الأحد، يناير 29، 2006

نظرية المكدوس الحمصي

سعاد جروس - شام برس نقلا ً عن الكفاح العربي
بما أن انهماك أهل الشأن في بلدنا منصب كله على إعداد ما استطاعوا من رباطة جأش لتمتين الجبهة الداخلية كداعم أساسي للجبهة الخارجية, نراهم لا يقصرون بحق مواطننا المقهور, دام عزه كلما دام قهره, فيتحفونه بأغان حماسية لاستنهاض روح النخوة العربية: «جبار... جبار, يا وطني جبار, يا شعبي يا صامد في وجه الإعصار» وأغان أخرى إرشادية تعينه على تشغيل عقله بموضوعية كيلا تنطلي عليه دعاية الحرب النفسية: «فيق يا أبو زهدي فيق, بلش يا حبيبي التحقيق» مع كمشة أغاني تفشيش وتنفيس على البيعة: «يا ميلس تقريرك حقو فرنكين وفلس» مع رشة هوارة: «الحاخام خدام»... الخ.وجبة دسمة من أغاني الدعم الملحمي الوطني لشد عضد التصدي مع التحدي, لا ينال منه قرار تافه كرفع أسعار البنزين ولا قرار رفع سعر الاسمنت, إذ لا تضير تلك الإجراءات شعباً جباراً أثبت بالنوم الطويل أنه لا يتأثر لا بقرارات جائرة, ولا بمص الفاسدين لعرقه ودمه, ولا لنهب اللقمة اليتيمة من فمه. وإذا كان مقياس الذكاء في علم النفس القدرة على التأقلم, فلا شك ان شعبنا السوري أذكى شعب في العالم, ناهيك عن كونه ولعقود طويلة كان مثالاً للجبروت, شعاره دائماً وأبداً, يا جبل ما يهزك ريح لا داخلية ولا خارجية, ولا تداعب وعود تحسين المعيشة غرائزه الطبيعية, لأن شعبنا الأبي وحرصاً على كرامته استأصل الغدد المسؤولة عن الشعور بالجوع, وتحول الى جثة تحركها غريزة البقاء على قيد الحياة, فيتناسل في النهار أكثر من الليل, لأن الليل محجوز للفضائيات المنشطة لكل أنواع الدعارة السياسية والثقافية والاجتماعية... لِمَ لا؟ والطريق الذي تشقه أنظمتنا محروس لعبور الديمقراطية الآمنة الى مجتمعاتنا, ديمقراطية الاستهلاك لملء أرصدة الرأسمالية الأليفة بعد ان خلعت عنها وجه التوحش بفضل الأثرياء الجدد. شعبنا دام ظله العالي, عالي الرأس, لا تحركه الأنواء, ثابت كالصخر, وعلى شاكلة الصخر نبت العشب تحته وصار حدائق وغابات, بعدما سلم مفاتيح حياته, لأولياء الأمر, وانصرف لممارسة اليوغا الأزلية؛ رياضته المفضلة. وخشية أن يضمر الشعب من قلة الاستعمال, تقوم حكومتنا الرشيدة زيادة عن اللزوم, بإخضاعه بين الفينة والأخرى لرياضة هز البدن في غرف السونا الحارة, يعقبها دوش مهرجانات خطابية باردة لتسريع الدورة الدموية, هذا من جانب, ومن جانب آخر, للتأكد من أن الشعب ما زال حياً لم يمت بعدُ كمداً وهماً, والأهم قياس قدرته على تحمل مزيد من الضغط.وفي هذه العجالة, لا بد من الإشارة الى الخطأ الفادح الذي يقع فيه مروجو نظرية «كثرة الضغط تؤدي الى الانفجار» بحجة تبرير ثورات الفقراء والمساكين, ورد كيدهم إلى نحرهم, لأنها نظرية خاطئة جملة وتفصيلاً, ما ثبت لحكومتنا ذات الرأي السديد, بعد تطبيق نظرية المكدوس الحمصية على كل ما له علاقة بالضغط والمضغوطين, فبعد سلق الباذنجان نصف سلقة, تمهيداً لعصره عصراً كاملاً, يُملح ويرص فوق بعضه البعض ويلف في شرشف قطني متين, خال من الخروق والاختراق, ثم تكدس فوقه الأوزان الثقيلة بشكل تدريجي تصاعدي يوماً بعد آخر, مع التقليب المستمر لاستبعاد المكدوسات الناتئة والمنهكة من مركز الضغط, يوضع على الهامش. وهكذا حتى تتحول جميع المكدوسات الى رقائق أشبه بمغلفات ورقية, لا تحتوي على ذرة ماء أو دماء, جاهزة للتعبئة, ومن ثم للالتهام... وصحة وعافية على قلبك يا حكومة. وهكذا لا يؤدي الضغط الى الانفجار, وإنما إلى تحويل البلاد والعباد الى «قطرميز» مكدوس حمصي, يطرح للمناقصة في سوق الاقتصاد الاجتماعي. وبالمناسبة, ألم تبشرنا جريدة الثورة بأن رفع سعر «البنزين هو خطوة ­ والخطوة الأسهل في موضوع إعادة النظر بالدعم, مع أن التأكيدات الصادرة عن الحكومة تقول بأن أسلوب رفع الدعم عن المازوت سيكون بطريقة مختلفة». يعني ربما لن تستخدم الحكومة طريقة المكدوس الحمصي, وإنما الضرب على الحديد الحامي لتطويعه الى الأبد.من الأسهل للحكومة محاربة المواطن في لقمة عيشة للحد من التهريب وتوفير المليارات لـ«خزينة الدولة» وليس لجيوب الفاسدين, بدل زيادة عدد معامل الاسمنت وتشغيل قوة العمل العاطلة. ألم نقل أن حكومتنا رشيدة, بل وحنونة جداً الى درجة أنها لا تحبذ تقليب المواجع وسؤال نفسها, ما الذي يضطر مواطننا لبيع مخصصاته من المازوت والمواد التموينية في السوق السوداء؟ وما الذي يجعل شبابنا ينتحرون على دروب التهريب؟ ولماذا ضحايا الجمارك أكثر من ضحايا المهربين؟ ولماذا كلما أرادت رتق وترقيع سياساتها الاقتصادية المتهرئة, تقطع الرقع من عنق المواطن و تنسل الخيط من قلبه؟ لماذا يسايرهم المواطن بالفساد, ليشارك أما بالتحاصص وإما بالصمت؟! اسألوا فقط, اسألوا فالإجابات موجودة وتقلع العين بوضوحها, لا تتجاهلوا الأمر ولا تميعوه بالقول: الفساد موجود في كل مكان. نعم الفساد موجود في كل دول العالم, ومنذ سفر التكوين وتفاحة آدم وملحمة قابيل وهابيل, لكن البشرية تطورت, وكان شرط تطورها وضع قانون يمنع استشراء الفساد, فأين القانون يا حكومتنا؟!خرق الفساد كل خطوط الأمان في البلاد, حتى صار له عقد اجتماعي اقتصادي مرعب ومنحط قاعدته: الدولة تنهب الشعب والشعب ينهب الدولة. ثم يأتي من يذكر الناس بأن التهريب وذهاب ثلث الدعم الى الدول المجاورة, هو الكفر بعينه! بل أحد أشكال الفساد المستشرية والتي لا بد من قمعها وبكافة الوسائل. كلام سبق أن سمعنا مثله من رئيس حكومتنا, والرد الأنسب عليه, رد بضاعته إليه بالقول «حسبنا الله ونعم الوكيل» حتى لو كنا متأكدين أن العناية الإلهية نفضت يدها من مساعدتنا, في معمعة معركة مكافحة الفساد الآتية كما يبشرنا إعلامنا الأغر, وطالما أن «التهريب أحد أشكال الفساد» وليس أحد نتائج الفساد الكثيرة التي أتت على الأخضر واليابس, ولم تترك لمواطننا المدحور أبداً إلا الترنم بأغنية هيفا «بدي عيش€ما فيي عيش€تركوني عيش€ صار الوقت عم يهرب ويروح مني, والأيام تمرق ما تسأل عني, وأنا جن, ويقولولي ما تجني عليك بعد بكير.

ليست هناك تعليقات: