راغدة درغام - الحياة
أمام مجلس الأمن الدولي الآن تقريران يوضحان ما هو المطلوب من القيادة السورية على صعيد التحقيق في اغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري وعلى صعيد العلاقة السورية مع الفصائل الفلسطينية التي تعمل في لبنان وتتخذ من دمشق مقراً لها، وتعارض السلطة الفلسطينية. وبين أيدي أعضاء المجلس مشروع قرار أميركي - فرنسي يهدد بعقوبات لاحقة إذا لم تمتثل القيادة السورية للمطالب المحددة والتي تشمل حق لجنة التحقيق في استجواب أي مسؤول سوري وقيام السلطات السورية بـ «اعتقال» مسؤولين سوريين عندما يصنفهم رئيس التحقيق ديتليف ميليس «مشتبهاً بهم» بالتورط في الاغتيال، بغض النظر عن رتبتهم.
الكل يعرف أن الخيارات صعبة للقيادة السورية أمام التقريرين ومشروع القرار، ولذلك يزداد الكلام عن الصفقات وعن حاجة الإدارة الأميركية ايضاً الى الخروج من وضعها الحرج داخلياً وفي العراق، إنما الأمور أكثر تعقيداً من ذلك وتتطلب مختلف القراءات.
الكلام عن صفقات أميركية - سورية في اللحظة الأخيرة لا يمكن اهماله أو استبعاده كلياً، خصوصاً أن الصفقات السياسية جزء أساسي من فن السياسة. فلا عيب في التوصل الى صفقة بين واشنطن ودمشق إذا كانت في مصلحة البلدين، وإذا ساعدت حقاً في السيطرة على الحدود العراقية - السورية كي لا يستمر النزيف في العراق.
كذلك، ونظراً الى قلق إسرائيل من حكومة جديدة في سورية - في حال سقوط النظام الحالي - تكون أكثر تشدداً واستعداداً لفتح جبهة مع إسرائيل، يتردد أن حكومة إسرائيل تخشى «الفوضى في سورية» وتفضل التوصل الى صفقة أميركية - سورية.
مثل هذه الصفقة، حسب التصور، تشمل قيام الحكومة السورية باقفال كل مكاتب الفصائل الفلسطينية التي تتخذ من دمشق مقراً لها، مع تبني موقف سياسي علني يؤكد أن الأمر الفلسطيني عائد الى القرار الفلسطيني، وأن السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس هي وحدها صاحبة ذلك القرار بصفتها السلطة المنتخبة.
الشق الآخر في الصفقة المفترضة، حسبما يتردد، يتعلق بـ «حزب الله» في لبنان بحيث تقوم القيادة السورية ليس فقط بقطع كل امدادات الى «ميليشيا» «حزب الله» وإنما أيضاً يتخذ الرئيس السوري موقفاً علنياً واضحاً بأن الوقت حان ليتجرد «حزب الله» من السلاح وليصبح طرفاً سياسياً فاعلاً في العملية السياسية في لبنان.
وقد تكون مزارع شبعا جزءاً من تلك الصفقة التي يدور الكلام حولها بحيث تعلن دمشق أن تلك المزارع واقعة في أراضيها وليس في الأراضي اللبنانية، مما يحذف من المعادلة منطق مقاومة الاحتلال الذي يتذرع به «حزب الله» للاحتفاظ بالسلاح.
كل ذلك وارد، ولا يمكن استبعاده. فهذه صفقات من النوع السياسي وليس عيباً أبداً العمل عليها إذا كانت في المصلحة الوطنية للأطراف المعنية بها. حتى الذين يقولون إن الصفقة الأميركية - السورية الآتية ستضحي بلبنان لأنه ليس مهماً في الحسابات، قد يكونون على حق. خطأهم هو في القول إن مثل هذه الصفقات وارد لأن المسألة اللبنانية - السورية هي حول اغتيال «مجرد رجل واحد»، بينما في الماضي أبرمت الولايات المتحدة صفقة «لوكربي» مع ليبيا، علماً أن «مئات الأميركيين» قضوا نتيجة تفجير طائرة «بان أميركان» فوق لوكربي وليس «مجرد لبناني واحد».
هذا كلام من الخطأ قوله، ليس فقط لأنه مهين، وإنما ايضاً لأن المسألة اللبنانية - السورية تتعدى اغتيال «الفرد» وتدخل في اغتيال «جماعي» عبر اغتيال «الفرد». على أي حال، الأهم هو التدقيق في كلام الصفقات الذي يُهمَس في أوساط ويُعلَك في أوساط ويتحدث به البعض كأنه كان.
الصفقات السياسية ممكنة. أما الصفقات على حساب التحقيق في جريمة العمل الإرهابي الذي هزّ لبنان واقتلع العلاقة السورية - اللبنانية من جذورها العفنة، فلا مجال لها على الاطلاق الآن. إذ دخل الموضوع حيز التحقيق الجنائي، وديتليف ميليس لن يكون طرفاً في الصفقات. لذلك فمن الضروري التمييز بين الصفقات السياسية وبين صفقات ذات علاقة بالتحقيق.
ما وصل إليه التحقيق يجعل أيضاً مستحيلاً على الدول ابرام الصفقات بتجاهل له ويجعل ديتليف ميليس وفريقه عثرة أمام ابرام الصفقات السياسية. ميليس يدرك ذلك تماماً، ولذلك أبلغ مجلس الأمن أنه مهدد وأن فريقه أيضاً تلقى التهديدات. وهو، بتوجهه الى مجلس الأمن ليقول إن حياته في خطر، إنما وضع حياته وحياة أعضاء فريقه مسؤولية على أكتاف مجلس الأمن. فميليس واعٍ تماماً الى أن مَن قد يريد قتله ليس بالضرورة جهة واحدة، وإنما ربما جهات عدة. ويعرف أنه قد يصبح لربما عثرة أمام الصفقات السياسية، ولذلك حرص على تقطير الأدلة والاكتفاء باعطاء الأمثلة على ما يمتلكه من دلائل واثباتات. كان ذلك أثناء الجلسة العلنية لمجلس الأمن يوم الثلثاء الماضي. ما قاله في جلسة المشاورات المغلقة في غاية الأهمية والاهتمام.
«الأدلة الجديدة» التي حصل عليها ميليس وفريقه هي كمّ ضخم من التسجيلات الصوتية، حسب مصادر في مجلس الأمن.
هذه التسجيلات الصوتية تشكل أدلة «خارقة» و «مدهشة»، حسب المصادر، لأنها تحتوي على تسجيلات صوتية لاتصالات هاتفية بين المسؤولين اللبنانيين والمسؤولين السوريين على أعلى المستويات وعلى كل المستويات. إنها تشكل «الأدلة الدامغة والملموسة»، وهي تتعدى الاعتماد على الشهود.
ماذا في هذه التسجيلات؟ الأجوبة غير قاطعة حتى الآن، إذ أن لجنة التحقيق التي يترأسها ميليس عثرت أخيراً على هذه الشرائط التي قام بتسجيلها طرف ظن، حسبما يبدو، أن أحداً لن يجدها، وأن أحداً لن يحاكمه إذا أخطأ، لأنه يملك ما يفضح ذلك الطرف المعني.
ما عرضه ميليس في تقريره الى مجلس الأمن عن محادثات بين المسؤول الأمني السوري السابق الأهم في لبنان، الجنرال رستم غزالي، وبين مسؤول لبناني بارز سمي «Mr X» ليس إلا مثالاً صغيراً جداً عن المحادثات الهاتفية بين المسؤولين السوريين واللبنانيين التي تحتويها «الأدلة الجديدة» المتمثلة في التسجيلات - المفاجَأة والتي تشمل محادثات هاتفية بين الرئيس بشار الأسد والرئيس الراحل رفيق الحريري، حسب المصادر.
ما يريده ميليس الآن، ويدعمه مجلس الأمن فيه، هو اجراء المقابلات مع المسؤولين السوريين ومع الشهود السوريين الذين يجد أن افادتهم مهمة للتحقيق. يريد هذه المقابلات حرة من المراقبة ومن دون وجود مخبر سوري على ما يجري في تلك المقابلات. يريد اجراء بعض المقابلات خارج سورية. ويريد استجواب مَن سبق أن استجوبهم أو طلب استجوابهم، شرط ألا تأتي الأجوبة كالمعتاد وألا يستمر نمط الاخفاء، حسب قوله في مؤتمره الصحافي.
الأهم، أن ميليس يريد من السلطات السورية أن تُقدِم هي نفسها على التعاون، إما من خلال تحقيق سوري تُطلقه للتعرف على مَن كان له دور في اغتيال الحريري، أو من خلال التقدم بمعلومات. ما يريده هو صوغ نوع من مذكرة تفاهم بينه وبين الحكومة السورية، بما يجعله قادراً على اعطاء السلطات السورية المعلومات اللازمة التي يترتب عليها اعتقال شخصيات أمنية رفيعة المستوى، كما حدث في لبنان.
الشخصيات السورية التي صنّفها ميليس «مشتبهاً بها» طبقاً لأحد الشهود، شملت شقيق الرئيس وصهره. وهذا ما يجعل الأمور شائكة وفي منتهى الصعوبة على الرئيس الشاب. هذا ما يجعل الخيارات شبه مستحيلة.
المستحيل الأعظم هو موافقة قاضي التحقيق الألماني على صفقة تقوّض التحقيق. فهو وافق على المهمة التي أوكلها اليه مجلس الأمن وعلى تفويضه بصلاحيات لا سابقة لها. وهو ليس في وارد التراجع الآن ولا هو في صدد المساومة مع الدول على حساب التحقيق. لذلك فإن الصفقة على حساب التحقيق في الجريمة دخلت حقاً في حيز المستحيل، من ناحية لأن ميليس لن يقبل بها، ومن ناحية أخرى لأنه فات الأوان على أي دولة للتفكير فيها. فمثل تلك الصفقة أصبح باهظ الكلفة على أي دولة مهما كانت في موضع الهشاشة حتى وإن كانت الدولة العظمى الوحيدة. وإذا غامرت الولايات المتحدة بصفقة كهذه، فإنها ستدفع ثمناً باهظاً.
كيف يتم إذاً عقد صفقات سياسية شرط أن لا تأتي على حساب التحقيق في اغتيال رفيق الحريري ورفاقه أو على حساب لبنان البلد وتطلعاته؟ الأمر يتطلب التفكير الخلاق ويتطلب أيضاً العودة الى بديهيات الفكر المنطقي.
فلا تعارض، بالضرورة، بين الصفقات السياسية الواردة وبين صفقات التحقيق الجنائي المستحيلة، طالما أن هناك استعداداً للتضحية بالجهات المتورطة في الاغتيال.
القرارات صعبة، والخيارات المتاحة أصعب، إذ أنها تقع بين العقوبات والمحاكمات والانقلابات.
لذلك، فإن الكلام عن صفقة سياسية ليس مستحيلاً إذا كانت الصفقة صفقة الجرأة التاريخية على التضحيات. وهذه التضحيات تشمل الآتي: أولاً، التضحية بأفراد أقوياء داخل سورية بغض النظر عن المقام أو القرابة. ثانياً، الاستغناء عن نظام تقليدي اتخذ حجر الأساس له حكم الاستخبارات العسكرية الأمنية. ثالثاً، الاقتناع بأن الوقت حان لتقليص نفوذ سورية خارج حدودها. ورابعاً، الإقرار العلني والفعلي والصادق أخيراً بأن سورية ستكون مهمة من الآن فصاعداً إذا اعترفت بأهميتها داخل حدودها وليس عبر تدخلها في العراق أو فلسطين أو لبنان.
أما في غياب كلام الصفقات، فإن المتاح الآن هو التعاون مع «اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في العمل الإرهابي» الى أقصى المستويات، فهي لديها أدلة دامغة لم تكشف عنها بعد، ومن الخطأ المضي في نمط التحدي وتوجيه تهم الكذب والادعاء للجنة.
فلقد تم تطويق الدور السوري في لبنان ببعده الثنائي المباشر، وبعده غير المباشر عبر الفصائل السورية في تقرير ميليس وتقرير تيري رود لارسن مبعوث الأمين العام المكلف مراقبة تنفيذ القرار 1559 الذي طالب بانسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان وحل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية.
تم ايضاً تطويق دور الفصائل الفلسطينية التي تخضع للقرار السوري وتريد استخدام لبنان وجعله قابلاً للتدمير من خلال عمليات إرهابية.
الجميع الآن تحت المراقبة. كل اللاعبين يراقبون بعضهم بعضاً. وهناك مراقبة أعلى على كل اللاعبين. لذلك لن تحدث مساومات تؤدي الى صفقات تضحي بلبنان. فالتحقيق في اغتيال رفيق الحريري بات العين الساهرة على الصفقات التي قد ترد في ذهن الحكومات.
تحقيق ديتليف ميليس بات، على رغم هشاشة الحكومات، صمّام الأمان، لأنه ما زال يضع الحقيقة فوق المصالح والصفقات.
الكل يعرف أن الخيارات صعبة للقيادة السورية أمام التقريرين ومشروع القرار، ولذلك يزداد الكلام عن الصفقات وعن حاجة الإدارة الأميركية ايضاً الى الخروج من وضعها الحرج داخلياً وفي العراق، إنما الأمور أكثر تعقيداً من ذلك وتتطلب مختلف القراءات.
الكلام عن صفقات أميركية - سورية في اللحظة الأخيرة لا يمكن اهماله أو استبعاده كلياً، خصوصاً أن الصفقات السياسية جزء أساسي من فن السياسة. فلا عيب في التوصل الى صفقة بين واشنطن ودمشق إذا كانت في مصلحة البلدين، وإذا ساعدت حقاً في السيطرة على الحدود العراقية - السورية كي لا يستمر النزيف في العراق.
كذلك، ونظراً الى قلق إسرائيل من حكومة جديدة في سورية - في حال سقوط النظام الحالي - تكون أكثر تشدداً واستعداداً لفتح جبهة مع إسرائيل، يتردد أن حكومة إسرائيل تخشى «الفوضى في سورية» وتفضل التوصل الى صفقة أميركية - سورية.
مثل هذه الصفقة، حسب التصور، تشمل قيام الحكومة السورية باقفال كل مكاتب الفصائل الفلسطينية التي تتخذ من دمشق مقراً لها، مع تبني موقف سياسي علني يؤكد أن الأمر الفلسطيني عائد الى القرار الفلسطيني، وأن السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس هي وحدها صاحبة ذلك القرار بصفتها السلطة المنتخبة.
الشق الآخر في الصفقة المفترضة، حسبما يتردد، يتعلق بـ «حزب الله» في لبنان بحيث تقوم القيادة السورية ليس فقط بقطع كل امدادات الى «ميليشيا» «حزب الله» وإنما أيضاً يتخذ الرئيس السوري موقفاً علنياً واضحاً بأن الوقت حان ليتجرد «حزب الله» من السلاح وليصبح طرفاً سياسياً فاعلاً في العملية السياسية في لبنان.
وقد تكون مزارع شبعا جزءاً من تلك الصفقة التي يدور الكلام حولها بحيث تعلن دمشق أن تلك المزارع واقعة في أراضيها وليس في الأراضي اللبنانية، مما يحذف من المعادلة منطق مقاومة الاحتلال الذي يتذرع به «حزب الله» للاحتفاظ بالسلاح.
كل ذلك وارد، ولا يمكن استبعاده. فهذه صفقات من النوع السياسي وليس عيباً أبداً العمل عليها إذا كانت في المصلحة الوطنية للأطراف المعنية بها. حتى الذين يقولون إن الصفقة الأميركية - السورية الآتية ستضحي بلبنان لأنه ليس مهماً في الحسابات، قد يكونون على حق. خطأهم هو في القول إن مثل هذه الصفقات وارد لأن المسألة اللبنانية - السورية هي حول اغتيال «مجرد رجل واحد»، بينما في الماضي أبرمت الولايات المتحدة صفقة «لوكربي» مع ليبيا، علماً أن «مئات الأميركيين» قضوا نتيجة تفجير طائرة «بان أميركان» فوق لوكربي وليس «مجرد لبناني واحد».
هذا كلام من الخطأ قوله، ليس فقط لأنه مهين، وإنما ايضاً لأن المسألة اللبنانية - السورية تتعدى اغتيال «الفرد» وتدخل في اغتيال «جماعي» عبر اغتيال «الفرد». على أي حال، الأهم هو التدقيق في كلام الصفقات الذي يُهمَس في أوساط ويُعلَك في أوساط ويتحدث به البعض كأنه كان.
الصفقات السياسية ممكنة. أما الصفقات على حساب التحقيق في جريمة العمل الإرهابي الذي هزّ لبنان واقتلع العلاقة السورية - اللبنانية من جذورها العفنة، فلا مجال لها على الاطلاق الآن. إذ دخل الموضوع حيز التحقيق الجنائي، وديتليف ميليس لن يكون طرفاً في الصفقات. لذلك فمن الضروري التمييز بين الصفقات السياسية وبين صفقات ذات علاقة بالتحقيق.
ما وصل إليه التحقيق يجعل أيضاً مستحيلاً على الدول ابرام الصفقات بتجاهل له ويجعل ديتليف ميليس وفريقه عثرة أمام ابرام الصفقات السياسية. ميليس يدرك ذلك تماماً، ولذلك أبلغ مجلس الأمن أنه مهدد وأن فريقه أيضاً تلقى التهديدات. وهو، بتوجهه الى مجلس الأمن ليقول إن حياته في خطر، إنما وضع حياته وحياة أعضاء فريقه مسؤولية على أكتاف مجلس الأمن. فميليس واعٍ تماماً الى أن مَن قد يريد قتله ليس بالضرورة جهة واحدة، وإنما ربما جهات عدة. ويعرف أنه قد يصبح لربما عثرة أمام الصفقات السياسية، ولذلك حرص على تقطير الأدلة والاكتفاء باعطاء الأمثلة على ما يمتلكه من دلائل واثباتات. كان ذلك أثناء الجلسة العلنية لمجلس الأمن يوم الثلثاء الماضي. ما قاله في جلسة المشاورات المغلقة في غاية الأهمية والاهتمام.
«الأدلة الجديدة» التي حصل عليها ميليس وفريقه هي كمّ ضخم من التسجيلات الصوتية، حسب مصادر في مجلس الأمن.
هذه التسجيلات الصوتية تشكل أدلة «خارقة» و «مدهشة»، حسب المصادر، لأنها تحتوي على تسجيلات صوتية لاتصالات هاتفية بين المسؤولين اللبنانيين والمسؤولين السوريين على أعلى المستويات وعلى كل المستويات. إنها تشكل «الأدلة الدامغة والملموسة»، وهي تتعدى الاعتماد على الشهود.
ماذا في هذه التسجيلات؟ الأجوبة غير قاطعة حتى الآن، إذ أن لجنة التحقيق التي يترأسها ميليس عثرت أخيراً على هذه الشرائط التي قام بتسجيلها طرف ظن، حسبما يبدو، أن أحداً لن يجدها، وأن أحداً لن يحاكمه إذا أخطأ، لأنه يملك ما يفضح ذلك الطرف المعني.
ما عرضه ميليس في تقريره الى مجلس الأمن عن محادثات بين المسؤول الأمني السوري السابق الأهم في لبنان، الجنرال رستم غزالي، وبين مسؤول لبناني بارز سمي «Mr X» ليس إلا مثالاً صغيراً جداً عن المحادثات الهاتفية بين المسؤولين السوريين واللبنانيين التي تحتويها «الأدلة الجديدة» المتمثلة في التسجيلات - المفاجَأة والتي تشمل محادثات هاتفية بين الرئيس بشار الأسد والرئيس الراحل رفيق الحريري، حسب المصادر.
ما يريده ميليس الآن، ويدعمه مجلس الأمن فيه، هو اجراء المقابلات مع المسؤولين السوريين ومع الشهود السوريين الذين يجد أن افادتهم مهمة للتحقيق. يريد هذه المقابلات حرة من المراقبة ومن دون وجود مخبر سوري على ما يجري في تلك المقابلات. يريد اجراء بعض المقابلات خارج سورية. ويريد استجواب مَن سبق أن استجوبهم أو طلب استجوابهم، شرط ألا تأتي الأجوبة كالمعتاد وألا يستمر نمط الاخفاء، حسب قوله في مؤتمره الصحافي.
الأهم، أن ميليس يريد من السلطات السورية أن تُقدِم هي نفسها على التعاون، إما من خلال تحقيق سوري تُطلقه للتعرف على مَن كان له دور في اغتيال الحريري، أو من خلال التقدم بمعلومات. ما يريده هو صوغ نوع من مذكرة تفاهم بينه وبين الحكومة السورية، بما يجعله قادراً على اعطاء السلطات السورية المعلومات اللازمة التي يترتب عليها اعتقال شخصيات أمنية رفيعة المستوى، كما حدث في لبنان.
الشخصيات السورية التي صنّفها ميليس «مشتبهاً بها» طبقاً لأحد الشهود، شملت شقيق الرئيس وصهره. وهذا ما يجعل الأمور شائكة وفي منتهى الصعوبة على الرئيس الشاب. هذا ما يجعل الخيارات شبه مستحيلة.
المستحيل الأعظم هو موافقة قاضي التحقيق الألماني على صفقة تقوّض التحقيق. فهو وافق على المهمة التي أوكلها اليه مجلس الأمن وعلى تفويضه بصلاحيات لا سابقة لها. وهو ليس في وارد التراجع الآن ولا هو في صدد المساومة مع الدول على حساب التحقيق. لذلك فإن الصفقة على حساب التحقيق في الجريمة دخلت حقاً في حيز المستحيل، من ناحية لأن ميليس لن يقبل بها، ومن ناحية أخرى لأنه فات الأوان على أي دولة للتفكير فيها. فمثل تلك الصفقة أصبح باهظ الكلفة على أي دولة مهما كانت في موضع الهشاشة حتى وإن كانت الدولة العظمى الوحيدة. وإذا غامرت الولايات المتحدة بصفقة كهذه، فإنها ستدفع ثمناً باهظاً.
كيف يتم إذاً عقد صفقات سياسية شرط أن لا تأتي على حساب التحقيق في اغتيال رفيق الحريري ورفاقه أو على حساب لبنان البلد وتطلعاته؟ الأمر يتطلب التفكير الخلاق ويتطلب أيضاً العودة الى بديهيات الفكر المنطقي.
فلا تعارض، بالضرورة، بين الصفقات السياسية الواردة وبين صفقات التحقيق الجنائي المستحيلة، طالما أن هناك استعداداً للتضحية بالجهات المتورطة في الاغتيال.
القرارات صعبة، والخيارات المتاحة أصعب، إذ أنها تقع بين العقوبات والمحاكمات والانقلابات.
لذلك، فإن الكلام عن صفقة سياسية ليس مستحيلاً إذا كانت الصفقة صفقة الجرأة التاريخية على التضحيات. وهذه التضحيات تشمل الآتي: أولاً، التضحية بأفراد أقوياء داخل سورية بغض النظر عن المقام أو القرابة. ثانياً، الاستغناء عن نظام تقليدي اتخذ حجر الأساس له حكم الاستخبارات العسكرية الأمنية. ثالثاً، الاقتناع بأن الوقت حان لتقليص نفوذ سورية خارج حدودها. ورابعاً، الإقرار العلني والفعلي والصادق أخيراً بأن سورية ستكون مهمة من الآن فصاعداً إذا اعترفت بأهميتها داخل حدودها وليس عبر تدخلها في العراق أو فلسطين أو لبنان.
أما في غياب كلام الصفقات، فإن المتاح الآن هو التعاون مع «اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في العمل الإرهابي» الى أقصى المستويات، فهي لديها أدلة دامغة لم تكشف عنها بعد، ومن الخطأ المضي في نمط التحدي وتوجيه تهم الكذب والادعاء للجنة.
فلقد تم تطويق الدور السوري في لبنان ببعده الثنائي المباشر، وبعده غير المباشر عبر الفصائل السورية في تقرير ميليس وتقرير تيري رود لارسن مبعوث الأمين العام المكلف مراقبة تنفيذ القرار 1559 الذي طالب بانسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان وحل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية.
تم ايضاً تطويق دور الفصائل الفلسطينية التي تخضع للقرار السوري وتريد استخدام لبنان وجعله قابلاً للتدمير من خلال عمليات إرهابية.
الجميع الآن تحت المراقبة. كل اللاعبين يراقبون بعضهم بعضاً. وهناك مراقبة أعلى على كل اللاعبين. لذلك لن تحدث مساومات تؤدي الى صفقات تضحي بلبنان. فالتحقيق في اغتيال رفيق الحريري بات العين الساهرة على الصفقات التي قد ترد في ذهن الحكومات.
تحقيق ديتليف ميليس بات، على رغم هشاشة الحكومات، صمّام الأمان، لأنه ما زال يضع الحقيقة فوق المصالح والصفقات.