صبحي حديدي - القدس العربي
نقلت اليومية البريطانية دايلي تلغراف هذا التصريح البليغ الذي أدلي به المناضل السوري الأبرز رياض الترك (قرابة 20 سنة من الإعتقال في عهد حافظ وبشار الأسد)، تعليقاً علي تقرير المحقق الدولي ديتليف ميليس: الآن في وسع العالم بأسره أن يري جرائم هذا النظام. ولكن ينبغي أن يعرفوا أنّ الشعب السوري عاني من الجرائم بحقّ الإنسانية ما يملأ 20 تقرير ميليس !وليس من عادة هذا الرجل الكبير، الذي استحقّ بالفعل صفة نلسون مانديلا سورية ، أن يبالغ أو يستزيد أو يجنح إلي بلاغة مفرطة، سيّما حين يتصل الأمر بطبائع الاستبداد. وبالفعل، إذا كان اغتيال الحريري و22 من المواطنين اللبنانيين قد استدعي هذا التقرير، علي ما فيه أو ما يكتنفه من ثغرات ونواقص وإشارات استفهام وتعجب، فكم من تقرير تحتاج أربعة عقود ونيف من أنماط الإستبداد العاري التي عاشها الشعب السوري منذ 1963 حين تولي حزب البعث السلطة، ثمّ بصفة خاصة منذ 1970 حين انقلب حافظ الأسد علي رفاقه واطلق تلك الصيغة البربرية من استبداد عارٍ مفتوح، منفلت من كلّ عقال، بلا حدود أو وازع، ودون رقيب أو حسيب؟ كم من التقارير، وليس التقرير الواحد، تحتاج مجزرة حماة، 1982، التي سقط فيها قرابة 20 ألف قتيل بريء؟وكم من المحققين ينبغي أن يجنّد العالم لإنصاف ذكري، وذاكرة، أبرياء آخرين من ضحايا مجازر تدمر، وجسر الشغور، وأريحا، ودير الزور، وكفر نبل، والمشارقة، وسرمدا... خلال سنوات إراقة الدماء ذاتها؟وأيّ تقرير سوف يفلح في كشف الأستار عن مجزرة القامشلي الأخيرة، حيث خرّ الأبرياء من المواطنين الأكراد صرعي رصاص السلطة، في ملعب كرة قدم؟بل أيّ ديتليف ميليس يمكن أن يخترق أستار هذا النظام الأمني، الذي يجمع بين تثاقل الديناصور وخفّة رجل المافيا ودموية السفاح، حين يكون عدد السجون في مدينتَي دمشق وحلب وحدهما 30 سجناً، وأقبية المخابرات في العاصمة السورية وحدها تتسع للتحقيق مع أكثر من ألف شخص في وقت واحد، بما يعنيه ذلك من توفير طواقم التحقيق، ومعدّات التعذيب، والوثائق، والتقارير، والمستلزمات اللوجستية الأخري (تقرير منظمة Middle East Watch)؟ وكيف سيفلح أيّ ديتليف ميليس، ألمعي شاطر ذكيّ أريب، في الإحاطة بأجهزة أمنية يزيد عددها عن 16جهازاً مختلفاً، وتتشعّب ميادين اختصاصاتها، وتتداخل صلاحياتها وتفويضاتها علي نحو عنكبوتي عشوائي، وتتضخّم أعداد العاملين فيها ولصالحها (بين 250 إلي 300 ألف عنصر)، الأمر الذي يضع رقيباً أمنياً علي كلّ 60 مواطناً سورياً؟وكم ميليس يحتاج العالم الحرّ لكي يدرك مغزي تصريح رياض الترك، عن بلد عريق جميل أصيل اسمه سورية، حكمه نظام دكتاتوري شمولي استبدادي طيلة أكثر من أربعة عقود، ثمّ مُسخت جمهوريته (التي يعود تأسيسها إلي عقود طويلة خلت، قبل سلطة حزب البعث) إلي طراز سفاحيّ من الحكم هو الجمهورية الوراثية ، قبل أن يضع الورثة المغامرون البلد علي هاوية التفكك الداخلي واستدراج الغزو الخارجي؟وفي مستوي آخر، أيّ تحقيق يمكن أن يتناول السؤال الحارق الراهن: ما الذي يتبقي من حكاية انتحار اللواء غازي كنعان، وزير الداخلية السوري، الآن وقد أوضح تقرير ميليس ـ ودون أدني هامش للريبة ـ أنّ حاكم لبنان السابق لم يكن في قفص الإتهام الظنّي بجريمة اغتيال رفيق الحريري، كما هي حال السادة آصف شوكت وبهجت سليمان ورستم غزالي؟ والآن، بعد أن ذاب الثلج وبان المرج عن الأكثر جدارة بالإنتحار ثأراً للكرامة الشخصية، هل كان التقرير الذي بثته محطة نيو. تي. في . كافياً لكي يضع رجل مثل غازي كنعان حدّاً حياته، علي ذلك النحو العنيف العجيب المريب الذي لم يكفل له حتي قماشة عَلَم سوري تلفّ نعشه؟وأمّا السؤال الآخر الأخير الذي لا يقلّ أهمية، ويجوز طرحه مثلما يتوجّب اعتماده كتتمة منطقية للأسئلة السالفة، فهو التالي: هل كان أحد، في العالم الحرّ بصفة خاصة، في واشنطن وباريس ولندن، قد اكترث بما جري في مدينة حماة، شباط (فبراير) 1982؟ بل هل كان لأحد أن يكترث أصلاً، والنظام آنذاك علي وفاق كافٍ مع أطراف ذلك العالم الحرّ ، وثمة من الخدمات الكثيرة التي يوفرها ما يبرّر التطنيش التام عن جرائمه، لكي لا نتحدّث عن تبييض صفحته بين حين وآخر، كلما تيسّر؟ وهذه الأيام بالذات، كيف استقام أنّ فرنسا استقبلت رئيس الاستخبارات السورية اللواء آصف شوكت، وتباحثت معه، رغم أنّ الأجهزة الفرنسية المعنيّة كانت علي علم تامّ بمحتوي تقرير ميليس، وكانت تعرف طبيعة الإتهامات التي تحوم حول شوكت بالذات، ليس في دائرة الأقاويل والإشاعات وحدها، بل في نصّ تقرير المحقق الدولي نفسه؟لهذا فإنّ تصريح رياض الترك ليس شكوي إلي أولي الأمر في العالم الحرّ ، بل هو شكوي عليهم وإدانة لصمتهم الطويل علي جرائم أنظمة الإستبداد العربية جمعاء، إذْ ليس بعيداً ذلك الزمن الذي شهد تستّر واشنطن علي الطغاة، واحتضان أنظمة الطغيان. نعرف مواقف البيت الأبيض، أياً كان شاغله، من الحقوق السياسية والإنسانية والدستورية للشعوب العربية، ولهذا يقلقنا ذلك القلق الذي قيل إنه أصاب جورج بوش بعد قراءة تقرير ميليس. أليس مرجحاً أن يفضي قلق سيّد العالم إلي وضع الشعب السوري علي سنديان العقوبات الإقتصادية، الواقع أصلاً تحت مطرقة الإستبداد؟ وهل علينا، نحن السوريين، وليس البتة علي نظام بشار الأسد وآصف شوكت والشركاء، ستدور دوائر ميليس في نهاية المطاف؟