نقولا الزهر - موقع الرأي
مقولة "دين الدولة" كنص دستوري، مقولة حديثة في العالمين العربي والإسلامي. بدأ يستخدم هذا الاصطلاح منذ بداية الحقبة الاستعمارية في منطقتنا، وعبر احتكاكها مع الغرب في القرنين الأخيرين و دخول مفهوم " الدستور" إليها.
أول الكلام على الدستور كان في أواخر عهد الدولة العثمانية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر(مدحت باشا والانقلاب على السلطان عبد الحميد). وكذلك في بدايات القرن العشرين، في أعقاب الحرب العالمية الأولى وانهيار هذه السلطنة، حيث بدأت الدساتير تدخل في هيكلية النظام السياسي لأكثر الدول العربية، وعلى وجه الخصوص تلك التي وقعت تحت نير الاحتلال أو الانتداب كمصر والعراق وسوريا ولبنان.
في هذه الدول الناشئة التي بدأت تخطو خطواتها الأولى على طريق الحداثة، أخذ كتبة الدساتير لديها يخصصون مادة دستورية مستقلة تنص على الدين الرسمي للدولة بصيغة "دين الدولة الإسلام" أو بصيغة مخففة كما هو الحال في الدساتير السورية المختلفة " دين رئيس الجمهورية الإسلام".
في الواقع لم يكن النص على "دين الدولة " في دستور هذه الدول سوى إعادةَ إنتاجٍ حديثة لمتلازمةٍ كانت سائد في كل الدول القديمة والوسيطة، في الشرق والغرب على السواء وفي العالم كله؛ هذه المتلازمة هي متلازمة السلطة/الدين.
-1-
فالدولة القديمة والوسيطة كان تتسم على العموم بوجهين متلازمين، وجه سياسي يمثله الملك أو الأمبراطور أو القيصر أو الخليفة أو السلطان، ووجه ديني يمثله رأس الدولة أيضاً ويساعده في هذا المجال رجال المرجعية الدينية المعتمدة رسمياً. في الأمبراطورية البيزنطية (الأورثوذكسية) كانت شرعية بطريرك القسطنطينية تتطلب موافقة الأمبراطور على انتخابه أو تعيينه، وفي المقابل شرعية الأمبراطور وتتويجه يبقيان ناقصان بدون مباركة البطريرك؛ وكان هؤلاء الأباطرة يتدخلون في التطورات التي تحدث على فكر الدين المعتمد ولقد تجلى هذا بقوة في (حرب الإيقونات) الشهيرة وفي الصراع الذي دام طويلاً بين الأورثوذكسية والمونوفيزية. مثل هذه العلاقة أيضاً كانت قائمة بين (بابا روما) ورأس الامبراطورية الغربية (الكاثوليكية). وبقي رجال الدين يلعبون دوراً في سلطة الدولة إلى وقت متأخر نسبياً في أوربا وفي البلاط الفرنسي من لا يعرف ذلك الدور الشهير الذي كان يلعبه كل من (ريشيليو ومازاران). وكذلك الحال بالنسبة إلى روسيا بقي دور البطريرك مؤثراً في معادلة السلطة حتى ثورة أوكتوبر في 1917 .
وبطبيعة الحال كانت متلازمة السلطة /الدين أكثر تواثقاً وتطابقاً في الخلافة العربية الإسلامية حيث الخليفة كان يمثل السلطتين الزمنية والدينية وبقيت حتى سقوط السلطنة العثمانية. كان(المذهب السني) دين الدولة الشرعي بشكل عام ولم يكن هنالك من دساتير ليسجل فيها فهو متضمناً في الفقه، وهذه الأمبراطورية المترامية الأطراف لم تبقى موحدة ودائماً كان هنالك دول مختلفة ضمنها وعلى محيطها، ومن أهم هذه الدول الدولة الفاطمية التي كان دينها الرسمي (المذهب الاسماعيلي) والدولة الصفوية التي اتخذت (المذهب الشيعي الإثنى عشري)ديناً رسمياً لها والدولة الأباضية (المذهب الأباضي) ودول المغرب العربي المختلفة(المذهب المالكي والمذهب الظاهري..).... وبحسب رسالة ابن فضلان فخان أمبراطورية الخزر اختار (اليهودية) ديناً لدولته. وحتى في زمن الخلفاء العباسيين الثلاثة المأمون والمعتصم والواثق صار الدين الرسمي للدولة القائمة (المذهب المعتزلي). فالمرجع الفكري والسياسي للدولة في العصور الوسطى كان الدين.
هذه المتلازمة السلطوية/الدينية وسَمَت الدولة بشكل عام في التشكيلات الاقتصادية العبودية والخراجية والإقطاعية. ولقد اتسمت جميع الدول والأمبراطوريات القديمة والوسيطة بأنها غير قومية، فهي متعددة الأمم والشعوب والأقوام ومتعددة اللغات والأديان والمذاهب. وفي كثير من الأحيان لم يكن الدين الرسمي للدولة يمثل أكثرية سكانها.
-2-
بدأ تتفكك المتلازمة السلطوية/ الدينية في أوربا الغربية بتأثير ثلاث عوامل رئيسة متزامنة تقريباً هي: نشوء الرأسمالية، وبدء الإصلاح الديني، وتبلور فكر النهضة و انتصار قضية الفلسفة ونقد الفكر الديني.
بينما في العالمين العربي والإسلامي بقيت هذه المتلازمة إلى حدٍ كبير صلبة وقوية ومتماسكة حتى انهيار السلطنة العثمانية ومعاهدة سايكس بيكو في أوائل القرن الماضي. ومنذ ذلك الوقت إذا كان هنالك من تفكك بدأ يطرأ على العلاقة الوطيدة بين الدولة والدين فهو بسبب الاحتكاك مع الغرب والاستعمار وبالتالي مع اتساع آفاق فكر النهضة العربية. لكن هذه العلاقة لم تتفكك تماما نتيجة للتخلف وسيطرة العلاقات الاجتماعية الإقطاعية السلطانية، إنما طرأ عليها بعض التغيرات بنسب مختلفة في بعض البلدان، وفي بعض البلدان العربية الأخرى بقيت على حالها القديم تقريباً، ومن أكثر الأمثلة وضوحاً هنا : العائلة السعودية المالكة/والمذهب الوهابي.
راحت تتكون في المنطقة دول حديثة نسبياً في كل من مصر وسوريا ولبنان والعراق منذ بداية الاحتلال الاستعماري، وفيما بعد استقلت معظم الدول العربية وراحت تبني أنظمة سياسية للحكم شبيهة إلى حدٍ ما من حيث الشكل بأنظمة الحكم الأوربية والغربية عموماًً (سلطة تشريعية، دستور، مجلس نيابي، حكومة تتألف من ملك أو رئيس للجمهورية ومجلس للوزراء، سلطة قضائية)، وفي الواقع تطورت الأمور في بعض البلدان العربية في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات حتى صرنا نرى دولاً (شبه علمانية) في كلٍ من مصر وسوريا والعراق ولبنان وتونس والأردن. ولكنها مع ذلك بقيت علمانية هذه الدول ومضامين المواطنة فيها منقوصة كثيراً وصورية. فبقايا متلازمة السلطة/ الدين مازالت تلقي بعبئها على هذه الدول بصيغ مختلفة سواء في الدستور(الإسلام دين الدولة، أو بصيغة مخففة دين رئيس االدولة)، أو في القضاء في قانون الأحوال الشخصية (قوانين الزواج والطلاق والإرث واستبعاد الزواج المدني المختلط). فالزواج المدني من أهم شروط تبلور الدولة الحديثة القائمة على المواطنة بين فئات قومية ولغوية ودينية ومذهبية مختلفة.
وفي الواقع باستثناء تركيا التي اعتمدت العلمانية منذ صعود كمال أتاتورك إلى السلطة فكل دول المنطقة لا تزال تعيش بقايا المتلازمة الدينية/ السلطوية السائدة منذ العصور الوسطى.
وهنا لابد من التنويه إلى أن مرحلة التحرر الوطني في العالم العربي التي دفعت إلى السطح (الأحزاب القومية والاشتراكية والشيوعية والنخب العسكرية والأنظمة الشمولية الأحادية)، لم تلعب أي دورٍ ايجابي في تفكيك متلازمة السلطة/ الدين كما فعل نظام كمال أتاتورك بل أعادت لها الروح والقوة، وربما كانت أهم أسباب تضخيمها وتصليبها من جديد. لأن هذه الأنظمة العسكرية "القومية اليسارية الاشتراكية" تنصلت من كل شعاراتها التي رفعتها وقادت الدول التي حكمتها على الطريقة السلطانية الإقطاعية نفسها التي كان من مستلزماتها الموضوعية والتاريخية تكريس متلازمة السلطة/ الدين. وهذا ما نراه الآن طافياً على السطح في معظم دول العالم العربي. ولابد من الإشارة هنا إلى أن بقايا هذه المتلازمة القروسطية لا تزال متكهفة أيضاً حتى في ذهن الكثير من المثقفين العرب على أنواعهم. ومن أخطر الأمور في هذا السياق أن الكثير من الأحزاب اليسارية والعلمانية والشيوعية الحليفة للسلطات العربية الشمولية الحاكمة، في الوقت الذي تتباهى في خطابها الإيديولوجي بفك ارتباطها الكامل مع الدين والمعتقدات الدينية بشكل عام، تلعب دوراً تضليلياً بامتياز حينما تتعامى عن دور هذه السلطات (حليفتها)، في إحياء وتوثيق العلاقة بين الدولة والدين والدعوة إلى إعادة الدولة الدينية التي يدعو إليها الإسلام السياسي المتطرف. وفي التطبيق العملي هذه الأنظمة التي فرخت التطرف ذهبت من طرفٍ آخر لتقول للمتطرفين: نحن أكثر إسلاماً منكم. ولتبرهن على صحة مقولتها أشرعت الأبواب واسعة لرجال الدين السلفيين في كبح أي محاولة للإصلاح الديني وإجهاض أي فكر يحاول نقد الخطاب الديني السائد.
-3-
أما ما سمي بالدولة القومية أو (الدولة-الأمة ) فقد تزامن نشوئها مع بدايات تبلور الرأسمالية في أوربا الغربية، ومع انبثاق الإصلاح الديني، ولقد تكونت مبكراً في كلٍ من فرنسا وهولندا وسويسرا وبريطانيا ودول أخرى...، وفي وقت متأخر نسبياً في كل من ألمانيا(بسمارك) وإيطاليا (كافور وغاريبالدي).
ما اتسمت به الدول- الأمم هذه أنها عبرت أحياناً عن شعب يشكل الأكثرية وشعوب صغيرة أخرى تعيش بين ظهرانيه، كما هو الحال في بريطانيا المؤلفة من أكثرية انكليزية، بالإضافة إلى السكوتلنديين والويلزيين والايرلنديين الشماليين، وفي فرنسا المؤلفة من(أكثرية من الغاليين إلى جانب البروتانيين والكورسيكيين والباسكيين والأوكسيتانيين وسكان الألزاس واللورين،..) وفي إسبانيا التي تتألف من(أكثرية قشتالية بالإضافة إلى الكاتالونيين ، والباسكيين والأرغونيين....) وفي أحيان أخرى عبرت الدول - الأمم عن شعوب متقاربة في حجمها كما هو الحال في بلجيكا التي تتألف من (الفالون والفلمنك وأقلية من الألمان) أو اتحاد كانتونات كما في سويسرا المؤلفة من (الناطقين بالألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانشية المحلية)، وفي السياق ذاته نرى أن الناطقين بالألمانية لم ينحصروا في دولة واحدة بل توزعوا أيضاً في دولتين رئيستين هما ألمانيا والنمسا(مسقط رأس آدولف هتلر). هذا يؤكد لنا أن (الدول – الأمم) التي نشأت في غرب أوربا لم تنشأ في الأساس بشكلٍ رئيسي من تجانس إثني أو لغوي أو ديني، إنما نشأت بتأثير عواملَ سياسية وتاريخية و حروبٍ توسعية طاحنة، وعوامل اقتصادية محورية ارتبطت بضرورة توسع السوق الرأسمالية.
هذا يجعلنا نرى أن نشوء (الدول – الأمم) في أوربا لم يكن كما تصور رواد النخب القومية العربية في النصف الأول من القرن العشرين، حينما اعتبروا أن عوامل اللغة والدين والأصل الإثني لعبت الدور الأساس في تشكلها (ساطع الحصري، مشيل عفلق، قسطنطين زريق، نديم البيطار، عصمت سيف الدولة وآخرون...)، فقد غاب عن ذهن هؤلاء أن هذه الدول الأوربية تتألف من شعوب وجماعات متعددة، وأن العامل الرئيس في نشوئها ووحدتها كانت عوامل تاريخية سياسية وحروب غلبة أمبراطورية ودينية طاحنة. وكذلك لم يعطوا رواد القومية هؤلاء الأهمية المطلوبة لعامل توسع السوق الرأسمالي الذي لعبَ دوراً حاسماً ولعامل المصالح الذي يلعب دوراً رئيساً في تشكل وحدة أي دولة قومية. وفي الملموس لم تصنع التنظيمات السياسية العربية الواحدة(البعث، حركة القوميين العرب،الأحزاب الناصرية) دولة عربية واحدة .
في الواقع تلعب اللغة والثقافات والعواطف القومية والدينية دوراً مساعداً في تشكيل الدول. ولكن رأينا أن هذه العوامل الأخيرة لم تكن كافية لتشكيل دولة واحدة في العالم العربي بعد تحرره من الدولة العثمانية. ومع ذلك لا يزال الخطاب القومي العربي إلى الآن يعزو عدم تكون الدولة العربية القومية فقط لتدخل العامل الخارجي:الاستعمار والرأسمالية والصهيونية؛ فلم يحاول هذا الخطاب مراجعة ذاته من أجل اكتشاف العوامل الحقيقية التي منعت تشكل الدولة القومية(المصالح والتكامل الاقتصادي وأنظمة الحكم المدنية والديموقراطية).
-4-
وكذلك الحال في شرق أوربا الأقل تقدماً من غربها، فمعظم دولها الحديثة تشكلت من شعوبٍ وأممٍ متعددة تتكلم لغاتٍ ولهجاتٍ مختلفة وفي سياق نتائج حروب طاحنة وتسويات، ففي بولندة يوجد الأوكرانيون في شرقها والألمان في غربها، وفي رومانيا (بلاد الأفلاق والبغدان في زمن الاحتلال العثماني) يعيش الآن في غربها حوالي المليونين من المجريين(ميتشوارا)، وفي بلغاريا لا يشكل البلغار المنحدرون قديماً من حوض الفولغا أكثر من 15% من سكانها ومع ذلك بقي ينسب إليهم الإسم الحالي للدولة ذات الأكثرية السلافية التي هاجرت إلى البلقان في القرن السادس الميلادي ، وفي جنوب بلغاريا يعيش جزء مهم من الشعب الماكيدوني، وفي شمالها هنالك أقلية تركية استقرت فيها إبان الاحتلال العثماني.
إن قضية الدولة الواحدة ذات الشعوب المتعددة رأيناها بشكل متفاقم في يوغسلافيا(وهذا التعدد منذ دولة مورافيا القديمة في القرن التاسع الميلادي)، وحتى بعد انفراط عقد الاتحاد اليوغسلافي في التسعينات من القرن الماضي، نرى أن كل حبة من هذا العقد المفروط تحوي شعوب وجماعات ولغات ومذاهب مختلفة. ففي صربيا يشكل الهنغار في شمالها في ( مقاطعة فويفودينا) أقلية ليست صغيرة، بالإضافة إلى إقليم كوسوفو ذو الأكثرية الألبانية، وكذلك الحال في ماكيدونيا المستقلة حديثاً يشكل الألبان عدداً مرموقاً من سكانها، ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن الكروات الكاثوليك والصرب الأورثوذكس والبوشناق المسلمين يتكلمون لغة واحدة.
مسألة فسيفساء الشعوب تنطبق على اليونان وألبانيا وقبرص. وكذلك الحال على روسيا الحالية فهي سليلة الأمبراطوريتين القيصرية والسوفياتية، و رغم انفراط عقد الاتحاد السوفياتي فهي تتألف الآن من 83 مقاطعة فيها عشرات من الشعوب والأقوام والجماعات والأديان والمذاهب والمعتقدات واللغات، ولا تزال الوثنية موجودة إلى الآن في بعض المقاطعات السيبيرية..
وأيضاً دول الاتحاد السوفييتي السابق الأخرى في القفقاس وآسيا الوسطى فهي على هذا النمط الفسيفسائي الإثني واللغوي والديني والمذهبي. ففي غرب جيورجيا الأبخازيون وفي شرقها الأجاريون وفي شمالها الأوسيتيون المسلمون والأرثوذكس. وفي كازاخستان لا يشكل الكازاخ أكثر من 35% من السكان والباقي من الروس والأوكرانيين وكل شعوب الاتحاد السوفياتي السابق، وأديان ومذاهب هي الأرثوذكسية والإسلام والكاثوليكية والإسماعيلية .
-5-
أما في آسيا فكل الدول الحالية تقريباً هي بقايا امبراطوريات ونتائج نزاعات استعمارية، وإذا كنا نلاحظ تجانساً نسبياً إثنيا ولغوياً في كلٍ من الصين واليابان والكوريتين فالدول الأخرى جميعها تتألف من شعوب عديدة ولغات وأديان ومذاهب. وإذا أخذنا كمثال دولة حديثة قامت على أساس ديني بعد انفصالها عن الهند عام 1948(الباكستان)، فهذه الدولة الإسلامية انقسمت عنها بنغلادش (باكستان الشرقية) بعد حرب طاحنة في عام 1971، وإلى الآن باكستان(الغربية) هي محط صدامات عنيفة دائمة بيت السنة والشيعة؛ وعلينا أن نلاحظ بأن عدد المسلمين في الدولة الأم (الهند) الآن أكثر من عدد سكان باكستان، واللغات الرسمية في الهند تناهز الخمس والعشرين لغة. لكن في المقابل نرى أن (إقليم آتشه) المسلم في أندونيسيا يريد أن ينفصل عن أندونيسيا المسلمة. وفي حالة أخرى نرى أن أكثر من خمسة شعوب متفارقة(الملاويون والصينيون والهنود والتاميل...) تعيش في وفاق ووئام في ماليزيا الغنية الرأسمالية.
وكذلك الحال بالنسبة إلى إيران فهي إرث أمبراطورية قديمة يشكل الفرس نصف سكانها والأذربيجانيون ذوو الأصول التركية يشكلون حوالي 20% وهنالك التركمان شرق بحر قزوين والبلوشيون في جنوبها الشرقي والعرب في الأهواز في جنوبها الغربي والأكراد في شمالها الغربي واللور والبختيار في غربها. وكذلك أفغانستان الحالية فهي تتألف من البشتون والطادجيك والبلوش والهازارا والأوزبك والتركمان. وكذلك الحال تركيا الحديثة وريثة السلطنة العثمانية فهي تتألف من شعوب، من الأتراك والأكراد والعرب والأرمن، وهذه الدولة- الأمة شرع قادتها، في الفترة الأخيرة وفي خضم الرغبة الجامحة بالدخول إلى الاتحاد الأوربي، يعترفون بأن تركيا لا تتألف من الشعب التركي فقط وإنما من شعوب أخرى متعددة وأقلع الإعلام التركي عن تسمية الأكراد بأتراك الجبال.
وأما الوضع في أفريقيا فالدول التي نتجت من المرحلة الاستعمارية والتي قسمت بالمسطرة في خضم التنافس الاستعماري على الثروات والأسواق فهي تتألف من فسيفساء قبائلي وأقوامي وديني غريب من نوعه، وكل قبيلة كبرى موزعة على عدد من الدول وهذا ما نجده في نيجيريا وجنوب أفريقيا وأثيوبيا والكونغو والصومال، وعلى سبيل المثال فبنين الدولة الأفريقية الصغيرة على الساحل الغربي المطل على الأطلسي يتكلم أهلها بست وعشرين لغة.
-6-
أما في الأمريكيتين ففيهما جاليات من العالم أجمع سواءً في الولايات المتحدة أوكندا أو أميركا اللاتينية الوسطى والجنوبية؛ وكذلك الحال في استراليا. فتشكلت الدول هنا في الأساس من استئصال الأقوام الأصلية ومن الهجرات الكبرى من جميع أنحاء العالم.
وفي عصرنا الراهن، في المراحل العليا من الرأسمالية، وفي عهد العولمة والمواصلات السريعة والهجرات الكبيرة من الجنوب إلى الشمال ومن المناطق الفقيرة إلى الأماكن الغنية، نشاهد بأم أعيننا كيف تترعرع الدولة(المتعددة الشعوب) و(اتحادات الدول)، بل ربما يمكننا الكلام على عودة إلى الأمبراطورية المتعددة الأمم، لكنها المختلفة كل الاختلاف عن الأمبراطوريات القديمة والوسيطة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحضاري الإنساني بشكل عام.. فكل دولة الآن هي خليط أمم وشعوب. وكل عاصمة من العواصم وكل مدينة كبرى في العالم تسكن فيها جاليات كبرى من كل الدول. هذا هو الحال في لندن وباريس ونيويورك وبونيسايرس وموسكو وريودوجانيرو. ولماذا نذهب بعيداً فحتى مدينة دمشق ومنذ القديم فهي تحوي بالإضافة إلى العرب، السريان(الكلدان والآشوريين)والأكراد والأرمن والبخاريين والتركمان والشركس(الشيشان والكبردين والقرشاي والأوسيتيين والأبخاز..). وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن اسم سوريا آتٍ من (آشوريا= Assyrie)، وهنا يجب أن نلاحظ التناوب بين حرف الشين والسين في اللغات السامية وفي اللهجات السورية المحلية المحكية(شمس= سمس، شجر=سجر، في أغنيات فيروز..).
-7-
وأيضاً العالم العربي، فهو عالم هويات مختلفة، في هذا العالم شعوب عربية لها خصوصياتها، والدين فيه لا يقتصر على الإسلام فهنالك المسيحية الشرقية بكل مذاهبها وأصنافها، والإسلام لا يقتصر على السنة فهنالك الشيعة والزيديون والإسماعيليون والعلويون والدروز ، وبالإضافة إلى ذلك فهنالك من بقايا الأديان القديمة اليهود واليزيديون والصابئة.
وفي كل دولة من دول العالم العربي، إلى جانب العرب هنالك شعوب أخرى. فهنالك الأفارقة في جنوب السودان وغربه وشرقه وجنوب موريتانيا وهنالك الأكراد في كل من العراق وسوريا وهنالك الأمازيغ في شمال أفريقيا وهنالك جاليات مختلفة في المدن الكبرى والعواصم.
-8-
هذه الجردة الديموغرافية الواسعة والمستفيضة في العالم و عالمنا العربي ، لابد وأن تكون دافعاً إلى إعادة النظر في الفكر القومي عموماً وفي قضية حق تقرير المصير وشروط تطبيقه، وكذلك لا بد وأن تدفعنا إلى إعادة النظر في (الفكر القومي العربي السائد المتشنج والإقصائي) الذي لا يعترف بشعوب أخرى تقاسمه الوطن . وفي المقابل تدفعنا إلى إعادة النظر في (الفكر القومي الكردي أيضاً المتشنج والإقصائي) الذي تتبناه بعض الأحزاب الكردية وليس كلها، هذا الفكر الذي يحاجج بالأساطير التاريخية لخدمة التوسع الإقليمي على الأرض. وكذلك إلى إعادة النظر في فكر الإسلام السياسي الذي يدعو إلى قيام الدولة الدينية وإعادة الحياة للمتلازمة السلطوية/الدينية؟
إن إيديولوجيا الضم والانفصالات وتشكيل (الدول القومية الكبرى) لن تحصد في الحقبة الدولية الراهنة أكثر من حروبٍ داحسية طاحنة ومزيداً من التطهيرات العرقية والدينية. وكذلك أية إيديولوجية تهدف إلى دولة دينية (ثيولوجية) تقوم على أساس الأمة الإسلامية أو الأمة المسيحية أو الأمة اليهودية أوالهندوسية ..... لن تؤدي أيضاً إلا إلى صراع سرمدي وقاتل على الهويات وإلى الإرهاب والتصفيات المذهبية وعدم الاستقرار.
إن حق تقرير المصير يبقى في كل الظروف حقاً للشعوب المضطهدة من حكوماتها والشعوب المحتلة والمستعمرة أرضها، ولكن تطبيقه يتعلق دائماً بالشروط الموضوعية والعقلانية المحيطة بحالة محددة، وعلى الإطلاق يجب ألا يتحول إلى علاقة رياضية بحتة منعزلة عن الزمان والمكان وعن النتائج التي يمكن أن يفضي إليها تطبيقه من حيث التقدم أو التخلف أو التقهقر؟
والحل يكمن في أن كل الشعوب والأقليات غير العربية في كل الدول القائمة ضمن العالم العربي من الخليج إلى المحيط لا بد وان تمتلك كامل الحقوق السياسية والمدنية والثقافية واللغوية ذاتها التي يمتلكها العرب، وكذلك لابد وأن يمتلك كل المنتمين إلى الأديان والمذاهب من السنة والشيعة والمسيحيين والعلويين والاسماعيليين والدروز واليهود والصابئة واليزيديين الحقوق السياسية والمدنية المتساوية دون تمييز، بما فيها حق الوصول إلى أعلى المناصب والمراتب في الدولة.
ولننظر إلى تركيا الآن المحكومة من الحزب الإسلامي المتنور بقيادة أردوغان كيف تتجه باتجاه دولة المواطنة وتكريس دعائمها على الأرض، ولقد اعترفت الحكومة التركية في الفترة الأخيرة بالحقوق الثقافية للأكراد وبحقوقهم اللغوية والتعليمية وهنالك ملامح اعتراف في الأوساط المثقفة التركية بما جرى للأرمن من مذابح في أوائل القرن الماضي. وفي الواقع أزمة الهويات في عالمنا العربي هي من جانب أزمة فكر، ومن جانب آخر أزمة نظام سياسي. وسوف لن تحل أزمة الصراع على الهويات إذا لم نستطع بناء الدولة الديموقراطية التي تنظر للمواطنين كأفراد متساوين وليس من خلال انتمائهم إلى عشيرتهم وإثنيتهم ودينهم ومذهبهم. وبناء دولة المواطنين المتساوين يقع على عاتق كل فئات المجتمع الواحد وعلى ضرورة توحيد نضالاتها الاجتماعية والمدنية والسياسية.
وفق هذا المنظور أرى أن الفكر القومي العربي السائد إلى الآن في سوريا ولبنان ومصر والعراق وفلسطين منذ حوالي قرن كامل قد فقد علاقاته بالواقع وبالمهام المستقبلية التي يجب أن تنطلق منه. وهذا ينطبق أيضاً على الفكر الديني الذي لا تزال السيادة فيه للفقه التمامي الكامل المكمل العاصي على الاجتهاد والنقد والإصلاح. إن الفكر القومي المتعصب (لدى الأكثريات والأقليات معاً)، والفكر الديني التكفيري والإقصائي، والفكر اليساري السلفي القابع في الماضي ينتظر عودة الأندلس السوفياتية؛ هذه السلفيات جميعها رغم تفارقها تشكل من حيث تدري أولا تدري أهم دعائم الإطالة في عمر الدولة السلطانية الحديثة الشمولية الاستبدادية، وأهم إعاقة في بناء الدولة الوطنية الديموقراطية.
مقولة "دين الدولة" كنص دستوري، مقولة حديثة في العالمين العربي والإسلامي. بدأ يستخدم هذا الاصطلاح منذ بداية الحقبة الاستعمارية في منطقتنا، وعبر احتكاكها مع الغرب في القرنين الأخيرين و دخول مفهوم " الدستور" إليها.
أول الكلام على الدستور كان في أواخر عهد الدولة العثمانية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر(مدحت باشا والانقلاب على السلطان عبد الحميد). وكذلك في بدايات القرن العشرين، في أعقاب الحرب العالمية الأولى وانهيار هذه السلطنة، حيث بدأت الدساتير تدخل في هيكلية النظام السياسي لأكثر الدول العربية، وعلى وجه الخصوص تلك التي وقعت تحت نير الاحتلال أو الانتداب كمصر والعراق وسوريا ولبنان.
في هذه الدول الناشئة التي بدأت تخطو خطواتها الأولى على طريق الحداثة، أخذ كتبة الدساتير لديها يخصصون مادة دستورية مستقلة تنص على الدين الرسمي للدولة بصيغة "دين الدولة الإسلام" أو بصيغة مخففة كما هو الحال في الدساتير السورية المختلفة " دين رئيس الجمهورية الإسلام".
في الواقع لم يكن النص على "دين الدولة " في دستور هذه الدول سوى إعادةَ إنتاجٍ حديثة لمتلازمةٍ كانت سائد في كل الدول القديمة والوسيطة، في الشرق والغرب على السواء وفي العالم كله؛ هذه المتلازمة هي متلازمة السلطة/الدين.
-1-
فالدولة القديمة والوسيطة كان تتسم على العموم بوجهين متلازمين، وجه سياسي يمثله الملك أو الأمبراطور أو القيصر أو الخليفة أو السلطان، ووجه ديني يمثله رأس الدولة أيضاً ويساعده في هذا المجال رجال المرجعية الدينية المعتمدة رسمياً. في الأمبراطورية البيزنطية (الأورثوذكسية) كانت شرعية بطريرك القسطنطينية تتطلب موافقة الأمبراطور على انتخابه أو تعيينه، وفي المقابل شرعية الأمبراطور وتتويجه يبقيان ناقصان بدون مباركة البطريرك؛ وكان هؤلاء الأباطرة يتدخلون في التطورات التي تحدث على فكر الدين المعتمد ولقد تجلى هذا بقوة في (حرب الإيقونات) الشهيرة وفي الصراع الذي دام طويلاً بين الأورثوذكسية والمونوفيزية. مثل هذه العلاقة أيضاً كانت قائمة بين (بابا روما) ورأس الامبراطورية الغربية (الكاثوليكية). وبقي رجال الدين يلعبون دوراً في سلطة الدولة إلى وقت متأخر نسبياً في أوربا وفي البلاط الفرنسي من لا يعرف ذلك الدور الشهير الذي كان يلعبه كل من (ريشيليو ومازاران). وكذلك الحال بالنسبة إلى روسيا بقي دور البطريرك مؤثراً في معادلة السلطة حتى ثورة أوكتوبر في 1917 .
وبطبيعة الحال كانت متلازمة السلطة /الدين أكثر تواثقاً وتطابقاً في الخلافة العربية الإسلامية حيث الخليفة كان يمثل السلطتين الزمنية والدينية وبقيت حتى سقوط السلطنة العثمانية. كان(المذهب السني) دين الدولة الشرعي بشكل عام ولم يكن هنالك من دساتير ليسجل فيها فهو متضمناً في الفقه، وهذه الأمبراطورية المترامية الأطراف لم تبقى موحدة ودائماً كان هنالك دول مختلفة ضمنها وعلى محيطها، ومن أهم هذه الدول الدولة الفاطمية التي كان دينها الرسمي (المذهب الاسماعيلي) والدولة الصفوية التي اتخذت (المذهب الشيعي الإثنى عشري)ديناً رسمياً لها والدولة الأباضية (المذهب الأباضي) ودول المغرب العربي المختلفة(المذهب المالكي والمذهب الظاهري..).... وبحسب رسالة ابن فضلان فخان أمبراطورية الخزر اختار (اليهودية) ديناً لدولته. وحتى في زمن الخلفاء العباسيين الثلاثة المأمون والمعتصم والواثق صار الدين الرسمي للدولة القائمة (المذهب المعتزلي). فالمرجع الفكري والسياسي للدولة في العصور الوسطى كان الدين.
هذه المتلازمة السلطوية/الدينية وسَمَت الدولة بشكل عام في التشكيلات الاقتصادية العبودية والخراجية والإقطاعية. ولقد اتسمت جميع الدول والأمبراطوريات القديمة والوسيطة بأنها غير قومية، فهي متعددة الأمم والشعوب والأقوام ومتعددة اللغات والأديان والمذاهب. وفي كثير من الأحيان لم يكن الدين الرسمي للدولة يمثل أكثرية سكانها.
-2-
بدأ تتفكك المتلازمة السلطوية/ الدينية في أوربا الغربية بتأثير ثلاث عوامل رئيسة متزامنة تقريباً هي: نشوء الرأسمالية، وبدء الإصلاح الديني، وتبلور فكر النهضة و انتصار قضية الفلسفة ونقد الفكر الديني.
بينما في العالمين العربي والإسلامي بقيت هذه المتلازمة إلى حدٍ كبير صلبة وقوية ومتماسكة حتى انهيار السلطنة العثمانية ومعاهدة سايكس بيكو في أوائل القرن الماضي. ومنذ ذلك الوقت إذا كان هنالك من تفكك بدأ يطرأ على العلاقة الوطيدة بين الدولة والدين فهو بسبب الاحتكاك مع الغرب والاستعمار وبالتالي مع اتساع آفاق فكر النهضة العربية. لكن هذه العلاقة لم تتفكك تماما نتيجة للتخلف وسيطرة العلاقات الاجتماعية الإقطاعية السلطانية، إنما طرأ عليها بعض التغيرات بنسب مختلفة في بعض البلدان، وفي بعض البلدان العربية الأخرى بقيت على حالها القديم تقريباً، ومن أكثر الأمثلة وضوحاً هنا : العائلة السعودية المالكة/والمذهب الوهابي.
راحت تتكون في المنطقة دول حديثة نسبياً في كل من مصر وسوريا ولبنان والعراق منذ بداية الاحتلال الاستعماري، وفيما بعد استقلت معظم الدول العربية وراحت تبني أنظمة سياسية للحكم شبيهة إلى حدٍ ما من حيث الشكل بأنظمة الحكم الأوربية والغربية عموماًً (سلطة تشريعية، دستور، مجلس نيابي، حكومة تتألف من ملك أو رئيس للجمهورية ومجلس للوزراء، سلطة قضائية)، وفي الواقع تطورت الأمور في بعض البلدان العربية في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات حتى صرنا نرى دولاً (شبه علمانية) في كلٍ من مصر وسوريا والعراق ولبنان وتونس والأردن. ولكنها مع ذلك بقيت علمانية هذه الدول ومضامين المواطنة فيها منقوصة كثيراً وصورية. فبقايا متلازمة السلطة/ الدين مازالت تلقي بعبئها على هذه الدول بصيغ مختلفة سواء في الدستور(الإسلام دين الدولة، أو بصيغة مخففة دين رئيس االدولة)، أو في القضاء في قانون الأحوال الشخصية (قوانين الزواج والطلاق والإرث واستبعاد الزواج المدني المختلط). فالزواج المدني من أهم شروط تبلور الدولة الحديثة القائمة على المواطنة بين فئات قومية ولغوية ودينية ومذهبية مختلفة.
وفي الواقع باستثناء تركيا التي اعتمدت العلمانية منذ صعود كمال أتاتورك إلى السلطة فكل دول المنطقة لا تزال تعيش بقايا المتلازمة الدينية/ السلطوية السائدة منذ العصور الوسطى.
وهنا لابد من التنويه إلى أن مرحلة التحرر الوطني في العالم العربي التي دفعت إلى السطح (الأحزاب القومية والاشتراكية والشيوعية والنخب العسكرية والأنظمة الشمولية الأحادية)، لم تلعب أي دورٍ ايجابي في تفكيك متلازمة السلطة/ الدين كما فعل نظام كمال أتاتورك بل أعادت لها الروح والقوة، وربما كانت أهم أسباب تضخيمها وتصليبها من جديد. لأن هذه الأنظمة العسكرية "القومية اليسارية الاشتراكية" تنصلت من كل شعاراتها التي رفعتها وقادت الدول التي حكمتها على الطريقة السلطانية الإقطاعية نفسها التي كان من مستلزماتها الموضوعية والتاريخية تكريس متلازمة السلطة/ الدين. وهذا ما نراه الآن طافياً على السطح في معظم دول العالم العربي. ولابد من الإشارة هنا إلى أن بقايا هذه المتلازمة القروسطية لا تزال متكهفة أيضاً حتى في ذهن الكثير من المثقفين العرب على أنواعهم. ومن أخطر الأمور في هذا السياق أن الكثير من الأحزاب اليسارية والعلمانية والشيوعية الحليفة للسلطات العربية الشمولية الحاكمة، في الوقت الذي تتباهى في خطابها الإيديولوجي بفك ارتباطها الكامل مع الدين والمعتقدات الدينية بشكل عام، تلعب دوراً تضليلياً بامتياز حينما تتعامى عن دور هذه السلطات (حليفتها)، في إحياء وتوثيق العلاقة بين الدولة والدين والدعوة إلى إعادة الدولة الدينية التي يدعو إليها الإسلام السياسي المتطرف. وفي التطبيق العملي هذه الأنظمة التي فرخت التطرف ذهبت من طرفٍ آخر لتقول للمتطرفين: نحن أكثر إسلاماً منكم. ولتبرهن على صحة مقولتها أشرعت الأبواب واسعة لرجال الدين السلفيين في كبح أي محاولة للإصلاح الديني وإجهاض أي فكر يحاول نقد الخطاب الديني السائد.
-3-
أما ما سمي بالدولة القومية أو (الدولة-الأمة ) فقد تزامن نشوئها مع بدايات تبلور الرأسمالية في أوربا الغربية، ومع انبثاق الإصلاح الديني، ولقد تكونت مبكراً في كلٍ من فرنسا وهولندا وسويسرا وبريطانيا ودول أخرى...، وفي وقت متأخر نسبياً في كل من ألمانيا(بسمارك) وإيطاليا (كافور وغاريبالدي).
ما اتسمت به الدول- الأمم هذه أنها عبرت أحياناً عن شعب يشكل الأكثرية وشعوب صغيرة أخرى تعيش بين ظهرانيه، كما هو الحال في بريطانيا المؤلفة من أكثرية انكليزية، بالإضافة إلى السكوتلنديين والويلزيين والايرلنديين الشماليين، وفي فرنسا المؤلفة من(أكثرية من الغاليين إلى جانب البروتانيين والكورسيكيين والباسكيين والأوكسيتانيين وسكان الألزاس واللورين،..) وفي إسبانيا التي تتألف من(أكثرية قشتالية بالإضافة إلى الكاتالونيين ، والباسكيين والأرغونيين....) وفي أحيان أخرى عبرت الدول - الأمم عن شعوب متقاربة في حجمها كما هو الحال في بلجيكا التي تتألف من (الفالون والفلمنك وأقلية من الألمان) أو اتحاد كانتونات كما في سويسرا المؤلفة من (الناطقين بالألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانشية المحلية)، وفي السياق ذاته نرى أن الناطقين بالألمانية لم ينحصروا في دولة واحدة بل توزعوا أيضاً في دولتين رئيستين هما ألمانيا والنمسا(مسقط رأس آدولف هتلر). هذا يؤكد لنا أن (الدول – الأمم) التي نشأت في غرب أوربا لم تنشأ في الأساس بشكلٍ رئيسي من تجانس إثني أو لغوي أو ديني، إنما نشأت بتأثير عواملَ سياسية وتاريخية و حروبٍ توسعية طاحنة، وعوامل اقتصادية محورية ارتبطت بضرورة توسع السوق الرأسمالية.
هذا يجعلنا نرى أن نشوء (الدول – الأمم) في أوربا لم يكن كما تصور رواد النخب القومية العربية في النصف الأول من القرن العشرين، حينما اعتبروا أن عوامل اللغة والدين والأصل الإثني لعبت الدور الأساس في تشكلها (ساطع الحصري، مشيل عفلق، قسطنطين زريق، نديم البيطار، عصمت سيف الدولة وآخرون...)، فقد غاب عن ذهن هؤلاء أن هذه الدول الأوربية تتألف من شعوب وجماعات متعددة، وأن العامل الرئيس في نشوئها ووحدتها كانت عوامل تاريخية سياسية وحروب غلبة أمبراطورية ودينية طاحنة. وكذلك لم يعطوا رواد القومية هؤلاء الأهمية المطلوبة لعامل توسع السوق الرأسمالي الذي لعبَ دوراً حاسماً ولعامل المصالح الذي يلعب دوراً رئيساً في تشكل وحدة أي دولة قومية. وفي الملموس لم تصنع التنظيمات السياسية العربية الواحدة(البعث، حركة القوميين العرب،الأحزاب الناصرية) دولة عربية واحدة .
في الواقع تلعب اللغة والثقافات والعواطف القومية والدينية دوراً مساعداً في تشكيل الدول. ولكن رأينا أن هذه العوامل الأخيرة لم تكن كافية لتشكيل دولة واحدة في العالم العربي بعد تحرره من الدولة العثمانية. ومع ذلك لا يزال الخطاب القومي العربي إلى الآن يعزو عدم تكون الدولة العربية القومية فقط لتدخل العامل الخارجي:الاستعمار والرأسمالية والصهيونية؛ فلم يحاول هذا الخطاب مراجعة ذاته من أجل اكتشاف العوامل الحقيقية التي منعت تشكل الدولة القومية(المصالح والتكامل الاقتصادي وأنظمة الحكم المدنية والديموقراطية).
-4-
وكذلك الحال في شرق أوربا الأقل تقدماً من غربها، فمعظم دولها الحديثة تشكلت من شعوبٍ وأممٍ متعددة تتكلم لغاتٍ ولهجاتٍ مختلفة وفي سياق نتائج حروب طاحنة وتسويات، ففي بولندة يوجد الأوكرانيون في شرقها والألمان في غربها، وفي رومانيا (بلاد الأفلاق والبغدان في زمن الاحتلال العثماني) يعيش الآن في غربها حوالي المليونين من المجريين(ميتشوارا)، وفي بلغاريا لا يشكل البلغار المنحدرون قديماً من حوض الفولغا أكثر من 15% من سكانها ومع ذلك بقي ينسب إليهم الإسم الحالي للدولة ذات الأكثرية السلافية التي هاجرت إلى البلقان في القرن السادس الميلادي ، وفي جنوب بلغاريا يعيش جزء مهم من الشعب الماكيدوني، وفي شمالها هنالك أقلية تركية استقرت فيها إبان الاحتلال العثماني.
إن قضية الدولة الواحدة ذات الشعوب المتعددة رأيناها بشكل متفاقم في يوغسلافيا(وهذا التعدد منذ دولة مورافيا القديمة في القرن التاسع الميلادي)، وحتى بعد انفراط عقد الاتحاد اليوغسلافي في التسعينات من القرن الماضي، نرى أن كل حبة من هذا العقد المفروط تحوي شعوب وجماعات ولغات ومذاهب مختلفة. ففي صربيا يشكل الهنغار في شمالها في ( مقاطعة فويفودينا) أقلية ليست صغيرة، بالإضافة إلى إقليم كوسوفو ذو الأكثرية الألبانية، وكذلك الحال في ماكيدونيا المستقلة حديثاً يشكل الألبان عدداً مرموقاً من سكانها، ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن الكروات الكاثوليك والصرب الأورثوذكس والبوشناق المسلمين يتكلمون لغة واحدة.
مسألة فسيفساء الشعوب تنطبق على اليونان وألبانيا وقبرص. وكذلك الحال على روسيا الحالية فهي سليلة الأمبراطوريتين القيصرية والسوفياتية، و رغم انفراط عقد الاتحاد السوفياتي فهي تتألف الآن من 83 مقاطعة فيها عشرات من الشعوب والأقوام والجماعات والأديان والمذاهب والمعتقدات واللغات، ولا تزال الوثنية موجودة إلى الآن في بعض المقاطعات السيبيرية..
وأيضاً دول الاتحاد السوفييتي السابق الأخرى في القفقاس وآسيا الوسطى فهي على هذا النمط الفسيفسائي الإثني واللغوي والديني والمذهبي. ففي غرب جيورجيا الأبخازيون وفي شرقها الأجاريون وفي شمالها الأوسيتيون المسلمون والأرثوذكس. وفي كازاخستان لا يشكل الكازاخ أكثر من 35% من السكان والباقي من الروس والأوكرانيين وكل شعوب الاتحاد السوفياتي السابق، وأديان ومذاهب هي الأرثوذكسية والإسلام والكاثوليكية والإسماعيلية .
-5-
أما في آسيا فكل الدول الحالية تقريباً هي بقايا امبراطوريات ونتائج نزاعات استعمارية، وإذا كنا نلاحظ تجانساً نسبياً إثنيا ولغوياً في كلٍ من الصين واليابان والكوريتين فالدول الأخرى جميعها تتألف من شعوب عديدة ولغات وأديان ومذاهب. وإذا أخذنا كمثال دولة حديثة قامت على أساس ديني بعد انفصالها عن الهند عام 1948(الباكستان)، فهذه الدولة الإسلامية انقسمت عنها بنغلادش (باكستان الشرقية) بعد حرب طاحنة في عام 1971، وإلى الآن باكستان(الغربية) هي محط صدامات عنيفة دائمة بيت السنة والشيعة؛ وعلينا أن نلاحظ بأن عدد المسلمين في الدولة الأم (الهند) الآن أكثر من عدد سكان باكستان، واللغات الرسمية في الهند تناهز الخمس والعشرين لغة. لكن في المقابل نرى أن (إقليم آتشه) المسلم في أندونيسيا يريد أن ينفصل عن أندونيسيا المسلمة. وفي حالة أخرى نرى أن أكثر من خمسة شعوب متفارقة(الملاويون والصينيون والهنود والتاميل...) تعيش في وفاق ووئام في ماليزيا الغنية الرأسمالية.
وكذلك الحال بالنسبة إلى إيران فهي إرث أمبراطورية قديمة يشكل الفرس نصف سكانها والأذربيجانيون ذوو الأصول التركية يشكلون حوالي 20% وهنالك التركمان شرق بحر قزوين والبلوشيون في جنوبها الشرقي والعرب في الأهواز في جنوبها الغربي والأكراد في شمالها الغربي واللور والبختيار في غربها. وكذلك أفغانستان الحالية فهي تتألف من البشتون والطادجيك والبلوش والهازارا والأوزبك والتركمان. وكذلك الحال تركيا الحديثة وريثة السلطنة العثمانية فهي تتألف من شعوب، من الأتراك والأكراد والعرب والأرمن، وهذه الدولة- الأمة شرع قادتها، في الفترة الأخيرة وفي خضم الرغبة الجامحة بالدخول إلى الاتحاد الأوربي، يعترفون بأن تركيا لا تتألف من الشعب التركي فقط وإنما من شعوب أخرى متعددة وأقلع الإعلام التركي عن تسمية الأكراد بأتراك الجبال.
وأما الوضع في أفريقيا فالدول التي نتجت من المرحلة الاستعمارية والتي قسمت بالمسطرة في خضم التنافس الاستعماري على الثروات والأسواق فهي تتألف من فسيفساء قبائلي وأقوامي وديني غريب من نوعه، وكل قبيلة كبرى موزعة على عدد من الدول وهذا ما نجده في نيجيريا وجنوب أفريقيا وأثيوبيا والكونغو والصومال، وعلى سبيل المثال فبنين الدولة الأفريقية الصغيرة على الساحل الغربي المطل على الأطلسي يتكلم أهلها بست وعشرين لغة.
-6-
أما في الأمريكيتين ففيهما جاليات من العالم أجمع سواءً في الولايات المتحدة أوكندا أو أميركا اللاتينية الوسطى والجنوبية؛ وكذلك الحال في استراليا. فتشكلت الدول هنا في الأساس من استئصال الأقوام الأصلية ومن الهجرات الكبرى من جميع أنحاء العالم.
وفي عصرنا الراهن، في المراحل العليا من الرأسمالية، وفي عهد العولمة والمواصلات السريعة والهجرات الكبيرة من الجنوب إلى الشمال ومن المناطق الفقيرة إلى الأماكن الغنية، نشاهد بأم أعيننا كيف تترعرع الدولة(المتعددة الشعوب) و(اتحادات الدول)، بل ربما يمكننا الكلام على عودة إلى الأمبراطورية المتعددة الأمم، لكنها المختلفة كل الاختلاف عن الأمبراطوريات القديمة والوسيطة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحضاري الإنساني بشكل عام.. فكل دولة الآن هي خليط أمم وشعوب. وكل عاصمة من العواصم وكل مدينة كبرى في العالم تسكن فيها جاليات كبرى من كل الدول. هذا هو الحال في لندن وباريس ونيويورك وبونيسايرس وموسكو وريودوجانيرو. ولماذا نذهب بعيداً فحتى مدينة دمشق ومنذ القديم فهي تحوي بالإضافة إلى العرب، السريان(الكلدان والآشوريين)والأكراد والأرمن والبخاريين والتركمان والشركس(الشيشان والكبردين والقرشاي والأوسيتيين والأبخاز..). وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن اسم سوريا آتٍ من (آشوريا= Assyrie)، وهنا يجب أن نلاحظ التناوب بين حرف الشين والسين في اللغات السامية وفي اللهجات السورية المحلية المحكية(شمس= سمس، شجر=سجر، في أغنيات فيروز..).
-7-
وأيضاً العالم العربي، فهو عالم هويات مختلفة، في هذا العالم شعوب عربية لها خصوصياتها، والدين فيه لا يقتصر على الإسلام فهنالك المسيحية الشرقية بكل مذاهبها وأصنافها، والإسلام لا يقتصر على السنة فهنالك الشيعة والزيديون والإسماعيليون والعلويون والدروز ، وبالإضافة إلى ذلك فهنالك من بقايا الأديان القديمة اليهود واليزيديون والصابئة.
وفي كل دولة من دول العالم العربي، إلى جانب العرب هنالك شعوب أخرى. فهنالك الأفارقة في جنوب السودان وغربه وشرقه وجنوب موريتانيا وهنالك الأكراد في كل من العراق وسوريا وهنالك الأمازيغ في شمال أفريقيا وهنالك جاليات مختلفة في المدن الكبرى والعواصم.
-8-
هذه الجردة الديموغرافية الواسعة والمستفيضة في العالم و عالمنا العربي ، لابد وأن تكون دافعاً إلى إعادة النظر في الفكر القومي عموماً وفي قضية حق تقرير المصير وشروط تطبيقه، وكذلك لا بد وأن تدفعنا إلى إعادة النظر في (الفكر القومي العربي السائد المتشنج والإقصائي) الذي لا يعترف بشعوب أخرى تقاسمه الوطن . وفي المقابل تدفعنا إلى إعادة النظر في (الفكر القومي الكردي أيضاً المتشنج والإقصائي) الذي تتبناه بعض الأحزاب الكردية وليس كلها، هذا الفكر الذي يحاجج بالأساطير التاريخية لخدمة التوسع الإقليمي على الأرض. وكذلك إلى إعادة النظر في فكر الإسلام السياسي الذي يدعو إلى قيام الدولة الدينية وإعادة الحياة للمتلازمة السلطوية/الدينية؟
إن إيديولوجيا الضم والانفصالات وتشكيل (الدول القومية الكبرى) لن تحصد في الحقبة الدولية الراهنة أكثر من حروبٍ داحسية طاحنة ومزيداً من التطهيرات العرقية والدينية. وكذلك أية إيديولوجية تهدف إلى دولة دينية (ثيولوجية) تقوم على أساس الأمة الإسلامية أو الأمة المسيحية أو الأمة اليهودية أوالهندوسية ..... لن تؤدي أيضاً إلا إلى صراع سرمدي وقاتل على الهويات وإلى الإرهاب والتصفيات المذهبية وعدم الاستقرار.
إن حق تقرير المصير يبقى في كل الظروف حقاً للشعوب المضطهدة من حكوماتها والشعوب المحتلة والمستعمرة أرضها، ولكن تطبيقه يتعلق دائماً بالشروط الموضوعية والعقلانية المحيطة بحالة محددة، وعلى الإطلاق يجب ألا يتحول إلى علاقة رياضية بحتة منعزلة عن الزمان والمكان وعن النتائج التي يمكن أن يفضي إليها تطبيقه من حيث التقدم أو التخلف أو التقهقر؟
والحل يكمن في أن كل الشعوب والأقليات غير العربية في كل الدول القائمة ضمن العالم العربي من الخليج إلى المحيط لا بد وان تمتلك كامل الحقوق السياسية والمدنية والثقافية واللغوية ذاتها التي يمتلكها العرب، وكذلك لابد وأن يمتلك كل المنتمين إلى الأديان والمذاهب من السنة والشيعة والمسيحيين والعلويين والاسماعيليين والدروز واليهود والصابئة واليزيديين الحقوق السياسية والمدنية المتساوية دون تمييز، بما فيها حق الوصول إلى أعلى المناصب والمراتب في الدولة.
ولننظر إلى تركيا الآن المحكومة من الحزب الإسلامي المتنور بقيادة أردوغان كيف تتجه باتجاه دولة المواطنة وتكريس دعائمها على الأرض، ولقد اعترفت الحكومة التركية في الفترة الأخيرة بالحقوق الثقافية للأكراد وبحقوقهم اللغوية والتعليمية وهنالك ملامح اعتراف في الأوساط المثقفة التركية بما جرى للأرمن من مذابح في أوائل القرن الماضي. وفي الواقع أزمة الهويات في عالمنا العربي هي من جانب أزمة فكر، ومن جانب آخر أزمة نظام سياسي. وسوف لن تحل أزمة الصراع على الهويات إذا لم نستطع بناء الدولة الديموقراطية التي تنظر للمواطنين كأفراد متساوين وليس من خلال انتمائهم إلى عشيرتهم وإثنيتهم ودينهم ومذهبهم. وبناء دولة المواطنين المتساوين يقع على عاتق كل فئات المجتمع الواحد وعلى ضرورة توحيد نضالاتها الاجتماعية والمدنية والسياسية.
وفق هذا المنظور أرى أن الفكر القومي العربي السائد إلى الآن في سوريا ولبنان ومصر والعراق وفلسطين منذ حوالي قرن كامل قد فقد علاقاته بالواقع وبالمهام المستقبلية التي يجب أن تنطلق منه. وهذا ينطبق أيضاً على الفكر الديني الذي لا تزال السيادة فيه للفقه التمامي الكامل المكمل العاصي على الاجتهاد والنقد والإصلاح. إن الفكر القومي المتعصب (لدى الأكثريات والأقليات معاً)، والفكر الديني التكفيري والإقصائي، والفكر اليساري السلفي القابع في الماضي ينتظر عودة الأندلس السوفياتية؛ هذه السلفيات جميعها رغم تفارقها تشكل من حيث تدري أولا تدري أهم دعائم الإطالة في عمر الدولة السلطانية الحديثة الشمولية الاستبدادية، وأهم إعاقة في بناء الدولة الوطنية الديموقراطية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق