الأربعاء، أكتوبر 12، 2005

نظام الفرص الضائعة.. مرة أخرى

برهان غليون - الاتحاد الإماراتية
ليس هناك شك في نظري في أن سوريا قد أضاعت في السنوات الخمس الماضية أكبر فرصة تاريخية عرضت لها في سبيل الخروج مما يقارب نصف قرن من التقوقع والانغلاق والتقهقر في معايير المعيشة والمعاملة والحكم والحياة عموما وفي النهاية الترهل والتعفن والفساد· فقد توفرت للنظام الجديد شروط داخلية وخارجية لم تتوفر لأي نظام آخر، بما في ذلك النظم المحسوبة على الغرب منذ عقود طويلة· فقد كان الشعب خائفا فعلا من أن يؤدي التغيير إلى انقلاب واضطراب في السلام الأهلي فوجد في تبني الحكم مشروعا للإصلاح التدريجي مخرجا استثنائيا لأزمة البلاد· ولم يكن موقف الدول الأوروبية والولايات المتحدة مختلفا عن ذلك كثيرا· فقد اعتقدت هي أيضا أن إصلاح النظام من الداخل يوفر عليها مخاطر كبيرة ويمكنها من الاستفادة في الوقت نفسه من إمكانيات النظام وخبرته الطويلة في محاصرة بؤر الإرهاب والعنف المتنامية في المنطقة والعالم· وكان من المنتظر أن يستفيد الحكم السوري بشكل كبير من المراهنة القوية التي وضعها التكتل الغربي، الأميركي والأوروبي، عليه وعلى استمراره ويوظفها في إطلاق مشروع إصلاح كبير يمكن سوريا من أن تتحول إلى رائدة في المنطقة عن طريق الجمع بين الرعاية الاستثنائية التي يحظى بها من قبل الدول الصناعية الكبرى من جهة وما تتمتع به سوريا من موقع وموارد بشرية تحسد عليها وما يحظى به شعبها أيضا من تقدير واحترام لدى جمهور واسع في العالم العربي وخارجه أيضا بسبب نضاله وتراثه الحضاري العريق من جهة ثانية· لكن عاملين قويين ساهما في تبديد تلك الفرصة قبل أن يدفعا إلى تغيير الموقف من النظام السوري من النقيض إلى النقيض، فيحولانه من موضوع رعاية وعطف شاملين إلى موضوع نقمة ورفض قاطعين، في الداخل والخارج على حد سواء، وتقريبا في الوقت نفسه· العامل الأول داخلي يتلخص في نظري في ما تميزت به القيادات المختلفة في الحزب والإدارة العسكرية والمدنية من سوء قراءة للأحداث، وعجز عن تجاوز المصالح الضيقة السائدة في النظام بالإضافة إلى قدر كبير من انعدام الخبرة السياسية والسقوط في حمى المزايدات الرخيصة بالوطنية لقطع الطريق على المعارضة الداخلية وتجنب فكرة المشاركة· أما العامل الثاني فهو من دون شك ما تميزت به السياسة الاميركية بعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 من تخبط واضطراب· فبينما حالت مثالب النظام دون تحقيق الحد الأدنى من التغيير والإصلاح المنشود وبالسرعة المطلوبة لوقف مسار التدهور المتواصل في المناخ السياسي وشروط الحياة المعنوية والمادية والاجتماعية، جاءت السياسة الهجومية الرعناء لإدارة الرئيس الجمهوري لتعيد الأجندة الوطنية والقومية إلى مركز الأولوية في تفكير الجمهور الواسع، مما أضعف قضية المعارضة الديمقراطية ودفع النظام إلى الاعتقاد أن بإمكانه مقايضة استحقاقات التغيير والإصلاح الداخليين برفع الشعارات الوطنية والعزف على وتر العداء للاستعمار والإمبريالية والالتفاف حول السلطة في مواجهة الأخطار الخارجية· أثار إخفاق النظام في التكيف مع الوضع الجديد وتمسكه بصيغته وسياساته القديمة المتسمة بالانغلاق وعدم الشفافية والتكور على النفس والشك بأي تغيير خيبة أمل عميقة لدى العواصم الغربية وليس فقط في وسط الرأي العام السوري· ولم يحصل ذلك دفعة واحدة وإنما كان ثمرة تراكم خبرة السنوات الخمس الماضية جميعا· فقد كان للاعتقالات والعقوبات غير المعقولة وغير المقبولة بأي معيار دولي للناشطين السياسيين والمدنيين وفي مقدمهم الشخصيات الثمانية الذين شاركوا في ندوة منتدى الحوار الوطني للنائب رياض سيف في الخامس من سبتمبر 2001 أثر سلبي جدا على رصيد النظام الخارجي· وجاء استمرار عمليات الاعتقال وعجز النظام عن إيجاد صيغة مقبولة للتعامل مع حركة المجتمع المدني التي كان العالم الخارجي ينظر إليها بتفاؤل في سبيل مساعدة النظام القديم على الخروج من جموده بصورة تدريجية وسلمية وتصاعد إجراءات القمع وتكميم الأفواه وإخفاق المؤتمر العاشر لحزب البعث (يونيو 2005) الذي مثل فرصة أخيرة في مراجعة الحساب وتبديل السياسات القديمة وإنقاذ مشروع التغيير لتقنع الرأي العام السوري والغربي بأنه لا أمل يرجى من الحكم الجديد في تحقيق أي إصلاح· وبدأ صبر المتعاطفين المحليين والشركاء الغربيين ينفد بسرعة، وخلف الحماس للنظام الجديد والتفاؤل بقدومه حرقة وندماً على ما تم من استثمار فيه ورهان عليه· ومع ذلك لم يتخذ التحالف الغربي أي موقف سلبي من النظام، وظل يدعو للتعامل الإيجابي معه إلى فترة قريبة· إن الأيام الصعبة للنظام لم تبدأ إلا على إثر القطيعة التي حصلت بينه وبين حليفه الرئيسي في الغرب، فرنسا، بسبب تمديد ولاية الرئيس اللبناني لحود من دون تفاهم مع الحلفاء بل ضد إرادتهم وبالرغم من تدخلاتهم لدى النظام السوري لوقف هذا المسار كما ذكرت الصحافة مرارا في ما بعد· فبتخلي فرنسا عن النظام ومن ورائها أوروبا وتصاعد شكوك واشنطن بعدم جدية التعاون السوري وباحتمال خسارتها للحملة المكلفة في العراق أصبح الطريق سالكا لتكوين تحالف أوروبي أميركي ضد دمشق· وهو ما كان عليها أن تحول دونه بأي ثمن·وعلى الأغلب أنه حتى بعد هذه القطيعة الخطيرة مع الحليف الفرنسي، لم تكن فرص الخروج من المأزق الذي كان يسير إليه النظام قد استنفدت تماما في نظري· فقد كان الغربيون وربما لا يزالون يعتقدون أن التعكيز على نظام بعثي خير من المغامرة بتغيير غير مضمون النتائج كما حصل في العراق· لكن جاء اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتوجيه إصبع الاتهام إلى النظام الأمني السوري اللبناني لينهي عصر التسامح والتعامل الإيجابي الطويل مع الغرب· لقد أصبح من الواضح أنه لم يعد لأي طرف مصلحة في الإبقاء على النظام· فالولايات المتحدة التي تعيش هوس هزيمة عسكرية منكرة في العراق تجد في هذه الواقعة فرصة لا تقدر بثمن كي تحول النظام السوري إلى كبش فداء وترمي عليه المسؤولية كلها في إخفاقها الذريع هناك· كما أن فرنسا تبدو مقتنعة الآن بأن الحديث عن إصلاح النظام هو مضيعة للوقت· وجاءت السياسات الأمنية المتشددة في الأشهر الأخيرة لتعزز هذا الاقتناع وتزيل أية أوهام عند من كان لا يزال يعتقد بحصول المعجزة· باختصار، في حالة الضعف التي وصل إليها النظام، لم يعد أحد، لا في الولايات المتحدة ولا في أوروبا يشعر بمصلحة في إعادة الحوار معه أو الرهان عليه، وذلك بصرف النظر حتى عما إذا كان مسؤولا بالفعل عن اغتيال الحريري ودعم قوات التمرد في العراق أم كان بعيدا عن ذلك·

ليست هناك تعليقات: