الأربعاء، أكتوبر 12، 2005

جورج كتن - جمهورية الفاكهاني لن تعود

الفصائل الفلسطينية التي نشطت مؤخراً لتهريب الأسلحة والمسلحين وتحصين مواقعها داخل لبنان، لعبت بالنار التي لولا العقلاء لأدى اندلاعها إلى نتائج وخيمة لهذه الفصائل، وللمواطنين اللبنانيين والفلسطينيين الذين كانوا سيتحملون نتائج أعمال ومواقف قيادات غير مسؤولة تحاول فرض نفسها كممثلة للفلسطينيين.

هذه الفصائل لا تزال تفكر بعقلية "جمهورية الفاكهاني" للسبعينيات عندما كانت تتصرف كدولة ضمن الدولة أو كطائفة لبنانية لها حصة في الشأن اللبناني ولا حدود لتصرفاتها ومواقفها سوى ما يتفتق عنه ذهن "أبواتها". وهي تظن أنها يمكن أن تستمر في سياستها هذه مع التغاضي عن المتغيرات في لبنان وفلسطين والمنطقة والعالم. فالثقل الأساسي للعمل الفلسطيني أصبح داخل الأراضي المحتلة ولم يعد للخارج الأهمية التي كانت له حتى أوائل الثمانينيات، وأصبحت هناك سلطة منتخبة للفلسطينيين تحدد سياساتهم وتعمل لإعادة الفصائل لحجمها الحقيقي الذي يحدده لها صندوق الاقتراع.

الفصائل الفلسطينية المتعملقة فضلت عدم الإقرار بسيادة السلطة اللبنانية، وعدم الاعتراف بالسلطة الشرعية الفلسطينية وظنت أن السياسة ما زالت تنبع من بنادق مسلحيها ومن يدعمهم, وتجاهلت التحولات الواسعة التي جرت في لبنان هذا العام، إذ أصبح تحت رقابة المجتمع الدولي بعد صدور قرارات متعددة من مجلس الأمن ساهمت إلى جانب الانتفاضة الشعبية اللبنانية في إخراجه من الوصاية الأمنية السورية اللبنانية، والمجيء بحكومة منتخبة تدعمها أكثرية لا تقبل التفريط بالسيادة على جميع الأراضي اللبنانية دون استثناء الجزر الأمنية الفلسطينية.

كما تبدد تأييد تيارات وطنية لبنانية للفصائل المسلحة أيام "جمهورية الفاكهاني"، معظم هذه التيارات تقف الآن ضد أي انتهاك للسيادة، إلا أنها لم تتخل عن تأييد حق العودة الفلسطيني ورفض التوطين. ولا أحد يستطيع المزاودة على اللبنانيين في التضحيات التي قدموها للقضية الفلسطينية، فمن حقهم التمتع بالأمن والاستقرار ومنع أي إخلال له باستخدام سلاح غير شرعي, أصبح الجدل حول ضرورة بقائه المسألة الأساسية في فلسطين, فكيف في لبنان؟ فنزع سلاح الفصائل أصبح بنداً رئيساً على جدول المفاوضات لإطلاق الدولة الفلسطينية، بعد التراجع الذي أدت إليه عسكرة الانتفاضة, عن الإنجازات التي تحققت عبر اتفاقية أوسلو, وخسارة قطاع واسع من الرأي العام العالمي المساند نتيجة تصنيفه العمليات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين كأعمال إرهاب مدانة.
ماذا حقق السلاح الفصائلي المنفلت حتى الآن؟ لا شيء سوى التسبب في الحالة المأساوية التي يعيشها الفلسطينيون في الأرض المحتلة, والفوضى الأمنية في قطاع غزة المتمثلة في التفجيرات في المناطق السكنية الفلسطينية، والاغتيالات شبه اليومية ومهاجمة مراكز السلطة ومنعها من القيام بمهماتها، والاستعراضات العبثية للمسلحين المقنعين, وإطلاق صواريخ خلبية ضئيلة الضرر على إسرائيل, تعطي الذرائع لاعتداءات إسرائيلية شديدة الضرر على الأوضاع المعيشية المتدهورة للمواطنين، وتحقق المزيد من العزلة في المجال الدولي حيث تبدو إسرائيل في مظهر المدافع عن نفسه في مواجهة السلاح المنفلت، مما ينزع عن السلاح صفة المقاوم بعد أن أصبح مسيئاً للقضية.

الفصائل المتعملقة في لبنان الوجه الآخر للفلتان الأمني الفصائلي في قطاع غزة، ففي ظل البطالة الدائمة للسلاح المفروض أنه موظف لمواجهة العدو الإسرائيلي، تغامر بتحريكه في الصراعات الفلسطينية – الفلسطينية أو الفلسطينية – اللبنانية، فطالما أن لا دور له في إخراج الاحتلال يمكن لأصحابه استخدامه كأداة ووقود لقوى إقليمية عربية, وكوسيلة ضغط ضد التوجه اللبناني الجديد لاستكمال الحرية والسيادة والاستقلال, وهي مغامرات لا تفيد القضية الفلسطينية من قريب أو بعيد.
لا تدعي الفصائل الفلسطينية أن استنفارها الحالي في لبنان هو للقيام بعمليات ضد إسرائيل، فقد انتهى هذا الدور منذ زمن بعد احتكار "حزب الله" للمقاومة, وإقصاء القوى اللبنانية الأخرى عنها. أما ادعاء الدفاع عن المخيمات فهي مهمة السلطات اللبنانية التي تعهدت بمواجهة أية اعتداءات تتعرض لها. أما ما تعلنه فصائل عن الحفاظ على السلاح الفلسطيني في لبنان لتحسين شروط التفاوض بشأن عودة اللاجئين فهو مبرر لا يمكن أن يقنع أحداً. وأكثر المبررات بؤساً التذرع "باتفاقية القاهرة" التي تؤمن حسب زعمهم "الشرعية الثورية!!"، وهي اتفاقية تم إلغاءها رسمياً منذ عشرين عاماً.

حسناً فعلت الفصائل الفلسطينية بالذهاب للحوار مع السلطة اللبنانية بعد ضبط المتشددين الذين وجهوا تهديدات لرئيس الوزراء اللبناني، حتى لو كان ذلك بوفدين أحدهما لفصائل منخرطة في منظمة التحرير وآخر لفصائل متحالفة مع النظام السوري، وهو ما يعكس وجود سياستين فلسطينيتين، إحداها ترجح المصالح الفلسطينية بعيداً عن التورط في صراعات جانبية، وأخرى تعير اهتماماً أكبر لمصالحها كفصائل أو لمصالح القوى الإقليمية التي تدعمها.

الحل المتوازن هو الذي يجب أن ينتج عن هذا الحوار، وهو الذي يضمن الاعتراف الفلسطيني بحق السلطات اللبنانية في اتخاذ الإجراءات التي تراها مناسبة لتحقيق الأمن والاستقرار واحترام سيادتها وحقها في فرض هيمنتها على كامل الأرض اللبنانية، وهذا يشمل المخيمات, فالفلسطينيون ضيوف مؤقتون في لبنان إلى أن يتم حل قضيتهم، وهذا يفترض إغلاق كافة المواقع المسلحة الفلسطينية خارج المخيمات، وتنظيم العلاقة بين السلطة والفلسطينيين داخل المخيمات بحيث يكونوا تحت سلطة القوانين اللبنانية وليس خارجها، مما يفترض نزع السلاح الفلسطيني أو ضبطه وتنظيمه حسب الاتفاق الذي يمكن التوصل إليه.

في المقابل، يجب إعطاء ضمانات لعدم عودة الشرطة اللبنانية للتصرفات المسيئة التي كانت سائدة داخل المخيمات قبل حمل الفلسطينيين للسلاح منذ العام 1968. كما لا يمكن القبول باستمرار الأوضاع الإنسانية البائسة لساكني المخيمات، فلهم حقوق مدنية وسياسية واقتصادية، ومن حقهم تلقي الاهتمام الكافي من السلطات المعنية لتحسين شروط الحياة في مخيماتهم وتطوير بنيتها التحتية والخدمات الموفرة لها, بالإضافة لإزالة العوائق أمام عمل الفلسطينيين في كافة المهن والوظائف فيما عدا المناصب العليا الحكومية، والسماح لهم بالتملك والتوسع بالبناء داخل المخيمات أو في مناطق جديدة لتغطية التزايد السكاني، والحفاظ على جنسيتهم, وإزالة أية عقبات أمام تنقلهم، وتأمين حرية العمل السياسي والنقابي لهم, وإصدار عفو عن المطلوبين منهم لأسباب سياسية أو أمنية. وهي جميعها حقوق لا يمكن أن تؤدي للتوطين كما يدعي البعض لتبرير حجبها.
ولكي يسحب البساط من فصائل تفضل الاستمرار بفرض سياساتها بقوة البندقية، فإن موافقة الحكومة اللبنانية على افتتاح سفارة فلسطينية يعطي أرجحية لسياسة السلطة الفلسطينية المنتخبة، الواقعية والعقلانية, ويؤمن حضورها الدائم رسمياً لتقوم بدورها في تمثيل فلسطينيي لبنان ورعاية مصالحهم. بالإضافة للاتفاق على إجراء انتخابات في كل مخيم للجان شعبية بمثابة مجالس بلدية, تدير شؤون المخيمات وتنهي ادعاء المسلحين تمثيل سكانها.

ليست هناك تعليقات: