الخميس، نوفمبر 24، 2005

قصيدة تأبين شجر شارع الغوطة

الشاعر علاء الدين عبد المولى - منتدى جمال الأتاسي للحوار الديموقراطي

باسم أهالي مدينة حمص
لا أقصد صهيونيّاً يحصد أشجارَ الزيتونِ بأسنان الرعبِ
بل أقصد سفّاحين ذوي قربى من شعبي
امتلأت أيديهم بالوحل اليابس والفكر البالي البالي
أعينهم نشفتْ فيها لؤلؤةُ الماءِ
وصارتْ كلّ أياديهم شفراتِ حصادٍ
تلتهم الشجر العالي العالي...
هذي الشجرةُ: بيتٌ لعناقِ عصافير مسافرةٍ
من غيمِ خريفٍ يائسْ
هذي الشجرةُ مائدة للقمر السّهران
على كتف العاشقِ منتظراً نفحةَ عطرٍ يتمرّغ بين أصابع أنثاهُ
هذي الشجرةُ يعرفها الطفل،
وتلكمْ يعرفها اللهُ
هذي الشجرةُ كم نقلتْ نبضَ صباحِ الخيرِ ينمّقها الجارُ إلى الجارْ
هذي الشجرةُ ذاكرةٌ لخصوماتٍ هادئةٍ
ذاكرةٌ للبيّاعين وهم مستندون دقائق قرب مفاتنها
حتى تعبر سيّدةٌ تشعلُ كلّ الأفكارْ
هذي الشجرةُ تعرفُ أشكالَ الخطواتِ
وأعناق الفتيةِ والفتياتِ
وهنّ يغلّفن خطاهنّ بمسفوحِ الإغراءْ
هذي الشجرة جدّةُ هذا الحيّ
وهذي عمّته
هذي خالته
هذي بنتُ المدرسة الأولى
ربطت بالأغصانِ حقيبتها
حتى يعبر ابن الجيرانِ وتوهمهُ: قد كبرتْ
الشجرةُ معجمُ أنوارْ
الشجرةُ إجماعُ الروح على تأليفِ الناسِ
على شكل غصونٍ عالية لا تكسرها الريحْ
الشجرةُ في آخرة الليلِ
وقبل أذان الفجر الأزرقِ فحوى التسبيحْ
الشجرةُ تحفظ في ذات الليلةِ قرآن محمّدَ أو إنجيل مسيحْ
الشجرةُ قولُ الأرضِ لسكّان الليلِ:
تعالوا نسجد شكراً للعطرِ وللمرأةِ
للوطنِ المتصدّعِ والمتفسّخِ مثل جدارِ السدّ المنهارْ
الشجرةُ فاتحةُ أو خاتمةٌ للأسرارْ
لكن قد تجمع في داخلها عشاقاً هربوا من سلطانِ النارْ
الشجرةُ دارْ
لا أبواب لها... لا أسوارْ
***
الشجراتُ جميعاً نمنَ بآخر ليلتهنَّ
وأحسسنَ جميعاً أنّ الأفقَ القادمَ ملتبسٌ
بروائح معدِنْ
نمنَ على قلقٍ في شكلٍ محزنْ
كُبرى الشجرات ارتفعت قامتها " زرقاءَ يمامةْ "
فرأت من خلف الأسوارِ وفي بضع مكاتبِ
سفّاحي غاباتِ الذكرى الخضراءِ،
رأت خارطةً للشارعِ خاليةً من كلّ الشجراتْ
فبكتْ في صمتٍ لتدرّب عائلة الشجر على لغةِ الأمواتْ
عرفتْ أن الشارعَ شارعَها سيعود إلى بدءِ التعريةِ
ولكن دونَ رياحٍ عاصفةٍ أو مطرٍ أو حربٍ
إذ لا حربَ... فقط سنوسّعُ هذا الشارعَ
حتى تعبر في المستقبل قافلة الأعداءْ
فالأعداء سيزعجهم شكل الشجر العالي
" لا شجر عالٍ = لا إنسانٌ عالٍ "
تكفي بضعة جرّافاتٍ طلعت من أدمغةٍ عفّنها
القبحُ الأبديُّ لتأكل أطفال الشجر العاري
وتهيل القاماتِ العليا الخضراءَ الخضراءَ
على قارعة الوحشةْ
شجرات الغوطة صرن أراملَ فليسكنْ هذا الشارع نعشهْ
أبداً لا أقصدُ صهيويناً
بل ابن البلدِ المنخورْ
يمكنه وبكلّ سرورْ
أن يحضرَ من جيبِ عقاراتِ الليلِ مشاريعَ ملفّقةً
مثلاً : أبنية دون أساساتٍ
وسدودً دون ممانعةٍ
ومدارسُ دون زهورْ
ومصارفُ دون رصيدٍ
وشوارع دون شجرْ
يمكنه أن يبني حتى من عفّته
سوقاً دونَ بشرْ
وسماءً دون مطرْ
فلهذا يمكنه وبكلّ سرورْ
أن يفرد في ثقةٍ فوق الطاولة العمياءْ
مشروعَ خرابِ الأشجارِ
فقط كي يقتل تاريخَ الذكرى
ويشوّه فجر الروحِ
ويدعس بالجرافة بيتَ العصفورْ
يمكنه وبكلّ سرورْ...
***
نهضَ الشارعُ في ذاكَ الصّبح المهجورْ
ليرى نفسه مُعفاةً من قولِ صباح الخير لأشجارٍ
كُسرِتْ ركبتُها
وتضعضعَ منها عظمُ السّنواتِ المقهورْ
كانت أرصفةُ الشارعِ تشهدُ مجزرةً شجريّةْ
جثثٌ من أغصانٍ وجذوعٍ وفروعٍ وتواريخَ سماويّةْ
سألوا عن شكل القاتلِ
ضجّ الشارعُ ولولَ: " شارونٌ مرّ هنا بكتائبه الفاشيّةْ "
لا أقصدُ صهيونيا
بل ابنَ البلدِ المتباهي بهويّتِه الوطنيّةْ...
***
هذا الشّارع أصبحَ منفيّا عن أمسِ وعن غدهِ
متّهمٌ لا يذكرُ سبباً ليصدّق حجمَ عقوبته
فالشارع لم يحملْ سيفاً في وجه أحدْ
لم يطلقْ ناراً إلاّ في الأعراسِ
- إذا بقيتْ أعراسٌ كبرى في هذا المستنقع والمدعوِّ: بلدْ -
لم يخرج في أيّ مظاهرةٍ ضدّ الغاردينيا
لم يتدخّل في شأن السّمسارِ المتخمِ بالنّزواتِ الدّنيا
لم يكتبْ منشوراً سريّا ضد ولاةِ الأمرْ
فإذا...؛ ما الأمرْ؟
هذا الشارعُ: فسحةُ أرواحِ ضائعةٍ
أغنيةٌُ تمتدّ سنينَ على إيقاعِ الصّيفِ
ودفءِ المطرِ الهيما
نْهذا الشارعُ: إنسانْ
لم يعجبهم أنه مختلفٌ
في كلّ نهارٍ يستقبلُ مجموعاتِ الزرقةِ من بئرِ الألوانْ
فلهذا...
قررَ سيّدُ هذا العفنِ الهمجيّ الأبد
يّالمترسّخِ في أدمغة ولاةِ الأمر،
وباسم جلالة مولاه الشّيطانْ
قرّرَ أن يغتالَ الشارعَ
وينقّيه منَ الشجرِ / الإنسانْ...

ليست هناك تعليقات: