييره والاحتياط من حيله وألاعيبه، وهناك مندوب الكفاءة بين الزوجين، أو تشخيص العيوب المؤذنة بجواز طلب الفصل، وهناك النفقة اللائقة، الناس أقدر على تشخيص المقدار اللائق من النفقة، وهناك مصلحة الصغير، العقلاء وخبراء الاجتماع وأهل الحل والعقد أبصر من غيرهم في وضع شروط التحقق من وجود المصلحة، وقد يقترح النواب نظما محددة للتأكد من حصول المصلحة للصغير، ولا يكتفي بالتخويل للآباء في كل شيء منها، خاصة فيما له أثر بالغ على مستقبل الصغير، وأمثال هذه الأمور كثير، مما يجب تضمينه القانون، وفيه تقع أكثر المشاكل.ثم إن للفقهاء أقوالا متعددة في العديد من مسائل الأحوال الشخصية، والحكم في القضاء أمرٌ خارج عن تقليد المكلفين، فأقوال الفقهاء تقع على مسافة واحدة من حيث إبراء الذمة، ولا قول فيها هو أقرب إلى الله من قول، فلماذا لا يجوز للنواب أن يتبصروا منها ما هو أنفع لزمانهم وحالهم، ولماذا يلزمون بما يراه فئة من رجال الدين دون غيرهم، إلا أن يدّعون بأن الفقهاء في مسائل الأحوال الشخصية على قول واحد،أو أن الناس ملزمة شرعا بما يرونه لهم، سلهم أيهم بذلك زعيم؟هذا إن كان الاعتراض على عدم الاختصاص، وأما إن كان الاعتراض من ناحية عدم أهلية النواب لمناقشة الشرع، لما هم عليه من عدم تدين والتزام، فأولاً إن الخيانة وعدم الشرف موجودة في مختلف أصناف النواب المتدينين وغير المتدينين، والشرفاء والعقلاء بحسب ما هو مشهود موجودون في كل الألوان، وإن من غير المتدينين من هو أصدق في الديمقراطية ومراعاة خيارات الشعب من المتدينين أنفسهم.ويقول الله سبحانه:"إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فبشرهم بعذاب أليم"، تشير الآية إلى صنفين من أصحاب المواقف النبيلة (النبيّين والآمرين بالقسط)، يقفون صفا واحدا قبالة الكفار، والكفّار هنا ليسوا كفّار اعتقاد بمقدار ما هم الذين يحاربون المنطق الحق ويعضلون تغيير الفساد، فليس الكفار هم غير المسلمين كما هو مشتهر، فالعرب قبل الدعوة لم يكونوا كفارا، وإنما كانوا مشركين، ومن لم يحارب الدعوة منهم ليس كافرا وإن لم يسلم، مادام مسالما، فالنبيون وأتباعهم المؤمنون، والحقوقيون من الناس والمصلحون، هم خط واحد في الصراع مع الظلم، ويتعرضون لنفس الحرب من الظالمين، وعلى المؤمنين أن لا يفرقوا بين هذا التعاون بلواحظ أخرى، فيخسروا أنصارا يمكن أن يكونوا أعوانا، خصوصا في مثل العمل البرلماني والتدافع الاجتماعي.(الأمر بالقسط) عقيدة يمكن أن يشترك فيها النبيون وغيرهم من الناس، من غير قيد إضافي على لفظ (الناس)، مسلمين ومتدينين أو غير ذلك، ذلك أن الأمر بالقسط منسجم مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والمفترض أننا سنقدم مسودة للأحوال تأمر بالقسط،إذا كانت منسجمة مع حكم الله، فلنخاطب في النواب غير المتدينين (لو وُجدوا) حبهم المفترض للأمر بالقسط، مبينين لهم جوانب القسط في حكم الله، يعيننا في ذلك أن العقلانيّين والعلمانيين لا يقدسون أحكاما مخصوصة، ولا يلتزمون بأقوال ثابتة في المسائل الشخصية، وإنما يطالبون بمبادئ عامة، يمكن أن تنطبق على كيفيات مختلفة، ويؤمنون بتنوع المواقف التي تمثل العدالة في مختلف الظروف والبيئات،وهم يريدون أن يظهروا لشعوبهم المسلمة، أنهم لم يخرجوا عما يمثل العدل والشرف، وأنهم لا يعادون الدين بالمطلق، وهذا شعور صادق عند بعضهم، أو موقف برجماتي لدى آخرين سيتطلبه الحرص على أصوات الناخبين على الأقل، ولو عرض عليهم القانون فسيصدقون عليه رغبة أو رهبة أو نزاهة لانسجامه مع استوائهم الإنساني، فالضمانة الأقوى لبقاء قوانين الأحوال شرعية، هو إيمان الناس بها واستعدادهم للدفاع عنها.هذا من جهة ومن جهة أخرى عدم وقوف أمثال هذه القوانين عقبة في وجه التنفذ السياسي للمتنفذين، فهي لا تزاحمهم في السيطرة على المال والقرار، مطلبهم الأول والأخير، وإنما هي كالصلاة والصيام، والذين عرف الرؤساء منذ القديم كيف يوظفونها لصالح الدعاية لحكوماتهم، فليطمئن المستغفلون فليس قانون الأحوال عند الحكومات مستهدفا، كما هي مستهدفة الحريات السياسية والأموال العامة والاستحواذ على القرار، بل هي في أسوأ الظنّ ستستخدم للظهور بمظاهر الصلاح والتدين والمحافظة، كما استخدمت منذ الدولة الأموية، فلا حاجة للبس الأكفان، ولا المناداة باسم الحسين الشهيد، فليس على مثل هذا تقتل الحكومات، ومن زعم لهم ذلك، إنما أراد أن يظهر الشجاعة في يوم يعلم أن لا قتل فيه ولا قتال، تعمية عن يوم فرّ فيه من القتال.ثم إن المعتبر في مناقشة المشاريع، إنما هو المتفق العام بين أغلبية النواب، وليس ما يطرحه أحدهم أو بعضهم، ومن البعيد أن يجتمع النواب فيما لو كانوا منتخبين من الناس على أحكام تخالف الإسلام، وهو دينهم ودين من انتخبهم، وعلى الخصوص في مثل الأحوال الشخصية وأحكام الأسرة، ذلك أن هذه القوانين بالغة الحساسية، تمس كل الناس في أعلى قيمهم وخصوصياتهم، وليس من فراغ تركها الاستعمار والأحزاب النابذة للدين في الوطن العربي دون مساس حتى أيام سطوتهم واستبدادهم.ثم إن فساد وانحراف بعض النواب منجبر بالضمانات المذكورة في نفس القانون حول ضرورة عدم منافاته لأحكام الشريعة، بل يمكن القول بأن وجود أصوات كالعلمانيين في مناقشة التشريعات الدينية هو نافع للقانون نفسه، لأنهم أبصر بعيوبه ونواقصه من عيون المؤيدين حيث الأمر كما قال الشاعر: عين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المعايباوهل الشورى إلاّ طلب معايب الآراء، فما المانع من الاستماع لهم والاستفادة مما عندهم؟ فالأحوال الشخصية مشرّع لها في كل بلدان العالم، والمشاكل هي المشاكل لأن الناس هم الناس، فلعلهم قد اكتشفوا من الأدوات والإجراءات أو حتى الأحكام الجديدة ما ينسجم مع شرعنا فما المانع من أخذه ما دام حكمة؟ ثم إنها فرصة لنا لنخرج لهم جمال وعظمة التشريع الإسلامي، وموضوعيته وصلاحه للناس ومرونته، ومن أدبياتنا أننا نقول رحم الله عبدا أهدى إليّ عيوبي.إن (الإسلاميين) يريدون الدخول للبرلمان، بعقلية من يظن أن القول بأن (هذا حكم الله)، هو قول كاف ليسلّم الآخرون، فلا يبذلون الجهد الكافي لإبراز جمال وصحة ما يطرحون، ولا يجدون حاجة في تعزيز المقترح الشرعي، بأدلة موضوعية، أو إثباتات علمية أو إحصائية، وهو عكس الواجب، فنحن لا نريد أن نفرض الحكم فرضا بالأغلبية وفقط، بل أن نكتسب احترام وقناعة الناس ما أمكن، لأنها السبيل الصحيح للطاعة، والطريق السوي لاحترام العقل وكرامة الإنسان، حتى لو كان مؤمنا. ثم إن الديمقراطية هي قائمة على فن التعايش بين المختلفين، ضمن متفق عليه، في حدوده المانعة من اصطدام المكونات الاجتماعية المختلفة، واضطهادها لبعضها البعض، واحترام رأي غير المتدين هو من أصول الديمقراطية، وتسليمه لإيمان الأغلبية هو مقتضى قبوله بها، وفي الحركة المطلبية قبل الناس مشاركة اليسار والعلمانيين والقوميين، وقبل اليسار والعلمانيون العمل مع المتدينين، والقبول يقتضي البحث عن مديماته، لا التنكر اليوم لشركاء الأمس، خاصة وهم لم ينقضوا عهدهم غير المكتوب، في الإقرار بالإسلام دينا وشريعة للمواطنين، الإسلام الذي هو دينُهم أيضاً لو برق صحيحُه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق