الأحد، يناير 08، 2006

"من كان بلا خطيئة فليرمه بحجر"

جورج كتن
لقي حديث السيد خدام للعربية حول الملف اللبناني والتحقيق في اغتيال الرئيس الحريري, اهتماماً لبنانياً وعالمياً واسعاً لصدوره عن المرجع الثاني في قمة السلطة السورية وتقاطعه مع تقريري لجنة التحقيق الدولية التي تشتبه بضلوع الأجهزة الأمنية السورية في عملية الاغتيال, بالاشتراك مع قادة الأمن اللبناني السابقين.
إلا أن الأكثر أهمية في الحديث برأينا التطرق للأوضاع الداخلية السورية, الذي لم يلق الاهتمام الكافي من المعارضة, التي شارك بعض أطرافها أهل النظام في حفلة الشتائم ضد خدام واتهامه بالفساد، وبأنه ليس وحيداً في ذلك. يمكن فهم حملة أهل النظام للدفاع عن النفس في وجه من يسعى لكشف أوراقهم, لكن حملة المعارضة ليست في التوقيت والاتجاه الصحيح، إذ أن محاكمة الفاسدين غير ممكنة إلا بعد تغيير ديمقراطي يسمح بإنشاء قضاء مستقل، أما حالياً فالفاسد لا يمكن أن يحاكم الفاسد.
الأكثر أهمية في حديث خدام توصيف النظام والنتائج التي توصل إليها بعد تجربة طويلة في الحكم:
"الشعوب المقيدة حريتها محكوم عليها بالتخلف.. الحرية وحدها تطلق كوامن العقل.. الدولة الحديثة لا تبنى إلا على الديمقراطية.. حاجة العرب للديمقراطية عظيمة بقدر حاجتهم إلى النهضة.. والأمة لن تنهض وهي مغيبة ومعطلة.. الشعوب الطليقة هي السباقة في العلم والمعرفة والتنمية..لا نستطيع مواجهة الضغوط الخارجية في ظل التفرد بالسلطة ومصادرة الحرية ومنع العمل السياسي وغياب المؤسسات الدستورية وتسلط أجهزة الأمن وازدياد الفساد.. خوف الحزب من الرأي الآخر هو حكم بالعجز.. على البعثي أن يختار الوطن أولاً وليس النظام.. لا يمكننا العيش في معطيات عصر آخر, عصر الحرب الباردة.. لم يعد بالإمكان حبس المعلومة عن الناس...
يشكل تبني هذه البديهيات نقلة كبيرة بالنسبة للقيادي البعثي السيد خدام، شرحها في محاضر اجتماعات حزبية ومذكرات ودراسات موجهة للنظام, تناولت الحريات والديمقراطية والوضع الاقتصادي وإصلاح الإدارة والعروبة والإسلام والحداثة والوضع الدولي وتطوير فكر الحزب.. والتي لا بد من نشرها للإطلاع عليها لتبين تفاصيل الشعارات العامة التي أطلقها في حديثه. ويمكن العودة لكتابه: "النظام العربي المعاصر- قراءة في الواقع واستشفاف المستقبل", الذي لا نعلم مدى صحة ما وصفه به كاتب في "النهار" بأنه من أهم الكتب التجديدية في الفكر السياسي العربي!!.
يبقى الكثير مما لم يقله خدام بعد، وهو يراجع الخطاب القومي المتوقف عند "الثوابت" القديمة للخمسينيات في الفكر والممارسة، فمن حق أجيال الحاضر والمستقبل أن تطلع على حقائق ووقائع تاريخ سوريا الحديث الذي يعمل خدام لتوثيقه من وجهة نظر ناقدة، تعاكس الفبركة الجارية له في صالح النظام الراهن.
إذا وضعنا مسألة الفساد جانباً, فلا يمكن إنكار حق الحزبي البعثي, خدام أو غيره، بتبديل مفاهيمه بعد المتغيرات العالمية العاصفة لنهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، والتطورات في مجال الأفكار وأنماط الحياة والعولمة وثورة المعلوماتية والاتصالات...إن التشكيك بمصداقية خدام في التغيير، يقطع الطريق على أعداد كبيرة من البعثيين يتطلعون لمراجعة شاملة لمفاهيمهم لملائمتها مع العصر، ليعودوا للوطن وقضاياه المحقة بعد أن كانت أولوياتهم لا تتجاوز إعادة إنتاج النظام، ف"الجدار وحده لا يغير مفاهيمه" حسب المثل الفرنسي الشائع.
الاهتمام بحديث خدام وما سيصدر عنه لاحقاً لا يعني أنه غير قابل للمناقشة, فنحن لا نتفق مثلاً مع ما طرحه حول الفصل بين مرحلة الرئيس الأب والرئيس الابن، حيث الأولى حسب وصفه كانت حركة تصحيحية "انفتحت على مشاركة الشعب وأطلقت حرية الأحزاب...ثم جاءت تراكمات سلبية" !! وهو تجاهل لأن التفرد بالسلطة ومنع الحريات .. سمة عامة للعهدين.
أن ما يتحدث عنه كان سماحاً لأحزاب تابعة للحزب الواحد الحاكم للتواجد الهزيل في النموذج المعروف ب"الجبهة" كغطاء لمصادرة حرية الأحزاب. من المؤكد أن خدام لم ينس الصراع الدموي بين النظام وجماعة الإخوان وما ارتكب خلالها من تجاوزات وفظائع، وخاصة تطبيق القانون 49 الساري في العهدين، وعشرات آلاف المعتقلين, من أحزاب معارضة أخرى, لسنوات طويلة دون محاكمة لمجرد آرائهم السياسية غير المتوافقة مع رأي النظام الأمني.
لا نحتاج للتوسع لإثبات وهمية التمييز بين العهدين في مسألة التفرد والفساد, وربما إن هامش "الحريات" الحالي رغم ضيقه وضآلته أفضل من العهد السابق, الذي يدافع عنه خدام لكونه أحد أركانه الأساسيين, فمن أجل مصداقية أكبر عند عرض مفاهيمه الجديدة عليه القيام بنقد المرحلة السابقة وتحديد سلبياتها بدل الدفاع عنها.
كما أن خدام رغم مطالبته بالديمقراطية وتغيير الدستور.. بحاجة لمزيد من التوضيح لشعاراته العامة، هل تقبل بتداول السلطة وما يعنيه ذلك من إلغاء المادة الثامنة من الدستور؟ وهل تعني انتخاباً رئاسياً يتنافس فيه عدة مرشحين؟ وهل تلغي القوانين والمحاكم الاستثنائية المتعارضة مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ وهل الديمقراطية هي فقط لمواجهة التخلف والمخاطر الخارجية أم أنها حق للإنسان حتى لو تراجع التخلف والمخاطر الخارجية ؟... وأسئلة أخرى كثيرة لم يجب عليها خدام, في انتظار دراساته وتوضيحاته.
وإذا كان خدام قد أشاد بوطنية المعارضة السورية، ودعا للحوار مع كل قوى المجتمع لتعزيز الجبهة الداخلية, دون استثناء الإخوان المسلمين، فكان يجب أن يوضح دوره عندما وضع في الواجهة لتحطيم البراعم الأولى ل"ربيع دمشق", فابتكر مفهوم "الجزأرة" الخاص بالمناسبة.. صحيح أنه لم يكن صاحب القرار بل جزء منه، ويمكن فهم تراجعه عن موقفه الخاطئ هذا، لكننا لم نسمع في حديثه اعترافاً بالخطأ, يعتبر من أهم صفات سياسي يريد أن يكون ديمقراطياً وحداثياً.
كما لم نفهم ما هدف إليه من التمييز بين مفهومي الأمة والقومية, و"أن الأمة العربية لا تعني العرب فقط وإنما كل الناس من عرب وأكراد وتركمان وبربر وآشوريين وغير ذلك..", فماذا عن الحقوق القومية والثقافية لغير العرب؟ وهل تستمر المحاولات الكارثية لصهرهم في العروبة؟
وهل الاشتراكية تعني فقط "زيادة الإنتاج والموارد لرفع مستوى الناس وتحقيق العدالة..." كما ورد في حديثه؟ وهل تطبيقها وارد حالياً؟ وهل يعارض اقتصاد السوق؟ ألا يحتاج هذا الشعار العام للتوضيح أكثر؟ ماذا لو تحدث عن "الاشتراكية" من النموذج البعثي لرأسمالية الدولة البيروقراطية, التي حولت القطاع العام إلى بقرة حلوب للحيتان الكبار, مما أدى لتخريب الاقتصاد وتعويق التنمية والتسبب بمزيد من التخلف.
ننتظر من خدام المزيد من فضح السياسات التي طبقت في العهدين، ومن النقد الذاتي للأخطاء والارتكابات, ومن التوضيح لوسائل الخروج من المآزق والأزمات التي أوقع النظام البلاد فيها.
وننتظر من المعارضة تفهماً أفضل للتغييرات التي يمكن أن تحصل في أوساط النظام, وترك الأبواب مفتوحة لمن يريد الالتحاق بعملية التغيير الديمقراطي السلمي، وعدم الانزلاق لسياسة الإقصاء ووضع الشروط المسبقة..

ليست هناك تعليقات: