الجمعة، ديسمبر 02، 2005

واشنطن تشارك دمشق استراتيجية «الهروب الى أمام»

راغدة درغام - الحياة
توجد أخطاء جذرية مشتركة في السياسة السورية نحو لبنان والسياسة الأميركية نحو العراق تشمل اعتقاد القيادتين الأميركية والسورية بأن «الهروب الى أمام» وسيلة ناجحة لتوفير الغطاء لعقدة «لن نهرب» أمام إما التفجيرات في العراق أو نتيجة الضغوط الدولية في لبنان. كلا القيادتين في حاجة للاقرار بالواقع الذي تتهربان وتهربان منه، والا فإن تراكم أنماط الانكار سيزيدهما تورطاً بدلاً من اقتلاعهما من الورطة. وعليه، ما قد يفيد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش هو الاعتراف بأن «ترقيع» الثقوب في سياساته نحو العراق لن يخرجه من المأزق ولن يوقف انزلاق أميركا في المستنقع. وما قد يفيد الرئيس السوري بشار الاسد ان يدركه هو أن العالم أجمع يحدق في ثقوب السياسة السورية ويستغرب كيف يمكن للقيادة السورية ان تتصور ان أحداً لا يرى الثقوب وأنها قدرت على ترقيعها حقاً.
حال البلبلة والذعر في دمشق لا تخفيها محاولات الاستعلاء على «الاذعان» للقرارات الدولية ولا محاولات «التذاكي» على تطبيقها. فإما ان هناك توجهين داخل القيادة السورية بتنسيق مدروس في لعب الأدوار، أو ان هناك مواجهة داخل القيادتين ومحاولات لإخفائها.
وفي الحالين فإن الرسالة التي تتلقاها الأسرة الدولية هي ان دمشق في هرب وتهرب لأسباب تثير الريبة حتى عند الذين سبق واعتقدوا أن اتهام مسؤولين سوريين بالتورط في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري أتى ضمن «أجندة» اميركية معادية لسورية. فهؤلاء يستغربون لماذا كل هذه البلبلة والتفاوضات على الشكليات والمكان والزمان لاجراء المقابلات اذا كانت البراءة قاطعة.
ديتليف ميليس، القاضي الألماني الذي كلفه مجلس الأمن ترؤس «اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في العمل الارهابي» الذي أودى بحياة الحريري ورفاقه، بات في القاموس السوري راية العداء التي ترفع أثناء حشد الوطنية والقومية. فهناك تظاهرات ضده، منظمة أو بترخيص، وكذلك أغان ومسرحيات وأناشيد جعلت منه رمزاً للرفض باسم السيادة. انما رفض ماذا، في نهاية المطاف؟ فالذي طالب به مجلس الأمن في القرار الذي أصدره بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة هو أن تلبي الحكومة السورية كل ما يطلبه منها رئيس «اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق» ان كان ديتليف ميليس أو من يحل محله. وهذا يعني تقديم «المشتبه بهم» الى الاستجواب ووضع «الشهود» أمام التحقيق.
لهذا تخطئ القيادة السورية وكذلك النخبة التي تتظاهر ضد ميليس عندما تقنن الأمر بالقاضي الألماني وتشهّر به وتشن الحملات عليه. تخطئ لأن من قد يأتي رئيساً لـ «اللجنة الدولية المستقلة» التي انشأها مجلس الأمن بموجب القرار 1595، بعد أن يغادرها ديتليف ميليس، سيجعل الترحّم على أيام ميليس نشيداً. فلقد سبق للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين ان أطلق حملة، دعمته فيها أوساط عربية إعلامية ونخبوية، ضد السويدي رالف اكيوس الذي ترأس اللجنة المكلفة بإزالة أسلحة الدمار الشامل (انسكوم) وجعلت منه «الشيطان الشرير». ثم جاء الاسترالي ريتشارد بتلر ليترأس «انسكوم» بعد اكيوس ويسحب رجال انسكوم سراً من العراق قبيل الهجوم الأميركي العسكري في عهد الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون.
فديتليف ميليس لا يريد البقاء على رأس «اللجنة الدولية» على أي حال بعد انتهاء ولايتها في 15 الشهر المقبل، لكنه قد يلبي المناشدة له بالبقاء.
رغبته بإنهاء علاقته بالتحقيق في اغتيال الحريري ليست عائدة الى استنكار تصرفات الأمين العام كوفي انان التي اثارت التساؤلات ووصلت الى مرحلة تجاوزات ليست في محلها عندما تركت الانطباع لدى القيادة السورية بأن في وسع دمشق تقنين حديثها مع انان والاستخفاف بميليس. هذه التصرفات التي دافع عنها انان وفريقه أدت بعدد من القيادات الدولية المهمة الى أن تنبه انان الى مخاطر تدخله في التحقيق في جريمة صنّفها مجلس الأمن عملاً «ارهابياً» وأوكل الى ميليس صلاحيات استجواب من يريد وأينما يريد مطالباً سورية بالامتثال. كوفي انان أدرك في نهاية المطاف ان ميليس جاهز ومتحمس للاستغناء عن المنصب بعد تقريره في 15 كانون الأول (ديسمبر)، فأسرع الى رفع يديه عن التحقيق ومناشدة ميليس وكذلك الحكومة الألمانية ان يبقى في المنصب بعد التمديد لـ «اللجنة الدولية المستقلة» وإن لفترة وجيزة.
معنى الكلام هنا، ان الوقت حان للحكومة السورية لأن تضع حداً حاسماً لحملة التشهير بديتليف ميليس وضرب صدقيته لأن هذه الحملة سترتد على الحكومة السورية وستكلفها غالياً. كوفي انان بذل جهداً وفتح باباً للأخذ والعطاء بين دمشق وميليس ادى الى الاتفاق على ايفاد سورية «المشتبه بهم» الذين يريد ميليس استجوابهم الى فيينا بأفواج أو تباعاً، من المراتب الدنيا الى المراتب العليا أو كيفما تشاء طالما تفهم تماماً ان هذا التفاهم لا يعني اطلاقاً استثناء أي من «المشتبه بهم». هؤلاء يشملون الآن صهر الرئيس ورئيس الاستخبارات العسكرية آصف شوكت، وقد يشملون لاحقاً الرجل الآخر الذي ذكر اسمه في القائمة «المشطوبة» وهو أخ الرئيس ماهر الاسد. الاستثناء الوحيد الذي تم التوصل اليه «في هذه المرحلة» هو استدعاء الرئيس بشار الاسد الى الاستجواب.
الاثنين المقبل، يفترض بدء الاستجوابات. منذ الآن فصاعداً، لن يدخل كوفي انان على الخط بين دمشق والتحقيق ولن تقوم أية دولة، عربية أو غير عربية، بمحاولة «التقريب» بين وجهات النظر أو «تفسير» المطلوب، أو بالتفاوض بين دمشق وميليس حول مَن يُستجوَب ومتى.
فإذا كانت الاستراتيجية السورية تنوي الاستمرار في سكتي اعلان التعاون من جهة وضرب صدقية ميليس والتحقيق من جهة، فإن الثقوب ستنفتح بما يؤدي الى تمزيق مثل هذه الاستراتيجية وتمزيق صدقية الحكومة السورية في اعلانها التعاون مع التحقيق. ولمثل هذه التطورات عواقب، إذ ان مجلس الأمن سيفرض العقوبات، ولكن ايضاً لمثل هذه التصرفات عواقب تدق في عصب العزلة السورية فلا أحد في مجلس الأمن سيكون مستعداً لمنع العزلة أو ليقول انه قادر على أن «يكفل» الحكومة السورية.
فتقديم السلطات السورية رواية «حلاق بيروت» الشاهد السوري هسام طاهر لتحدي صدقية التحقيق ضرب في الواقع الصدقية السورية ودفع ميليس الى اعتبار القصة أشبه بدعايات المعسكر الشيوعي البائد. فلدى التحقيق أكثر من 500 شاهد والعدد يزداد. أما ان يُظن في دمشق ان تقديم رواية شاهد واحد كاف لضرب صدقية التحقيق فإن في هذا التصرف ما يثير الظن بأن شيئاً غريباً يحدث في دمشق.
فلقد أتت هذه الرواية بعد أيام من مشهد غريب على الساحة الديبلوماسية السورية تمثل في اعلان وزير الخارجية السيد فاروق الشرع في مؤتمر صحافي رفض الاذعان لطلب ميليس استجواب المسؤولين الأمنيين السوريين خارج سورية. ثم في اليوم التالي جاء نائب وزير الخارجية وليد المعلم ومعه المستشار القانوني في الخارجية رياض الداودي ليعلن الاتفاق على اجراء المقابلات في مقر الأمم المتحدة في فيينا.
ومما زاد في الغرابة ان الشرع تعمد اللقاء مع رئيس حكومة لبنان فؤاد السنيورة ليعلن ان مزارع شبعا لبنانية. حسناً، فلتتفضل الحكومة السورية الى ترسيم الحدود مع الحكومة اللبنانية بما يضع شبعا في الأراضي اللبنانية، اذ ان هذا ما سيسبب أقصى الاحراج لاسرائيل التي تحتل مزارع شبعا ويضعها تحت الضغوط الدولية. بذلك تساهم سورية حقاً في «تحرير» مزارع شبعا اللبنانية. أما الكلام عن هذه المزارع وملكيتها بهذه الطريقة الدعائية فإنه يلفت الأنظار الى حال التوتر والذعر والغرابة في دمشق. كما انه يبين ان الطريقة التي تتناول بها دمشق التطورات كارثية عليها اولاً. فالثقوب تتضاعف وقد وصلت الثقوب تلك الى «الحملة التلطيفية» التي كان هدفها تحويل الأنظار عن حملة ضرب استقرار لبنان وزعزعته والانتقام من اخراج سورية من لبنان ونسف عقيدة «لن نهرب» تحت أي ظرف كان.
لدى الادارة الاميركية ايضاً عقيدة «لن نهرب». فليس سهلاً التخلي عن السيطرة على بلد تعتبره دولة أخرى مهماً لاستراتيجيتها ومفيداً لمصالحها ويمكن استخدامه لغاياتها. هكذا نظرت سورية الى لبنان وهكذا نظرت الولايات المتحدة الى العراق بعدما وقع لبنان والعراق تحت القبضة السورية والاميركية بظروف مختلفة ولفترة زمنية مختلفة. المهم، ان القاسم المشترك هو صعوبة «المغادرة» وعقدة «الهروب».
جورج دبليو بوش في خطاب «استراتيجية الانتصار» يوم الاربعاء، تعمق في انكار الواقع ومتطلبات النصر. نفى ان هناك شبه هزيمة لأميركا تتمثل في فشلها، أو امتناعها عن الانتصار. زعم ان الاستراتيجية كانت دائماً موجودة وانها قائمة على التأقلم مع المتطلبات. تحدث عملياً عن تجهيز الجيش العراقي ليقوم بمهمة محاربة الارهاب كجبهة مهمة في حرب اميركا على الارهاب.
جورج دبليو بوش لم يتقدم باستراتيجية خروج من العراق ولم يقدم استراتيجية بقاء في العراق باستثناء تلك التي تمسك بها منذ البداية. ما قاله، في نهاية المطاف، ان العراق يبقى مشروعاً اميركياً. فهو لم يتحدث بلغة الشراكة المطلوبة، اقليمياً وعالمياً، من جهة المشاركة والاشتراك في مشروع العراق بمردود مشترك، فتجار الحرب الكبار ما زالوا في صدد الاستفادة البالغة من مأساة العراق وفشل الأمن فيه وهم يشملون شركات اميركية ضخمة، ولذلك التساؤل ان كان فشل الدولة العظمى الوحيدة في السيطرة على الوضع في العراق عائداً لكونها «نمراً من ورق» أو لكونها تحت سيطرة كبار الشركات والمصالح والطمع العارم الذي يقتضي البقاء في العراق على رغم كل هذا الكلام عن الانسحاب.
لا أحد يتحدث عن انسحاب فوري. والكل يتحدث عن انسحاب تدريجي من دون تحديد موعد نهائي له. الرئيس الاميركي رفض تقديم برنامج زمني أو موعد حاسم لبدء أو لانتهاء الانسحاب. تحدث عن تخفيض أو زيادة، حسبما تقتضي الأمور، لكنه لم يتقدم باستراتيجية خلاص العراق من الاحتلال. فهو في حال انكار.
لذلك فإن خلاص العراق من الوضع الراهن يتطلب مبادرة عراقية الى طلب المساعدة في انهاء الوجود العسكري الأميركي الذي بات جزءاً من المشكلة يستدعي الارهاب ويعمّق الخلافات ويفاقم الانقسامات الطائفية. فإذا كانت الادارة الاميركية في حال انكار، على العراق ان ينقذ نفسه من عواقب هذه الحال. وهذا يتطلب اتخاذ اجراءات غير اعتيادية مطلع السنة المقبلة بعد الانتخابات تشمل استدعاء الجيش المؤسسة الى الخدمة العسكرية بدلاً من جيوش الميليشيات، في اطار الكف عن اجتثاث «البعث»، واصدار قوانين صارمة ضد الفساد، والمضي بالمصالحة الوطنية، وابلاغ الجيران أن هذه فرصة لهم الآن لزرع بذور جديدة بمبادرة خارقة في منطقة الشرق الأوسط: مبادرة الإقدام بدلاً من نمط الالتحاق أو الإرغام.

ليست هناك تعليقات: