د. برهان غليون - مرآة سورية
بالرغم من أن ديتليف ميليس لم يقدم تقريرا نهائيا بعد وكل ما قدمه هو تقرير أولي يشير، انطلاقا من المعطيات التي حصل عليها، وهي لا تزال قليلة، إلى بعض فرضيات العمل التي يحتاج تأكيدها إلى المزيد من الجهود في الأشهر، وربما السنوات القادمة، وبالرغم مما يؤكده التقرير نفسه في ختام فقراته من أن أحدا لا يمكن أن يعتبر متهما قبل أن تثبت إدانته في محكمة نزيهة ونحن لا نزال بعيدين عن مرحلة توجيه الاتهامات الرسمية وعن المحاكمة والإدانة، إلا أن نشر تقرير لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري كان كافيا وحده لإثارة عاصفة سياسية وصفها البعض بالزلزال والآخرون بالإعصار. وقد بدأت الأطراف المختلفة تتعامل مع التقرير بالفعل كما لو كان إدانة نهائية للنظام السوري بسبب الإشارة إلى احتمال تورط بعض قادته السياسيين وأجهزته الأمنية من وراء الأجهزة اللبنانية بعملية الإغتيال. ففي الوقت الذي اعتبرت فيه الإدارة الامريكية أن التقرير يشكل مصدر قلق كبير يستدعي اجتماعا عاجلا لمجلس الأمن لمناقشة الإجراءات الضرورية للرد على تورط القادة السوريين، ردت الحكومة السورية على لسان وزارة الخارجية بالرفض القاطع لمحتوى التقرير بسبب إشارته هذه، بالرغم من إعلانها استمرار التعاون مع لجنة التحقيق الدولية. وبقدر ما أكد المسؤولون الأمريكيون على المهنية العالية والموضوعية التي اتسم بهما تقرير ميليس نظر السوريون إلى توجيه الشكوك نحو دمشق على أنه تكريس لإدانة سياسية مسبقة وموقف مبيت ضدها يعبر عن افتقار التقرير للمهنية وللاتساق والموضوعية معا.السوريون على حق عندما يخشون من استغلال الولايات المتحدة للتقرير لأغراض سياسية لاعلاقة لها باغتيال الحريري. فقد كانت واشنطن، التي دخلت في نزاع مع الحكم السوري قبل اغتيال الحريري، تنتظر بالفعل بفارغ الصبر ما يفيدها في وضع سورية تحت ضغوط متزايدة لتفرض عليها التعاون الواسع في بعض الملفات الإقليمية وفي مقدمها الملف العراقي. ومن مصلحتها أن تصور التقرير كما لو كان تحقيقا نهائيا وبرهانا قاطعا على تورط المسؤولين السوريين ووقوعهم في الفخ. بيد أن هذا الاستغلال السياسي للتقرير لا يضير التقرير نفسه ولا يجعل منه بالضرورة تقريرا سياسيا فاقدا لمعايير المهنية القانونية كما يقول السوريون. وكما يخطؤ الأمريكيون بحق الحريري وحكم القانون عندما يسعون إلى استغلال التقرير لأهداف سياسية محضة ليس لها علاقة بمعرفة الحقيقة وإحقاق العدالة، بخطؤ السوريون أيضا عندما يوجهون انتقاداتهم إلى القاضي ميليس (الذي لم يتهم أحدا ولكنه أشار إلى ما دلته إليه التحقيقات حتى الآن، وربما غيرت التحقيقات اللاحقة النتائج الحالية)، ويرفضون تقريره بحجة انحيازه بدل أن يوجهوا نقدهم للاستخدام السياسي الأمريكي، أي غير القانوني له. ولو فعلوا ذلك لنالوا عطف قطاع واسع من الرأي العام العالمي الذي أصبح يضيق ذرعا بالطريقة التي تتعامل بها الإدارة الأمريكية مع القضايا الدولية وبالسرعة التي تتخذ بها القرارات التي تمس مصير شعوب بأكملها. وبالعكس يستفز الموقف السوري الراهن أوسع قطاعات الرأي العام العالمي لما يظهره من استهتار المسؤولين السوريين بالإرادة الدولية واستسهالهم توجيه التهم بالتحيز ضدهم وتبلي الآخرين لهم من دون سبب وإنكارهم الاعتراف بالحد الأدنى من استقلال السلطة القضائية التي ترمز إليها لجنة التحقيق الدولية نفسها. هكذا تبدو تهم التسييس للتحقيق الدولي هي نفسها تهما سياسية لا تقوم على أي حجة منطقية ولا تستند على أي رؤية قانونية. فهي تنبع من تكرار شعارات مثل أن سورية مستهدفة بسبب مواقفها المعادية لأمريكا. مما يعني أن التقرير وجميع من ساهم فيه من القضاة وعلى رأسهم القاضي الألماني ميليس يخضعون بشكل أو آخر لإرادة الولايات المتحدة أو يعملون لحسابها وتحت تأثيرها. ولا تزيد عن ذلك قيمة الحجج الأخرى التي تحاول أن تثبت تناقضات التقرير أو اعتماده على مصادر ثانوية أو افتقاره للبراهين الدامغة والقاطعة. ولا تلك التي تسعى إلى التهرب من المسؤولية من خلال المقارنة بين فشل المخابرات الأمريكية في اكتشاف هجوم 11 سبتمبر 2001 على برج التجارة العالمية أو عمليات الارهاب في لندن وإسبانيا. فاستهداف رئيس وزراء دولة خاضعة عمليا للوصاية الأمنية السورية يستدعي الحماية المستمرة، وهو يملك أيضا حمايته الخاصة، لا يقارن باستهداف بعض المواقع المدنية العامة بمتفجرات أو حتى بطائرات محولة لأهداف عسكرية، هذا مع العلم أن هناك الآن مصادر عديدة تستبعد أن لا تكون المخابرات الأمريكية على علم بما كان يعد، بل إن بعضها يذهب أكثر من ذلك ليتحدث عن محاولة إنقلابية.لا تستطيع سورية أن تدافع عن نفسها ومن باب أولى أن تثبت براءتها بتكرار ما يردده المسؤولون السوريون صباح مساء من أنهم لا علم لهم بالحادثة وليس لهم أي ضلع فيها. يستطيع المواطن العادي أن يقول لا علاقة لي بالموضوع لكن السلطة السياسية تفقد صدقيتها وتتحول إلى متهم إذا لم تتحمل مسؤوليتها أمام ما يقع في الدولة التي تحكمها وتسيرها. وحتى لو لم يكن لأي مسؤول سوري ضلع في ارتكاب الجريمة، فهي مسؤولة عن الكشف عن الجناة، أو هذه هي مسؤولية السلطة السياسية. فالسلطة قبل أي شيء آخر مسؤولية: مسؤولية تجاه المجتمع والفرد ومسؤولية تجاه القانون. والسلطة التي لا تستطيع أن تحمي المجتمع وأفراده من الاعتداء ولا أن تضمن تطبيق القانون وإحقاق العدالة، تفقد صدقيتها وشرعيتها معا. والمطلوب منها أن تستقيل لتترك مكانها لسلطة أخرى قادرة على حماية المجتمع وضمان تطبيق القانون، أي لسلطة قادرة على وقابلة ل-تحمل المسؤولية. ربما لا يكون ذنب السلطة السورية أنها شاركت في الجريمة، أو على الأقل، حتى يثبت ذلك قضائيا وهو لم يثبت بعد. لكن ذنبها حتى الآن يكمن في أنها اعتبرت نفسها غير مسؤولة عن حماية رئيس وزراء دولة تخضع لوصايتها العملية ونفوذها وأكثر من ذلك عدم فتحها هي نفسها تحقيقا جديا بالجريمة فور حصولها كما يفرضه عليها وضعها في لبنان وكذلك الدفاع عن المصالح السورية التي ستتأذى بشكل واضح من عدم اكتشاف مصدر الجريمة. ولو فعلت ذلك في حينه وأشركت في التحقيق المجموعة الدولية لأثبتت براءتها حتى لو أنها لم تكشف عن الجناة. لكن التهرب من المسؤولية والتصرف كما لو أن شيئا خطيرا لم يحصل والإصرار على التبرؤ من التهمة والتشكيك بأي تحقيق يطال بعض مسؤوليها ليس موقفا سياسيا ولا يعبر عن وجود سلطة مسؤولة. فإذا أرادت السلطة السورية التي يشير إليها إصبع تقرير ميليس بالاتهام أن تبريء نفسها بالفعل مما حصل ليس أمامها إلا حلا واحدا هو أن تتحمل مسؤوليتها وأن تبادر هي نفسها إلى فتح تحقيق مواز في الجريمة وتقدم هذا التقرير لمجلس الأمن مع ما تجمعه من أدلة تثبت احتمال وجود فرضية أخرى إسرائيلية أو أمريكية أو أبو عدسية متماسكة. عندئذ لن يستفرد ميليس بالتحقيق ولن يضطر إلى سحب المسؤولين السوريين إلى الخارج ولن تستطيع أمريكا أن تستغل التحقيق الدولي لتنفيذ مآربها التي لا علاقة لها بالحريري ومقتله أصلا. أليس هذا ما يسعى إلى القيام به أي شخص يتهم ظلما، ويريد أن يدفع عن نفسه حكم المقصلة، كما يعلمنا ذلك أي فيلم بوليسي من الدرجة الثانية، فما بالك بدولة متهمة، أجهزة وقادة، بالتورط في الجريمة ولديها جميع الوسائل لمعرفة الحقيقة؟