صبحي حديدي - القدس العربي
غياب وزير الداخلية السوري اللواء غازي كنعان علي هذا النحو العنيف، سواء نُحر أم انتحر كما لا مناص من الترجيح، هو طارئ جلل ليس في ما يخصّ تقرير المحقق الدولي ديتليف ميليس وجريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري فحسب (فالرابطة هنا تحصيل حاصل وأشبه بالتعاقب المنطقي للعواقب)، بل في ما يخصّ بنية النظام الحاكم لجهة آلة الإستبداد والتوازنات الداخلية ومحاصصات القوّة في مستوي الحلقة الضيّقة التي تحكم سورية اليوم أوّلاً، ثمّ آفاق بقاء أو تغيير أو تبديل النظام إجمالاً، ثانياً واستطراداً.ومن الخير أن نبدأ بمعني الطارئ هنا، إذْ ليس من المألوف أن تُغيّب أو تغيب ركيزة أمنية كبري مثل كنعان في هذه الظروف بالذات من عمر نظام الحركة التصحيحية ، والمعمار الأمني والعسكري والسياسي الذي شيّده حافظ الأسد لبنةً لبنة وجهازاً بعد جهاز وتالعاً بعد آخر، يوماً بعد يوم وسنة إثر أخري. ذلك لأنّ انتحار، أو نحر، رئيس الوزراء السوري الأسبق محمود الزعبي، في أيار (مايو) 2000، ليس سابقة مماثلة بالنظر إلي أنّ موقع كنعان في جهاز السلطة، فضلاً عن سجلّ خدماته وحجم نفوذه وطبيعة تأثيره في دائرة الحكم، لا تُقارن علي أيّ نحو بما كان يُلقي للزعبي من فتات الصلاحيات والسلطة.الطارئ، إذاً، أن يكون تغييب أو غياب رجل مثل كنعان ـ وعلي هذا النحو غير السلمي وغير السلس، والعنيف كما ينبغي أن نتذكّر دائماً ـ هو الحلّ الوحيد تماماً، المتبقيّ أمام الساعين إلي معالجة مأزق ما، وخيم العواقب أو كارثيّ ربما، مقترن علي نحو أو آخر بالرجل، ويستعصي الخروج منه أو إيجاد حلول له إلا برحيل كنعان. والطارئ أن يقدّر أهل النظام أنّ اللجوء إلي حلّ كهذا ليس ممكناً فحسب، بل في الوسع اعتماده كسابقة في معالجة مآزق مماثلة، رغم ما ينطوي عليه من أخطار جسيمة تمسّ بنية النظام ذاتها، للمفارقة! وليست نتائج تقرير ميليس، أياً كانت آثارها المحتملة علي حال النظام الراهن أو المستقبلي، هي من طراز المأزق الذي تقصده السطور السابقة. ولدينا، في كلّ حال، دالة واحدة ذات مغزي هام في هذا الصدد، يحدث أيضاً أنها تأتي من مسؤول أمريكي رفيع، وتتحلي في الآن ذاته بمقدار من المصارحة (أو الوضوح الأسود، إذا جاز القول) يندر أن تتصف به التصريحات الأمريكية الرسمية. فقد رفض آدم آيرلي، الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية، إقامة أية صلة بين انتحار كنعان وتقرير ميليس، بل أعرب عن قناعة ـ وليس ترجيحاً من أيّ نوع ـ بأنه من المستحيل وجود علاقة بين الأمرين ، ليس لسبب آخر سوي أنّ بلاده تعرف ما سيتضمنه التقرير! وفي التصريحات ذاتها، إلي المؤسسة اللبنانية للإرسال، LBC، رفض آيرلي أيّ تحليل يفترض أنّ كنعان ذهب ضحية صفقة أمريكية ـ سورية، وتابع يقول: هذا الكلام مناف للعقل .ولعلّ الرجل علي حقّ، بالفعل، إذْ لم يكن كنعان يصلح مادة لصفقة تنطوي علي تقديم كبش فداء، والأرجح أنه لم يكن في رأس لائحة الحلقة الأضيق من المسؤولين السوريين المرجّح تورّطهم في اغتيال الحريري. والمرء، هنا، يتذكر ما تردد آنذاك من روايات تفيد أنّ قرار اغتيال الحريري نوقش، وحُسم، في اجتماع حلقة الستة ، أيّ دائرة الحكم الأضيق التي تضمّ، إلي جانب بشار الأسد، كلاً من شقيقه العقيد ماهر الأسد، واللواء آصف شوكت (الذي سيصبح رئيس جهاز الاستخبارات)، واللواء غازي كنعان، واللواء بهجت سليمان (وكان آنذاك رئيس الفرع 251 والرجل الأقوي في جهاز المخابرات العامة)، وعبد الحليم خدام. الأقوال ذاتها أفادت أنّ كنعان وخدام كانا بين المتحفظين علي قرار الاغتيال، الأمر الذي نستطيع التماس بعض منطقه في حديث وليد جنبلاط، يوم أمس، أنّ كنعان كان ضدّ قرار التمديد للرئيس اللبناني لحود، فضلاً عن تلميحاته إلي (دون التجاسر علي تسمية) خدّام بوصفه أحد كبار أصدقاء لبنان السوريين الذين اعترضوا علي التمديد.فإذا جاز غياب الرابط، إلا بمعني تحصيل الحاصل والتعاقب المنطقي للعواقب، بين رحيل كنعان وتقرير ميليس، فإنّ هذا الحدث الجلل علي صلة مباشرة بالشروط الراهنة التي تحكم آلة الإستبداد والتوازنات الداخلية ومحاصصات القوّة في مستوي الحلقة الضيّقة الحاكمة. وأذكر، واستميح القارئ عذراً إذْ أذكّره، بأنني في التعليق علي المؤتمر القطري السادس لحزب البعث توقفت عند قرار بشار الأسد نقل اللواء بهجت سليمان إلي المقرّ العام ، أي كفّ يده عن أيّ نفوذ في جهاز المخابرات العامة عملياً. ولم أعتبر أنّ هذا القرار هو الأخطر في حزمة القرارات الأمنية التي اتخذها الأسد ضمن إجراءات ترتيب البيت الداخلي، لأنّ محاق سليمان كان مضطرداً، ومنطقياً خلال الفترة السابقة (الأمر الذي سبق لي أن أشرت إليه أيضاً)، لأسباب تخصّ ضرورات تثبيت سلطات وزير الداخلية غازي كنعان، وتحييد جهاز المخابرات العامة لكي لا يظلّ سلطة ثالثة عالقة بين كنعان وآصف شوكت (آل الأسد، وبشري الأسد قرينة شوكت خصوصاً، ثمّ إدارة المخابرات العسكرية عموماً).ولقد رجحت آنذاك أنّ يكون هذا القرار تسوية رئاسية توافقية، مع اللواء شوكت وبرضائه علي الأرجح، وبالنظر إلي أنّ هذه قد تكون فرصته الأنسب لمغادرة السفينة الموشكة علي الغرق، تماماً كما فعل نائب الرئيس عبد الحليم خدّام حين تنحي طائعاً. الأسئلة الأهمّ ظلّت، مع ذلك، قائمة: هل سيتوافق الرجلان، كنعان وشوكت، علي محاصصة للقوّة ملائمة للطرفين؟ وإلا، إذا تنازعا، لمَن سيُعقد السبق؟ للأوّل، كنعان، الرجل الأكثر خبرة في شؤون أمن النظام، داخلياً ولبنانياً وإقليمياً، وآخر مَن تبقي من أعوان حافظ الأسد الذين تتلمذوا علي يديه؟ أم الثاني، شوكت، المستجدّ علي الجهاز والنظام، والذي لم يبدأ من أية مواصفات أخري سوي أنه صهر الرئاسة؟ وأخيراً، هل دفع كنعان ـ سواء برصاصة في فمه، أم برصاصة في صدغه! ـ ثمن رفضه تسليم سلطاته إلي رجال شوكت، أو التسليم بما رتبوا أو يرتّبون قبيل دنوّ العاصفة، أو بغية الهروب منها إلي أمام؟ فلنعدْ بالذاكرة، خدمةً لرفد الافتراض بالقرينة، إلي سنة 2002 حين صدر قرار نقل كنعان من إدارة الاستخبارات السورية في لبنان، إلي رئاسة إدارة الأمن السياسي في سورية. لقد بدا حينذاك أنّ مهمة كنعان الجديدة تقوّي فريق بشار الأسد من جانب أوّل، ومن جانب ثانٍ تقيم توازناً أفضل بين الأجهزة الأمنية عن طريق استقدام ضابط كان بين الأكثر اطلاعاً علي أسرار العمل الأمني في عهد الأسد الأب. لكنّ المفارقة ظلّت ماثلة. فهل جاء كنعان للاستيلاء علي بعض أو معظم الصلاحيات الممنوحة إلي قدامي المحاربين في الأجهزة الأمنية، علي نحو يوحّد العمل الأمني ويحصر القسط الأعظم من المرجعية في مركز ثنائي القطب (غازي كنعان نفسه، وبشار الأسد)؛ أم جاء للحدّ من، أو ترشيد ، الصلاحيات المبعثرة، الغامضة التي يلوح أحياناً وكأنها تتفرّق أيدي سبأ، بين عدد من الأجهزة الأمنية التي لا ينسّق واحدها مع الآخر، كما تذمّر بشار الأسد نفسه في الأشهر الأولي من استلامه الرئاسة؟ ومَن يضمن أنّ احتدام الصراع بين زيد أو عمرو، هنا أو هناك في أطراف الجسد الأمني الديناصوري المتورّم هذا، لن يفضي إلي القتال بالسلاح الأبيض؟والحال أنّه وقعت حادثة ذات دلالة خاصة، رغم أنها لم تكن تبدو هامة، أشارت إلي اندلاع الصراع بين صلاحيات وسلطات كنعان، وصلاحيات وسلطات أجهزة الأمن الأخري خارج نطاق عمل الأمن السياسي (أي المخابرات العسكرية والمخابرات العامة). وهذه الحادثة كانت اعتقال المخابرات العسكرية للصحافي السوري إبراهيم حميدي، مدير مكتب صحيفة الحياة في دمشق، بقصد تقديمه إلي محكمة أمن الدولة بتهمة انتهاك المادة 51 من قانون المطبوعات الجديد ، أي تهمة نقل أخبار غير صحيحة. وكان الحميدي فد نشر تقريراً يتحدّث عن توجيهات رئاسية لاتخاذ إجراءات تسمح باستقبال مليون لاجئ عراقي في حال غزو الولايات المتحدة للعراق، الأمر الذي نفاه رسمياً مكتب رئيس الوزراء السوري.أكانت هذه هي حقيقة الأمر؟ كلا، بالطبع، إذْ يصعب أن يكون هذا السيناريو كافياً وحده لتفجير الحكاية علي النحو الدراميّ الذي تضمّن فرار الزميل إلي لبنان بعد أن نُصح بـ التواري بعض الوقت ريثما يهدأ غضب مسؤول أمني كبير (تبيّن فيما بعد انه كنعان) اعتبر أنّ علي الحميدي العودة إليه قبل إرسال أيّ تقارير صحافية حساسة تتناول الشأن الداخلي السوري. في ما بعد اتضح أنّ الحميدي وقع في قلب تقاطع النيران، وفي الوسط من معترك ارتطام الصلاحيات بين مسؤولي الأجهزة الأمنية، وتوجّب أن يدفع ثمن اختلاط الأوراق وانقلاب المرجعيات وتبدّل الولاءات. تلك كانت أولي النُذُر بأنّ معركة كنعان من اجل توحيد القرار الأمني في البلد لن تكون يسيرة، في عهد رجال من أمثال حسن خليل (الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية) وبهجت سليمان، فكيف في عهد صهر الرئاسة آصف شوكت؟ وكيف بعد أن بات النظام جاراً للغزو الأمريكي في العراق؟ وكيف، بعد اغتيال الحريري؟ وكيف...؟ وكيف...؟وهكذا، في ما يخصّ الآثار التي ستخلّفها سابقة تغييب أو غياب كنعان علي مستقبل النظام، نستعيد أحد تفسيرات بقاء نظام بشار الأسد علي درجة من التماسك النسبي، والذي يقول إنّ الحرس الفتي (الذي كان ينبغي أن يمثله بشار الأسد، مبدئياً، ويضمّ المقرّبين منه، وكتائب الحرس الجمهوري، وبعض الأجهزة والوحدات العسكرية الخاصة) تصالح سريعاً مع الحرس القديم الذي كان يمثله خدّام في الواجهة، وضمّ في الخلفية جميع الذين يطالبون بحصّة في الإرث، من قادة الأجهزة الأمنية الأربعة (العسكرية، العامة، القوي الجوية، الأمن السياسي)، إلي رئاسة أركان الجيش وقادة الفرق العسكرية، وصولاً إلي الأفيال والتماسيح الكبار والصغار في قيادة الحزب ومؤسسات القطاع العام.غير أنّ تلك الشروط كانت تخصّ مراحل السلم بين الأطراف، حيث تسود قوانين المحاصصة وتقاسم القوّة وتوزيع النهب، وليس مراحل القفز سريعاً من السفينية الغارقة، حين أخذت لائحة الناجين تتضاءل وتنكمش. الأرجح، بذلك، أنّ كنعان قضي لأنه رفض مغادرة السفينة علي نحو ما فعل بهجت سليمان وعبد الحليم خدام (وقبلهما، راضياً أم صاغراً، أمثال حكمت الشهابي، ناجي جميل، علي دوبا، علي حيدر، رفعت الأسد، محمد الخولي...)، ليس فقط لأنّ حصّته فيها تأسيسية أساسية وأكبر بكثير من أن يقبل التنازل عنها لأمثال آصف شوكت وماهر الأسد وبشري الأسد، بل أيضاً لأنها لم تعد قابلة للبيع أو التأجير.أو ربما لأنّ جهة ما نافذة، أقليمية أو دولية، أرتأت تأجير السفينة بمَن بقي فيها، إلي مستأجر أقلّ شأناً من كنعان، وإنْ كان يفوقه دموية واستعداداً للبطش!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق