الاثنين، أكتوبر 03، 2005

جورج كتن_ غزة غابة سلاح أم نموذج لدولة فلسطينية قادمة

أكدت مجموعة من الأحداث في قطاع غزة قبل وبعد الانسحاب الإسرائيلي أن هناك قوى فلسطينية تعمل لكي تدب الفوضى في غزة لتتمكن من تنفيذ مخططاتها.فمنذ حوالي الشهرين خرقت منظمة حماس اتفاق التهدئة واستأنفت عملياتها وإطلاق صواريخها ضد المدنيين داخل إسرائيل, ثم تحولت إلى هجمات مخططة على مراكز السلطة الفلسطينية وكوادرها في محاولة لمنعها من ممارسة مهامها. وحتى بعد الفشل لم ينته سعي الفصائل المسلحة لهدفين: اولهما نسف اتفاقية التهدئة وإنهاء المسيرة السلمية البادئة مع انتخاب الرئيس عباس, وثانيهما إضعاف السلطة وإظهارها عاجزة عن تحقيق الأمن تمهيداً لإسقاطها أو حصر دورها في أمور الخدمات ونقل مهماتها السياسية إلى "قيادة موحدة" غير منتخبة حيث يحدد عدد البنادق الأصوات المقررة لكل فصيل.الأوضاع الخارجة عن السيطرة حولت غزة إلى غابة, وكان أبشع استعراض للقوة المسلحة جريمة اغتيال اللواء موسى عرفات القائد السابق للمخابرات العسكرية أوائل أيلول، الذي اعترفت "لجان المقاومة الشعبية – ألوية الناصر صلاح الدين" على لسان المتحدث باسمها "بتصفيته.. دون الحاجة للتحقيق معه.. كونها تملك حقائق.. حول ارتكابه جرائم وفساد"!! إذ هاجم منزله مئة عنصر بالرصاص والقنابل، وأطلقوا النار على أرجل حراسه "حرصاً على الدم الفلسطيني"!! ونصبوا أنفسهم وكلاء لله ونفذوا شرعه!! مع التصريح بأن لدى اللجان برنامج عمليات من نفس النوع لمكافحة الفساد. في الغابة يبدو الأمر طبيعياً أن يأخذ المسلحون المنفلتون القانون باليد، بعد تجميد السلك القضائي الذي تعرض أفراده لتهديدات مختلفة منها تفجير عبوة ناسفة أمام منزل زهير الصوراني رئيس مجلس القضاء الأعلى وأخرى أمام منزل حسين أبو عاصي النائب العام، وعندما اعتقلت السلطة بعض المنفذين المعروفين للجميع، قامت مجموعات مسلحة بالإفراج عنهم بقوة السلاح. ولم يسلم من هذه التهديدات قضاة ووكلاء نيابة ومحامين بحيث ضاعت هيبة القضاة وحريتهم في إصدار أحكامهم.مسلسل الأحداث الإجرامية أحصته "الهيئة المستقلة لحقوق المواطن في رام الله" فبلغ منذ بداية العام الحالي مئة عملية اغتيال، منها خاصة قتل الصحفي خليل الزبن, وقتل "مطوعون"حماسيون ليسرى العزامي لتنزهها مع خطيبها على شاطئ البحر! واختطاف محمد ضيوفي الصحفي الفرنسي من أصل جزائري، وإلقاء عنصر من حماس لقنبلة على عرس مما أدى لمقتل فتى، بعد تحذير من إقامة "حفلات ماجنة" كما في المنشورات التي وزعت!! بالإضافة لتخزين حماس لمتفجراتها في بنايات سكنية مما أدى لتفجر مستودعها في حي الشجاعية بغزة وقتل سبعة من السكان الآمنين وجرح أعداد كبيرة.وآخر الحوادث المفجعة مقتل 19 وجرح ما يزيد عن مائة فلسطيني, إثر تفجر سيارة تحمل ذخائر ومتفجرات، مشاركة في العرض العسكري لحماس في جباليا. وبدل أن تعترف قيادة حماس بخطئها وتتعهد بمحاسبة المسؤولين عنه, سارعت لاتهام صاروخ إسرائيلي بإحداث الانفجار، فيما أثبت تقرير الفنيين أن شظايا الانفجار من النوع المستخدم في صواريخ القسام، وأن تصريح الناطق الإعلامي لحماس بمشاهدته للصاروخ بأم عينه كاذب, إذ يستحيل متابعته لسرعته الهائلة ولعدم وجود لهيب يتبعه كما لا يسمع له صوت. ولكي تعزز حماس روايتها عن مسؤولية إسرائيل، أطلقت بلا تروي صواريخها على مستوطنة سيديروت فنقضت التهدئة وأعطت الذريعة لاستئناف العدوان الإسرائيلي على الضفة والقطاع.إن فوضى السلاح والانفلات الأمني وأخذ السلطة باليد والاستعراضات العبثية المميتة وإطلاق الصواريخ الشكلي وتخزين المتفجرات في المناطق الآهلة بالسكان وتطبيق كل مجموعة مسلحة للعدالة حسب مفهومها لها... الذي تتحمل المسؤولية الأكبر فيه منظمة حماس, سيحول غزة إلى صومال أخرى تحكمها العصابات المسلحة، فكل من يريد أن يكون له وزن ودور ونفوذ، يسعى لتوسيع عدد أنصاره الذين يحملون البنادق ويقومون باغتيال المنافسين "حسب شرع الله"!!. وهذا ما دفع السيد فاروق القدومي للإعلان عن تشكيل "جيش شعبي" تابع له داخل الأراضي المحتلة بعد شعوره بضعف نفوذه السياسي، وليس من الصعب تسليح هذا الجيش فسوق السلاح في غزة مفتوحة، وقد انخفضت أسعاره إثر الانسحاب وتدفق آلاف الفلسطينيين من القطاع إلى مصر, علما أن ناشطين من حماس فجروا الجدار الإسمنتي للحدود لفتح ثغرات فيه مما سهل تهريب الأسلحة.السلطة الفلسطينية المنتخبة المسؤولة عن تحقيق الأمن للمواطن تقف شبه عاجزة أمام هذه الحالة المأساوية ولم تفعل الشيء الكثير لوضع حد لترديها، فهي تستنكر الجرائم وتتحدث عن تثبيت سيادة القانون وتهدد الجناة المعروفين غالباً, ويصرح رئيسها أن إنهاء فوضى السلاح هو البند الأول على جدول أعمالها، إلا أنها لم تقم بالحد الأدنى المطلوب، فقد أكثرت من التصريحات المنددة والمهددة وأقلت من العمل الجاد لتنفيذها, ولم تبرهن أنها قادرة على ضبط الأمن، ولم تتجرأ على البدء بحملة للإمساك بالمسؤولين عن الفلتان وإحالتهم للقضاء وجمع الأسلحة من الجميع بما فيه الفصائل المسلحة التي شجعت هذه الحالة باستهتارها بالسلطة عندما اعتدت على مراكزها وإفرادها.فشلت منظمة حماس حتى الآن في نسف العملية السياسية، وفشلت في دعوتها لتشكيل لجنة قيادية كبديل للسلطة للإشراف على الانسحاب، كما فشلت في التشويش على الانسحاب الإسرائيلي وإظهاره بأنه جرى تحت نيرانها، وفشلت في إظهار قوتها في الاستعراض العسكري الذي تحول إلى كارثة، وفشلت كنتيجة لكل ذلك في الحصول على أغلبية في الانتخابات البلدية الأخيرة ومن المرجح أنها ستفشل في الانتخابات التشريعية القادمة. وإذا كانت قد نجحت في شيء فهو استمرار التسبب بالنزيف الدائم للشعب الفلسطيني وتدفيعه أثمان غالية كنتيجة لإطلاق صواريخ دعائية غير مؤثرة، كما نجحت في بث الفوضى في القطاع وهو ما يلتقي مع أحد أهداف الانسحاب الإسرائيلي من غزة. ولا ندري إن كانت تصريحات قادتها منذ أيام عن التزام التهدئة المتفق عليها ووقف عملياتها انطلاقاً من قطاع غزة، هو مناورة لامتصاص النقمة بعد فاجعة استعراض جباليا, أم هو بداية لمراجعة سياساتها الخاطئة في إعطاء الذرائع للعدوان الإسرائيلي وعرقلة قيام السلطة بضبط الأمن, وبداية للتحول عن السياسة التي تنبع من فوهات البنادق ومن التفجيرات غير المسؤولة في أوساط المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين.هناك برأينا خياران في الساحة الفلسطينية بعد الانسحاب من غزة: أحدها برنامج حماس لتحويل الانسحاب إلى بداية لمرحلة أخرى من الصراع المسلح الفاشل مع إسرائيل، أي مزيد من الكوارث والفواجع للشعب الفلسطيني, والآخر تحقيق برنامج الأغلبية الفلسطينية التي صوتت للرئيس عباس في الانتخابات الرئاسية ولفتح في الانتخابات البلدية، بافتتاح مرحلة جديدة بعد الانسحاب تحقق الأمن والاستقرار وتوطد سيادة القانون وتنهي فوضى السلاح وتوقف العسكرة العبثية التي تعطي الذرائع للتطرف الإسرائيلي، والعودة لطاولة المفاوضات والاستفادة من الضغوط الدولية لإنهاء الاحتلال وإقناع الأغلبية الإسرائيلية التي صوتت لصالح الانسحاب وفك مستوطنات غزة بالموافقة على انسحابات أخرى أوسع في الضفة والقدس، والتصدي للفساد والبدء في إعادة الإعمار وانتشال المواطنين من أوضاعهم المعيشية المتردية، وإثبات أن الشعب الفلسطيني يستحق دولة وهو قادر على حكم نفسه، وأن غزة نموذج لدولته القادمة التي ستضم كافة الأراضي المحتلة عام 1967.

ليست هناك تعليقات: