صبحي حديدي - القدس العربي
في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تتحدث كاثرين زويف عن إعلان دمشق ، وتنقل في عنوان تقريرها أن المعارضة السورية تتوحد خلف الدعوة للتغيير الديمقراطي ، ولا تخفي بعض الدهشة من أن هذه المعارضة المتخاصمة والمنقسمة تاريخياً قد توصلت إلي الإتفاق علي هذا الإعلان. وتنقل زويف عن جوشوا لانديس، الباحث الأمريكي المقيم في سورية بمنحة من مؤسسة فولبرايت وصاحب الموقـــع الإلكتروني Syria Comment، استبشاره بهذه الخطوة بوصفها إشارة إلي أن المعارضة السورية أخذت تنضج ، خصوصاً بعد أن كان الجميع انتقصوا من قيمة المعارضة السورية وأسقطوها من حسابهم بوصفها نكتة .لا نعرف مَن الذي انتقص مَن، ورأي فيه نكتة، وما إذا كان من الجائز أصلاً الحديث عن المعارضة السورية في أية صيغة موحدة، علي أي نحو يبرر إطلاق حكم قيمة جماعي. لكننا، في المقابل، نعرف مخاوف لانديس ـ التي أعلنها مراراً، في مقالات موقعة وحوارات صحافية ـ من أن بديل النظام الحاكم ليس أية قوة أو قوي علمانية ديمقراطية، منفردة أو مجتمعة، بل جماعة الإخوان المسلمين. ولهذا يحرص الناشط الديمقراطي السوري أنور البني، في تقرير زويف ذاته، علي رد هذه الفرضية الرائجة، والتذكير بأن النظام هو الذي يريد من العالم أن يفهمها هكذا علي نحو مطلق: إذا ذهبنا، فسيأتي الإسلاميون والمتشددون!وفي أسبوعية Weekly Standard، معقل المحافظين الجدد ولسان حال عتاة اليمين الأمريكي الليكودي، وتحت العنوان التوراتي السنة القادمة في دمشق الذي يذكر علي الفور بـ السنة القادمة في أورشليم ، يكتب جيفري غيدمن عن المؤتمر السوريالي ـ حسب تعبيره ـ الذي عقده معارضون سوريون منفيون في باريس أواخر الشهر الماضي. وهو يضع المؤتمر في سياق شرق ـ أوسطي عريض، يتضمن التبدلات الديمقراطية التالية: الانتخابات البلدية في السعودية، ومنح نساء الكويت الحق في الانتخاب، وتنافس أكثر من مرشح في الانتخابات الرئاسية المصرية، والانتخابات والدستور في العراق، والثورة في لبنان ...! وغيدمن مدير معهد أسبن (مقره برلين، و هدفه الرئيس خلق سوق للأفكار العابرة للاطلسي كما يحلو للرجل أن يقول)، يمكن أن يكون مازحاً تماماً في كل حكاية يرويها عن ذلك المؤتمر السوريالي ، ما خلا تفصيل واحد يبدو فيــــه جاداً تماماً، كما يبدو واضحاً أنه حمله معه من برلين ولم يكتسبه في أروقة المؤتمر: أن جماعة الإخوان المسلمين هي بديل النظام الحاكم اليوم في دمشق، والبديل الوحيد!وقبل أيام، في الـ غارديان البريطانية، وتحت عنوان الطريق من دمشق الذي بدوره لا ينأي كثيراً عن التوراة، كتب روري مكارثي يصف متاعب النظام السوري، ومتاعب بشار الأسد شخصياً، قبيل إعلان تقرير المحقق الدولي ديتليف ميليس، واشتداد التأزم مع الولايات المتحدة حول ضبط الحدود السورية ـ العراقية. ولقد بدا مكارثي موضوعياً بصفة إجمالية، إلا حين استعرض ضعف المعارضة السورية الداخلية وانقسامها (وهذا ليس بالتوصيف الخاطئ طبعاً)، وأن المعارضة الإسلامية، ممثلة بالإخوان المسلمين ستكون هي الأكثر استفادة من أي تغيير للنظام في دمشق . المدهش أنه، إذ يكاد يشطب المعارضة الداخلية، الديمقراطية و العلمانية كما يقول، ويؤكد تفوق المعارضة الإسلامية دون أن يوضح طبيعتها وما إذا كانت تضم فصائل أخري غير الإخوان المسلمين، يقر في الآن ذاته أن النظام الحاكم لعب طويلاً علي مخاوف كهذه، بل وبالغ فيها!من جامعة ماريلاند الامريكية، ولكي نذهب إلي صوت عربي وسط المعمعة ذاتها، ينقل موقع Yahoo News عن شبلي تلحمي أقصي ما يمكن أن تبلغه مخيلة في تشريح المسألة إياها: سورية موطن الأخوان المسلمين ! صحيح أن تلحمي يستند إلي احتمال أن تكون الفوضي العميمة هي الحال السائدة في أعقاب أي غزو عسكري أمريكي، وأن الإدارة الأمريكية قد تكون تعلمت بعض الدروس من غزو العراق، بينها أن تلك الفوضي هي أم الإرهاب . ولكن... هل سورية هي حقاً، علي أية شاكلة محتمَلة أو حتي متخيََلة، موطن الإخوان المسلمين ؟ وبالتالي، ما الذي أبقي هذا الموطن بمنأي عن أي حكم إسلامي الطابع، لكي لا نقول: إخواني الهوية، طيلة عقود طويلة طويلة، قبل الإستقلال وبعده، وخلال مختلف العهود التي سبقت استيلاء حزب البعث علي السلطة سنة 1963؟مثل هذه التقديرات، وسواها كثير في الواقع (أكثرها إدهاشاً، ومدعاة للأسف، تلك التي تصدر عن بعض المعارضين السوريين أنفسهم!)، لا تتكئ إلي مقولات قديمة أحادية الجانب وناقصة وانتقاصية تم ترويجها علي هيئة كليشيهات مسبقة الصنع وتنميطات مطلقة مجردة فحسب، بل إنها تعيد إنتاج خطاب سلطة استبدادية عائلية مافيوزية، سعيدة تماماً لأن العالم يُبقي عليها أو يطيل في عمرها أو يكتفي بضرورة ضربها علي يديها (كما في عبارة مدهشة أطلقها دنيس روس مؤخراً!)، لا لسبب آخر سوي أن جماعة الإخوان المسلمين هي بديل التغيير الوحيد!والحال أن معظم الأصوات الغربية التي تعتمد، بعد تضخيم مقصود ودرجة محسوبة من التهويل، هذا اليقين حول الموقع الأثير للإخوان ضمن المعارضة السورية، إنما تصب في تكتيك (أم هو استراتيجية؟) التشكيك بوجود إسلام معتدل أو ديمقراطي. الأمريكي الشهير إدوارد شيرلي (اسم مستعار لاختصاصي في الشؤون الإيرانية، وموظف سابق في وكالة المخابرات المركزية) ساجل بأن الإسلاميين العرب، إصوليين أو معتدلين، تشربوا الثقافة الغربية، وتعلموا مفردات الدولة ـ الأمة في العالم الحديث، واكتسبوا خصائص الدعاة القوميين... دون أن يتخلوا عن المفردات التي تصنع جاذبية الإسلام الشعبي. كذلك نهضت خطاباتهم وتطورت علي أساس العداء للغرب والإمبريالية، ووراثة الخطاب الطبقي والإجتماعي لليسار العربي العلماني الذي انهزمت برامجه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً أيضاً. أليسوا، إجمالاً، ممثلي الحساسيات الدينية التي كانت تتعايش، علي استحياء مضمر، مع الحساسيات العلمانية في الأحزاب والمؤسسات القديمة ذاتها؟كذلك ساجل شيرلي بأن من الصعب أن يقيم الغرب، أو أمريكا أساساً كما يقول، حواراً مع أي فريق إسلامي شرق ـ أوسطي مرشح للسلطة، أو هو يتصدر صفوف المعارضة. ماذا استفاد مهدي بازركان، رئيس الوزراء الأسبق في إيران، من الحوار مع مستشار الأمن القومي زبغنيو بريجنسكي سنة 1979، في الجزائر؟ لقد ساهم اللقاء في تسريع سقوطه، هو ونفر المعتدلين علي اختلاف مشاربهم، وكانوا سيسقطون عاجلاً أم آجلاً في كل حال. وإذا صح ما يقول من أن الثورة الإيرانية لم تنقلب إلي ثورة يعاقبة لأن الولايات المتحدة فشلت في إقامة صلات وثيقة مع المعتدلين، فما الذي يمكن أن تنتظره الولايات المتحدة من أي حوار مع الإخوان المسلمين السوريين؟ وعن أية سورية مستقبلية يمكن أن يدور الحوار؟ وهل يستقيم مثل هذا الحوار، إذ لا يجري سوي في الظل والأروقة والمؤتمرات المغلقة، في معهد أسبن أو في معهد كارنيغي؟طراز التفكير الذي يقف خلف احتمالات هذا الحوار ينتمي مباشرة إلي تلك المقاربة التي ألمح البعض إلي إمكانية صياغتها لتكون سياسة أمريكية معتمدة بصدد الغول الإسلامي ، وهي جزء يستكمل الشطر السيكولوجي من مبدأ التنقيب عن أصولي غير ذئب ، لا يؤمن (أو، في الأقل، يؤجل إلي حين إيمانه) بأن كلمة الله هي العليا وهي القانون، وأن واشنطن هي عاصمة الشر ومقام الشيطان الروحي والثقافي، وأن صندوق الاقتراع هو لعبة الغرب والمدنية الكافرة. وبهذا المعني فإن تأجيل اليقين هذا ينتقل بالأصولية خطوة، واحدة علي الأقل، في سلم سيفضي بها إلي حيث يقتضي المنطق السليم، أي إلي كونها جملة تحديات سياسية واجتماعية ودبلوماسية لا مناص من مواجهتها، بأيد تحمل أي شيء باستثناء الهراوة الدامية التي وفرها التاريخ الغربي لليعاقبة.ومن اللافت للانتباه أن طراز التفكير ذاته اعتمد سلسلة تأويلات صحيحة، من نوع يُحسن البعض توظيفه ويسيء البعض الغالب تطبيق نتائجه في أوروبا وفي فرنسا علي وجه الخصوص. فليس من النادر أن نقرأ تحليلاً يقول بانقلاب ثقافي في طبيعة النشاط الإسلامي العربي المعاصر كما يُقاس علي الحالات السابقة. فالثقافة، قبل السياسة، هي الموقع الأول الذي يخوض فيه الإسلامي العربي المعاصر معاركه، هو الذي راقب ودرس وحفظ دروس آبائه الذين قاتلوا وقُتلوا (في مصر الخمسينيات وسورية أواخر السبعينيات مطلع الثمانينيات)، ولم يتركوا في الشارع سوي ذاكرة دامية. وهذا الإسلامي المعاصر يتقن لعبة توريط السلطة في حلقات العنف التي تأخذ شكل الأواني المستطرقة، والدم الذي يطلق نداء دم جديد، ويوزع استحقاق الضحية علي الشارع الشعبي، الجائع والمقموع والمغترب.ومع ذلك فإن الإنصاف يقتضي التذكير أولاً بأن جماعة الإخوان المسلمين السوريين، قبل أن تطرح مشروع ميثاق الشرف الوطني في أيار (مايو) 2001 ولكن بصفة خاصة بعد مؤتمر لندن الذي عُقد أواخر آب (أغسطس) 2002 وعدل ثم تبني الميثاق، أنجزت ما يشبه الإنتفاضة الداخلية أو الإنقلاب السلمي علي الذات، لجهة تنازل الإخوان عن ثوابت كبري في عقيدتهم: اعتماد خطاب معتدل تماماً، نبذ العنف المسلح، اعتناق معظم المطالب الديمقراطية التي أجمعت عليها الأحزاب السورية المعارضة وممثلو منتديات المجتمع المدني، وتبني مبدأ التعددية السياسية (الأمر الذي كان يعني عملياً إغفال، أو بالأحري إسقاط، اشتراط الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة تالياً)...الإنصاف ذاته يقتضي التذكير بأن خصائص المجتمع السوري الأصيلة، أي تلك التي اقترنت بالمحطات الكبري الفاصلة في تطوره السياسي والمجتمعي والثقافي في الأطوار الحديثة، تضع البلد علي نقيض صريح من تلك الإطروحة الأحادية التي تجعل الإخوان المسلمين بديل التغيير الوحيد. هذا أمر لا يحتاج السوريون، أو غالبيتهم الساحقة، إلي إمعان التفكير فيه أو ترجيحه كاحتمال ملموس. غير أن مبدأ التعددية السياسية، في ذاته أولاً وفي ضوء تطورات الفكر الإخواني وما يقترن به من سياسات ثانياً، لا يمكن أن يغلق الباب مسبقاً أمام أي فصيل يقبل بالمبدأ ويقر بقواعده الأخري، بما في ذلك الاحتكام إلي صندوق الإقتراع، وفصل السلطات، وإقرار العلمانية، وترك الدين لله وإبقاء الوطن للجميع. أكثر من هذا، هل يمكن لأي ائتلاف ديمقراطي معارض للإستبداد والدكتاتورية أن يسقط من حسابه ضرورة اجتذاب معارضة إسلامية مستنيرة؟ وفي الأساس، هل يمكن لأية معارضة أن تكون فعالة في أي بلد ذي أغلبية شعبية مسلمة، دون إسلام مستنير؟والإنصاف ذاته يقتضي، ثالثاً، عدم مراعاة ذلك الإسلام المستنير بذريعة اجتذابه إلي صفوف المعارضة، خصوصاً في المسائل الجوهرية الكبري ذات الطابع التشريعي والحقوقي والثقافي، كأن تتم محاباة الإسلاميين في أية صياغة ـ خصوصاً إذا كانت غامضة، ركيكة، تلفيقية، وتوفيقية ـ تنص علي دور أعلي تفوقي أو تمييزي للإسلام علي سواه. فالأمر هنا ليس سلاحاً ذا حدين فقط، بل هو في الأغلب سلاح ذو حد واحد يرتد إلي نحور الغافلين عنه. كذلك، في المقابل، فإن مسخ العلمانية إلي كاريكاتور محض يحيل إلي سلــــة المهملات جميع الجوانب الإنسانية المضيئة لثقافات مختلف الأديان والعقائد، هو بدوره سلاح ارتدادي من النوع المماثل، إذا لم يكن اسوأ وأشد ضرراً وأعظم عاقبة...وهكذا، لا الإخوان هم اللاعب الوحيد، ولا سورية هي ملعبهم وحدهم؛ ليسوا خارج صفوف المعارضة ومشروع النضال من أجل سورية الديمقراطية، ولا هم البديل الوحيد عن سورية الإستبداد والنهب والمافيات وحكم العائلة. و إعلان دمشق مناسبة لاستذكار هذا كله، أولاً وثانياً وثالثاً و... عاشراً!