الخميس، نوفمبر 10، 2005

عودة للأحداث الفرنسية.. ليست -ثورة فقراء-!

عزيز الحاج - الحوار المتمدن
كثير جدا يمكن قوله عن هذه الأحداث وتفسيراتها وقد انضم كتاب عرب لمن يفسرون عمليات الشغب المسلح الأخيرة في فرنسا كرد فعل للفقر والبطالة و"التهميش". المفسرون في فرنسا كثيرون نجد معظمهم من اليسار واليسار المتشدد خاصة. صحف بريطانية وأمريكية عديدة راحت هذا المنحى في التفسير، إما عن قناعة سياسية، أو ردا على التشفي الفرنسي بكوارث كاترينا وما أثير من صخب عال عن "الفقر" و"التمييز العنصري ضد السود في أمريكا"، علما بأن من بين معايير الفقر في الولايات المتحدة أن لا تمتلك العائلة سيارة!إن المناطق الباريسية وفي مدن أخرى الملتهبة حاليا، عرفت بانتشار العنف وسيادة قانون عصابات العنف والجريمة طوال التسعينات الماضية. ومع أن الإعلام الفرنسي نادرا، وعلى مدى عقود سنين، ما يشخص أصول الجانحين والمجرمين في هذه المناطق، ويتعمد عدم ذكر الأسماء الأولى لهم، فالمعروف هو أن جمهرة هذه الزمر، هي من أصول شمال إفريقية وأفريقية سوداء ومن أبناء الهجرات الأولى، التي ساهمت في إعادة بناء وتعمير فرنسا بعد الحرب الدولية الثانية. أما سبب الصمت فهو الخوف من الاتهام بالعنصرية، وهو اتهام يشكل بعبعا حقيقيا للفرنسيين منذ أكثر من ثلاثين عاما، نظرا للتاريخ الاستعماري الفرنسي لتلك البلدان. الخوف من تهمة العنصرية ساهم خلال التسعينات في تصاعد موجة العنف، وفي المدارس خاصة في المناطق التي تعرف ب"الصعبة". وقد ذكرت مرة حادث سلسلة سرقات في مقبرة بضاحية معظم سكانها من المغاربيين. على مدى شهور خطفت اثنتا عشرة قطة حية لبيعها للمختبرات وثلاثة أجهزة كومبيوتر مع السجلات. وقد سألت ذات يوم رجل بوليس من شرطة البلدية وهم غير مسلحين عن سبب استمرار السرقات ونبش القبور ونهب المزهريات، فأجاب بالحرف الواحد: " نعرف الجانحين واحدا فواحدا، ولكننا نخشى اتخاذ إجراء ضدهم لكيلا نتهم بالعنصرية". لقد تشربت هذه الأقلية من شباب الهجرة العربية والأفريقية بالدعايات المتكررة عن كونهم مهمشين والتي كان يرددها اليسار ومنظمات حقوق الإنسان ومنظمة ضد العنصرية، حتى اعتقدوا فعلا أنهم مهمشون وراحوا يتصرفون على هذا الأساس. ومن كثرة سماعهم عن العنصرية الفرنسية تحولوا هم لعنصريين ضد الفرنسيين، حتى أن الشبان الجزائريين خلال مباراة كرة القدم بين الفريقين الفرنسي والجزائري في باريس راحوا يصفرون بصخب عندما عزف النشيد الوطني الفرنسي. معظم هؤلاء الشباب مولودون في فرنسا ولكنهم فقدوا هويتهم لأسباب كثيرة سنعود لبعضها لاحقا. نعم إن للبطالة والحرمان دورا يجب الإقرار به، ولكن هذا لا يمكن أن يفسر هذا الحجم من العنف والجريمة الذين تمارسها أقلية من بين أبناء الهجرة المغاربية والأفريقية. هناك بعض أحياء باريسية يكوّن الصينيون والفيتناميون أكثرية عظمى، وهناك حالات أن نجد عدة عائلات فيتنامية تسكن شقة صغيرة مشتركة. ولكن هل سمعنا أن أي عنف ضد الشرطة والممتلكات او عملية إرهاب قام بها مهاجر صيني أو فيتنامي أو برتغالي أو إسباني الموجودين بكثرة. عدد كبير من النساء البرتغاليات يعملن كشغالات في بيوت الآخرين، والبطالة تشمل مليوني شخص بينهم عدد كبير جدا من الفرنسيين، وأبناء هجرة آخرين. وقد اهتمت الحكومات المتعاقبة تدريجيا بتحسين الضواحي التي تقطنها غالبية مهاجرين من بناء الملاعب والمدارس الحديثة والعمارات السكنية ذات الخدمات، ولو زرنا أية دائرة من دوائر العون الاجتماعي والتأمين الصحي المجاني، لوجدنا أن ما لا يقل عن أربعين شخصا على الأقل ينتظرون وغالبيتهم الساحقة من الأفارقة والجزائريين ومغاربيين آخرين. وبلغ من محاولات ترضية المسلمين في فرنسا أن رأينا عددا غير قليل من النواب يلتفون على قانون العلمانية لسنة 1905، الذي يحظر منح أموال من الدولة لجميع أماكن العبادة، فيستقطعون من ميزانية البلديات مبالغ طائلة لبناء الجوامع . والوزير سركوزي الذي هو الشخصية الفرنسية البارزة الوحيدة التي تشكك علنا في ما يدعى بأفضلية النموذج الاجتماعي والاقتصادي الفرنسي، والذي هو من دعاة الحزم التام مع العنف، كان هو نفسه عام 2002 قد دعا لإعادة النظر في قانون 1905 ترضية للاتحادات الإسلامية. ومن حسن الحظ أن فشلت دعوته.طبعا ليس كل شئ على ما يرام، ولا يزال الكثير مما يجب عمله. وقد اتخذت الحكومة الفرنسية اليوم ومع قرارها بتخويل صلاحية إعلان حالة منع التجول سلسلة من التدابير الاجتماعية والمعيشية والتعليمية الهامة.إن المناطق التي التهبت هذه الأيام، كانت، وكما قلنا ملتهبة منذ التسعينات، حتى أن أحياء بكاملها ظلت تحت هيمنة الجانحين والمجرمين، الذين، برغم كونهم أقلية، كانوا يفرضون قانونهم، والشرطة لا تجرؤ على دخول تلك المناطق. وفي 1998 كانت هناك 27 محافظة ملتهبة منها 7 في المنطقة الباريسية وحدها. وقد ساءت الأحوال الأمنية جراء سيادة عقلية "إنها مسؤولية المجتمع" التي روجت لها منابر يسارية كالخضر والاشتراكيين وجريدة لوموند ومجلة نوفيل أوبزرفاتور. كما انتشرت هذه الأطروحة بين نسبة عالية من الباحثات والباحثين الاجتماعيين والمدرسين المنتمين لنقابات اليسار. إن الحكومة الاشتراكية منذ الثمانينات رفعت شعارات" لا للعقوبة في المدرسة ونعم للوقاية والتثقيف"، وقدمت الحكومات المتتالية كثيرا لجذب الشبان المنحرفين، كالسفرات السياحية المجانية، وحملات التثقيف، وبناء الملاعب الرياضية. وفي كل تلك الفترات تنازلت الدولة والقضاء عن مهمات حفظ الأمن تجاه تلك الفئات القليلة، وصارت حالة فقدان الأمن بحيث وصل معها التذمر الشعبي الفرنسي ذروته في بداية القرن الحالي، وانعكس ذلك في الدورة الانتخابية الرئاسية لعام 2002، والتي كاد اليميني المتطرف لوبين ينتزع منصب الرئاسة فيها. وطوال الحملة الانتخابية ظلت أحزاب اليسار تهاجم الذين يطرحون أولوية حفظ أمن المواطنة والمواطن، واتهموا دعاة ذلك بالانحراف نحو الفاشية أو ما يدخل في ذلك، حتى هزمت أحزاب اليسار جميعا هزيمة صاعقة في انتخابات الرئاسة والبرلمان معا. وقد تشكى عدد من المثقفين العلمانيين والمؤمنين بالقيم الجمهورية من عرب وأفارقة فرنسيين من أن أية وسيلة إعلام لا تستجوبهم عن رأيهم في عنف فريق من الشبان وكيفية العلاج، وإنما يستجوب التلفزيون في الغالب الأعم عددا من أولئك الصبية والشبان أنفسهم أو عائلاتهم أو أئمة جوامع. كما يتجاهل الإعلام في الغالب استجواب ضحايا العنف فيما يكثر من مقابلاته مع المعتدين أنفسهم! وقال أفريقي لمؤلف كتاب )حرب الشوارع(: " هم يخشون من أن نقول الحقيقة. لو استجوبوني لأدنت العنف بصراحة وطلبت معاقبة المجرم والجانح وأيا كان أصله وعرقه." وقال آخر:" أنتم الفرنسيين تخافون من اتهامكم بالعنصرية، وهذا الخوف يشلكم عن معالجة القضية."أجل هناك مشاكل بطالة وفقر نسبي في هذه المناطق ولكنها موجودة في المناطق الأخرى أيضا. ولو نظرنا لشحاذي باريس الكثيرين، لما وجدنا بينهم أفريقيا أو عربيا! ولكن معظمهم فرنسيون أو من بلدان أوروبا الشرقية أو غجر. وثمة مئات من معدمي السكن في مواضع عديدة من باريس، ونادرا ما وجدت بينهم جزائريا. ونضيف أن هذا العنف المجاني لو كان بسبب هذه المشاكل، وهي قائمة فعلا، فلماذا طريق العنف؟ لماذا البنادق والقنابل، وحرق سيارات المواطنين بالآلاف، وحرق مدارس وملاعب خصصت لهم هم في مناطق اللهيب؟؟ أليست هناك سبل سلمية وشرعية كثيرة، من وفود ومظاهرات وتحشدات ومذكرات، لاسيما وأن هناك نوابا من اليسار متعاطفين مع المهاجرين أكثر من سواهم؟؟ ترى ماذا يقول المواطن الفرنسي عندما يرى أبناء جيرانه يحرقون سيارته؟ وماذا تقول المئات من عائلات فرنسية وغير فرنسية في تلك المناطق عندما تهدم المدارس وملاعب الأطفال والشباب؟ وترى من يدفع كل ميزانيات العون الاجتماعي والصحي والسكني، التي يحصل عليها أبناء الهجرة وعائلاتهم، التي نجد بينها عائلات من عدد كبير من الأطفال، وحتى رجالا بعدة زوجات [ هم حوالي ربع مليون]، ولكل طفل معونة خاصة؟ من أين هذه الأموال إن لم تكن من عرق الموطنات والمواطنين، الذين يشتغلون ويدفعون الضرائب للدولة؟ ومن سيدفع نفقات إعادة تعمير المدارس والملاعب وبقية المنشآت المحترقة؟ وأي عذر لمراهقين هائجين بلا مسؤولية حين ينزلون ضربا على رجل مسن حتى يفارق الحياة في المستشفى؟إمام جامع باريس المعروف بكونه معتدلا توجه في الأيام الأولى للحكومة نفسها طالبا منها "تقديم كلمة السلام." إمام جامع وحيد فريد قال لهم الحقيقة عارية. قال في الخطبة للمصلين العرب:" نحن هنا نتمتع بحقوق أضعاف ما في بلدان الأصل. تجنبوا العنف وليطلب كل منكم ذلك لسواه." قول جميل حقا.قاضيا سابقا ومؤلفا كتب في جريدة لوموند أمس داعيا لتطبيق نهج محافظ نيويورك السابق تحت شعار "تسامح صفر مع الجريمة مهما كان صغرها." والحكومة الفرنسية ظلت في الأيام الأولى تردد عزمها على فرض القانون ولكنها لم تقدم إلا مؤخرا على اتخاذ إجراءات صارمة كالاعتقال الفوري والمحاكمة المباشرة وثم فرض منع التجول عند الضرورة حيثما رأي المحافظ ورئيس البلدية ذلك ضروريا.ومع هذه الأحداث راحت أسئلة أخرى تطرح عن ما إذا كان هذا التصعيد المنظم للعنف له علاقة ما بقانون منع الحجاب في المدارس العامة، بل وعما إذا كانت هناك أصابع خفية للقاعدة وحتى حزب الله اللبناني، ولبعض الجوامع المعروفة بالتطرف وتجنيد الإرهابيين، وهي جوامع معروفة بأسمائها وموجودة في عدد من أماكن اللهيب؟! وهذه التساؤلات ازدادت مع حوادث حرق السيارات بالجملة في بلجيكا ومع اعتقال 16 إرهابيا إسلاميا في أستراليا في هذه الأيام بالذات. ربما الجواب يأتي قريبا. من يدري!!

ليست هناك تعليقات: