الثلاثاء، يناير 17، 2006

جمهورية الخوف... وجمهورية الميثاق

غسان تويني - النهار اللبنانية
إنها "الجمهورية العربية (؟) السورية" التي صار الخوف دستور حياتها والمبدأ الذي به يتجوهر حكمها، فتتعدد أبعاده:
خوف حكمها بعضه من البعض،
وخوفه مجتمعاً مما يمكن ان يظهره التحقيق في اغتيال الرئيس الحريري وبقية الجرائم ضد لبنان،
وخوف المحكومين من الحكام، الذي ينقلب خوفاً للحكام من المحكومين وممن يمكن أن يفرزه المحكومون حاكماً بديلاً عتيداً...
ولأنها "عربية"، صارت الجمهورية الدستورها الخوف تصعّد خوفها عربياً: خوفاً عليها اذا صارت مهددة بالزوال، وخوفاً منها اذا هي تفجّرت عناصرها التكوينيّة فتُفجّر اذذاك سواها (وكأنما الخوف هذا سائل "بترولي" ما سيدبّ في المجتمعات المتاخمة فالأبعد منها، الى ان تعمّ نيرانه العالم العربي بكليته) مما يرتّب، بموجب منطق الخوف هذا اياه على العالم العربي أن يمنعها من الخوف على مصيرها لئلا تصدّره الى جيرانها، الاردن حيناً، فالعراق حيناً آخر، فـ.... فـ... فلبنان في كل حين!!! وصولاً الى التهويل على مصر (الخائفة بدورها من نتائج انتخاباتها كخوفها على وراثية "جمهوريتها الفرعونية")...
والتهويل قد يمتد إطاره كعباءة عربية يمكن أن "تنفلش" على أقطار أخرى، أقرب أو أبعد، واذا ضاقت عروبتها، فالفارسية جاهزة، وفيرة خيوط الخوف فالتخويف وصولاً الى الرعب فـ... الارهاب!
***
من هنا "المبادرة" الفريدة في دبلوماسيتها الابتزازية التي ألقت دمشق بعباءتها على آخر العرب الكبار، ثم هرولت تتكلم، بل تفاوض نيابة عنهم، باسم الخوف طبعاً وشعاراته: حذار ان تتأثر دمشق بـ"المؤامرة الدولية" لتغيير حكمها ونظامها لأنها اذذاك ستفيض (بخوفها) عبر حدودها الأقرب على لبنان الذي لم تشفَ بعد من اخراجها و"نظامها الأمني" خارج حدوده... لبنان "العقوق" الذي ينكر على شقيقته الكبرى جميل تأمين استقراره خلال ثلاثين سنة من الحروب المفتعلة من اسرائيل ولمصلحتها عبر تحويل "الثورة" الفلسطينية التي "استوطنته" بديلاً، وضلّت طريق تحرير وطنها الأصيل، فمضت حائرة مَن تحارب، اللبنانيين أم السوريين الذين دخلوا لبنان لاحتواء تلك الثورة، فوظّفوها في كل ما يصرفها عن هدفها المقدّس بل عن "مقدسيتها" الأزلية... فكانت لهم (أي لعصارة السوريين المعتمدين لنشر "ثقافة الخوف" يميناً ويساراً، وفق تبدّل المحالفات) المافيات حيناً، والعصابات حيناً آخر، وصولاً الى الجيوش المقنّعة الهويات و"المنظمات" المضاربة للشرعية الثورية في كل حين...
وغني عن القول ان العسكر السوري (ولا نقول "السوريين" كي لا نعمّم المسؤولية) لم يخرجوا "صفر الايدي" من لبنان... والثروات الفضائح شواهد، وكذلك "اليلات" الجبلية العاهرة الفخامة، فضلاً عن الاسواق ("الحرة" ولعلها الشيء الوحيد الحر في سوريا!)... وخلّفوا، بديل ذلك، شواهد على اعتمادهم الخوف والتخويف اداة أمن وتأمين، آثار الدماء اللبنانية على جدران البيوت والفنادق المصادرة (والتي انتزعت منها حتى اسلاك الكهرباء ربما للاستعمال في التعذيب) وعلى الأرض السياط وباقي ادوات استخلاص الاعترافات الكاذبة... وكلها من "مبتكرات" ثقافة الخوف التي اقاموها في لبنان مناخاً للحكم بديل الدستور!
***
ويريدون، من "المبادرة الدبلوماسية" اياها، العودة الى لبنان، و"مشكورين" وفق التعبير الذي كانوا يفرضونه على كل بيان سياسي وكل نص!!!
يريدون العودة، وقد استعجلوها عصابات "قاعدة" ربما لابتكار نمط جديد للاغتيالات والتفجيرات، و"فصائل فلسطينية خارج المخيمات" افتضح أمرها من فرط استعجالها العمل انتشاراً في الشوارع وعدواناً على المدنيين، وصولاً الى افتعال التظاهرات التي تعود ببيروت الى زمن التأسيس للحروب التي وصفوها، ايهاماً للتاريخ، بالحروب "الأهلية"!... وكانت كلها، و"الوثائق التاريخية" والمذكرات براهين، من صنع الأحلاف الموضوعية بين الاعداء، بدل حروبهم بعضهم مع البعض!!!
***
وبعد، أما و"المبادرة" قد طويت، نرجو، الى غير رجعة، نتيجة فشلها في اجتياز حدود دستور "الخوف السوري" الى فسحات "التخويف" الدبلوماسي ، فيجدر بنا ان نتحدث، خاتمة، عن الموضوع الذي قلنا ان بواكير هذه المبادرة اوصلتنا اليه، عنينا موضوع "الحرب الاهلية"!
تكون "المبادرة" قد فشلت دبلوماسياً ونجحت لبنانياً اذا هي حوّلت لبنان "جمهورية خوف" أخرى (كي لا نقول "جمهورية خائفة" والفرق ليس بالضرورة شاسعاً، بل العكس).
بادىء ذي بدء، نعترف بأن ليست ثمة، "وصفة" طبية، أو علمية ضد الخوف... بل ثمة دعوات يمكن ان يوجهها واحدنا الى نفسه والآخرين، كأن نقول بعضنا للبعض "لا تخافوا، لن نفعل كذا وكذا مما تخافون"... وهو امر يبقى طوباوياً ما دام محصوراً في الكلام، لا ينتقل الى السلوك الفردي القابل لأن يترجم سلوكاً جماعياً.. وكيفية حصول ذلك هي الاهم.
كيف، اذاً؟
عندنا ان المطلوب هو اولاً وقبل كل شيء ان يبدّل اللبنانيون نظرتهم الى 14 آذار 2005، فلا يعتبرون ما حصل في ذلك اليوم حداً فاصلاً بين فريق وآخر، بحيث يستمر الكلام عن جماعة 14 آذار أو احزاب 14 آذار أو نواب 14 آذار... كأنما ثمة جماعة اخرى وأحزاب أخرى ونواب آخرون لا ينتمون الى 14 آذار، أو كأنما 14 آذار جرى ضدهم وهم تضرروا به ومنه أو يجب ان يخافوه.
فمن هذه الحدود بالذات يمكن ان يندس الخوف الى الجمهورية اللبنانية، فتنشأ فيها جماعتان: جماعة "خوف على 14 آذار" وجماعة "خوف من 14 آذار". واذذاك يمكن ان تنطلق "جمهورية الخوف" السورية لتقول انها هنا لتحمي هذه الجماعة من الاخرى وتنصرها عليها.
***
ما هو الموقف الصحيح؟
يجب ان يشعر اللبنانيون، كل اللبنانيين، بأنهم كلهم "شعب 14 آذار"، فرحون به غير خائفين عليه ولا واجلين. وان 14 آذار حقيقة متمادية، لم تنته في الزمن، مع القرن الماضي، بل هي حيّة معنا في كل واحد منا، وانها هي، لا "الخوف" كظاهرة نفسية سياسية كما هو الحال في سوريا انها هي جوهر دستورنا ووحدتنا، اكثر مما كان "الطائف" قد صار، وأقوى مما كان ميثاقنا الوطني يوم الاستقلال.
بل أكثر: التحدي الكبير ان يصير "14 آذار"، لا ذكراه، بل هو بالذات ككائن حي مستمر ونابض ان يصير 14 آذار ميثاقنا الوطني، لا ينزل أي منا الى الشارع الا باسمه، ولا نحرق دولاب كاوتشوك الا دفاعاً عنه أو نطلق رصاصة الا من منطلقه.
ولا نظن هذا مستحيلاً، لأن هذا كان حال 14آذار في حقيقته المادية والمعنوية، صحيحاً واقعيا لكل من ينظر الى الصورة الآن ويتذكّر ان كل اللبنانيين كانوا هناك حقاً وفعلاً وتلقائياً، وبكل جوارحهم، لم يستقطبهم أحد على حساب أحد، ولم يكلف أحد أحداً نقلهم الى أرض الشهادة في عاصمة الاستقلال وساحة الحرية.
ولم يكن ثمة للخوف موضع في قلب أحد منهم ولا في بصيرته ولا عقله.
ذلك هو الفرق بين الجمهوريتين

ليست هناك تعليقات: