حازم صاغيّة - الحياة اللندنية
ما أن يُضاء الفانوس حتى يطلع الجن: هذه ليست قصة علاء الدين السحرية وحده. إنها القصة الفعلية لمجتمعاتنا العربية.فبين محاكمة صدام حسين في بغداد من جهة، وحركة ديتليف ديتليف ميليس المنطلقة من بيروت الى دمشق فأوروبا والولايات المتحدة، والتي بلغت ذروتها بصدور التقرير، ثمة مسألة تتعدى الحيّز السياسي المباشر في انعكاسها على أوضاع العرب وأفكارهم.فلوهلة سريعة يبدو أننا بتنا، للمرة الأولى، نرى رئيساً مستبداً وطاغية كصدام حسين يمثل في قفص المحكمة متهماً. وهو ما يرقى، مبدئياً على الأقل، الى انقلاب في الحياة العربية المعهودة حيث تتراوح مساءلة الحاكم بين الندرة والاستحالة، بين الشكلية المحضة والامتناع الكلي. وللمرة الاولى، كذلك، صار تقرير القاضي يكتسب أهمية، في حياة الأفراد والبلدان، غير مسبوقة اطلاقاً. ونحن نعلم ان القاضي، تبعاً لنظام القيم المعمول به في مجتمعاتنا، ليس ذاك الشخص المؤثر والفاعل الذي يجسده العسكري، أو رجل الدين، أو ملاك الاراضي، أو زعيم العشيرة. فالصورة الشائعة في معظم بلداننا هي ان القضاة اما ألاعيب في أيدي السياسيين، أو انهم عرضة للفساد والإفساد.هذان الحدثان الكبيران يوحيان، إذاً، بأن القانون شرع يكتسب موقعاً في متن الحياة العربية لم يكتسبه من قبل، وان السلطة القضائية ربما باشرت استقلالها الفعلي عن السلطات السياسية والتنفيذية، وان هذه الأخيرة ربما صارت، هي نفسها، معرّضة للرقابة والحساب. وهو جميعاً ما لم يكن ممكناً تخيّله لولا تدخل عنصر خارجي تجسد، في العراق، بالحرب الاميركية، وفي لبنان بتشكيل لجنة التحقيق الدولية بعد المطالبة الواسعة بمعرفة «الحقيقة» في جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه.لكن المكسب المبدئي الضخم هذا يرتطم بوقائع وأحداث تحدّ منه، وقد تجعل مردوده ملتبساً، وربما خطيراً. وهنا، تحديداً، يقيم مأزقنا التاريخي.فمحاكمة صدام تكاد تبدو مصغّراً عن الحرب الأميركية: بمعنى انها جاءت، من جهة، بحرية أكبر، غير انها، من جهة أخرى، فتحت الباب لفوضى وأحقاد أكبر بدورها. وبدل العمل على ردم الهوة بين البُعدين هذين بتعزيز الغطاء الدولي، وتوسيع الاعتماد على قدرات العالم الأوسع وخبراته، استغنت الحرب والمحاكمة، سواء بسواء، عن هذا كله. فقد جاءت العدالة المحلية، لا الدولية ولا المختلطة، سيما وقد أعيد العمل بعقوبة الإعدام، لتندرج في طقس ثأري وبدائي صرخته الشعائرية: أعدموه، أعدموه...وفي المقابل، تبدو «الحقيقة» اللبنانية - السورية، وقد بدأ بإظهارها تقرير ميليس، معرضة للاصدام بالحاجز نفسه الذي تصطدم به «الحقيقة» العراقية، أي كشف صدام وتعرية نظامه بما يتعدى مذبحة الدجيل. فهي أيضاً يحف بها القلق من تداعيات قد تترك آثارها على النسيج الوطني الهش للمجتمعين اللبناني والسوري.وغني عن القول إن ضرورة معرفة «الحقيقتين»، وهي ضرورة ملحة وكبرى، ينبغي فصلها، دائماً، عن الميل الثأري ونوازع الكسب «السياسي» الصغير. بيد ان هذا كله يبقى وعظاً حميد النوايا ما لم تبادر المجتمعات المعنية نفسها الى البرهنة على ذلك. والحال، وهو ما يزيد الالحاح على موقف المجتمعات، ان الحقائق الكبرى التي يريد القضاء كشفها ليست سوى الفوهة التي تقيم تحتها براكين كثيرة يناط كشفها بالثقافة والأفكار والاجتماع: فرفيق الحريري ما كان يمكن أن يُقتل لولا النظام الذي قام منذ الطائف، والذي ما كان ممكناً ان يقوم لولا الحرب الأهلية التي استدعتها تراكيب وعواطف وتواريخ. والشيء نفسه يمكن قوله في مذابح صدام حسين التي نفذها نظام «استدعاه» التاريخ العراقي الحديث المترجّح بين وحدة وطنية تنشأ بالقسر والقوة ونزعة عدالية تهجس بالتفتت والفوضى. وفي الحالين، يُعدّ التستّر على «الحقيقة» جزءاً من منظومة حكم وسلطة يمارسان التزييف بقدر ما يخدمان غلبةً أهلية واجتماعية ما. وعلى النحو هذا، لا تعود «الحادثة» التي يتعامل معها القانون حادثة قانونية، ولا حتى سياسية، بأي معنى موضعي. ما يحصل، في المقابل، أن المنعطفات الكبرى، في القانون كانت أم في السياسية، تغدو وثيقة الصلة بالعناصر التكوينية والأصلية.وهنا تكمن المشكة التي فاقمها، في حال العراق، الاحتلال الأميركي الا انه، حكماً، ليس من أوجدها. فكيف نتقدم نحو القانون دون ان تنفجر في وجوهنا تواريخنا؟ وكيف نعرف الحقيقة دون ان نتحسّر على زمن الجهل و «طمأنينته» والمضيّ «ننعم» «في الجهالة، حسب وصف المتنبي الشهير»؟وفي انتظار الاجابتين اللبنانية والسورية، يمكن القول ان الاجابة العراقية لم تكن مما يُعتد به.