الثلاثاء، نوفمبر 08، 2005

الخوف من التحقيق

سحر بعاصيري - النهار
تقف فرنسا اليوم امام حقيقتين لم يعد في امكانها لا تجاهلهما ولا الالتفاف عليهما ولا التردد في معالجتهما: مشكلتها مع المهاجرين أولا ومشكلتها مع المسلمين.
وأعمال الشغب المتسعة هي في جوهرها تعبيرعن المشكلتين معا، او فلنقل المشكلة المزدوجة، اذ انفجر غضب ابناء الجيل الثاني من المهاجرين من المستعمرات الفرنسية السابقة، العربية والافريقية، وغالبيتهم من المسلمين ويشكلون عمليا سدس الفرنسيين اي نحو عشرة ملايين من اصل 60 مليونا. وانفجر بعد موت شابين منهم.
كانوا ثلاثة شبان عندما لاحظوا ملاحقة افراد من الشرطة لهم، فأصابهم الذعر مما يعنيه سوقهم الى مركز الشرطة والتحقيق معهم. هربوا واختبأوا في محطة فرعية للكهرباء، فصعق التيار اثنين منهم. ومع انتشار الخبر انتشر الشغب.
لكن اتساع اعمال الشغب يظهر ان "الخوف من التحقيق" يتجاوز التجربة المادية الى ما تختزنه هذه العبارة من كبت يعانيه هؤلاء الشبان ومن قهر وحرمان. هم يقولون انهم يحتجون على تهميشهم اجتماعيا واقتصاديا وعلى السياسات العنصرية والاستفزازية حيالهم. والواقع انهم يعيشون في الضواحي الفقيرة جدا، في معازل اسمها رسميا "مناطق حساسة" عددها 750، يزيد معدل البطالة فيها عن 20%. وقد فشلت الحكومات الفرنسية المتعاقبة منذ اكثر من عقدين في استيعابهم ودمجهم الفعلي في المجتمع.
وهذا ليس جديدا. فالرئيس فرنسوا ميتران تساءل يوم كان رئيسا عام 1990 عن اي امل يرجوه هؤلاء وهم محاطون بكل ما يصنع "حياة رمادية" وبمجتمع ليس مستعدا للنظر اليهم الا وقت اطفاء الحرائق. والرئيس جاك شيراك نفسه تحدث عام 1995 عن مجتمع لا يشعر نصفه بالحماية وقال "اننا تحت رحمة انفجار اجتماعي". ويوم انتخب رئيسا اول مرة وعد بتضييق الشرخ الاجتماعي ويوم اعيد انتخابه وعد بازالة اي شعور لدى الفرنسيين بعدم الامان.
ولكن لا يبدو ان شيئا جديا تحقق. بل ان الحكومة الحالية متهمة بالتراجع اذ يقول منتقدوها انها خفضت موازنة السنة 310 ملايين أورو مخصصة اصلا للضواحي الاكثر فقرا. ووزير الداخلية نيكولا ساركوزي متهم باستفزاز سكان هذه الضواحي بمواقف احتقارية كان اهمها تكراره القول انه يجب تنظيفها بالخراطيم واستخدامه اوصافا للشبان مثل "الاوباش". والى هذا وذاك اضيفت بعض المواقف من المسلمين وممارساتهم الدينية لم تصب لدى المهاجرين المكبوتين في خانة علمانية الدولة بقدر ما ضاعفت الكبت، واضيف تزايد المشاعر المعادية للمهاجرين في فرنسا عموما.
هو هذا الخليط من كبت المهاجرين وعجز الحكومات يصنع ما تشهده فرنسا اليوم. والخطأ كل الخطأ محاولة اختصاره، كما يفعل البعض في فرنسا، بانه ارهاب منظم، او بانه من عمل عصابات اجرام يقودها تجار مخدرات واسلاميون متطرفون. فوجود مثل هؤلاء الاشخاص ممن سيستغلون الظرف امر طبيعي، لكن اتساع الشغب اقرب الى ان يكون انفجار بركان. والخطأ كل الخطأ ايضا ان يصار الى استغلال الاحداث سياسيا للمعركة الرئاسية المقبلة في 2007 حيث المتنافسان الاكبران هما رئيس الوزراء دومينيك دوفيلبان ووزير الداخلية ساركوزي الذي يخشى كثيرون ان يتبنى شعارات اليمين المتطرف لتثبيت مواقعه.
فما تشهده فرنسا اليوم هو التجسيد الاوضح لمعنى الفشل في استيعاب المهاجرين. واذا كان اعطاء الامن اولوية هو الامر الطبيعي، فان العلاج لا يمكن اختزاله بالامن كما لا ينفع فيه لا سياسة النعامة ولا الهروب الى الامام، بل مواجهة جذور مشكلة عدم الاندماج.
وهذا اختبار صعب وحاسم لفرنسا. لكنه في الوقت نفسه اختبار حاسم لاوروبا التي تواجه المشكلة المزدوجة نفسها وإن بدرجات متفاوتة.

ليست هناك تعليقات: