الأحد، سبتمبر 10، 2006

وقفة مراجعة بعد خمس سنين على هجمات 11 / 9

جورج كتن

لم تؤد هجمات 11/9 لقطيعة تاريخية شاملة أو لبداية مسار عالمي جديد كالحرب العالمية الثانية أو سقوط جدار برلين, فهي لم تقلب موازين القوى في العالم لكنها أحدثت تغييراً هاماً لكونها جرت في الدولة الكبرى التي أصبحت القطب الأوحد والمنتصر في الحرب الباردة.

الواقعة أيقظت أميركا من أوهام أن قوتها ودورها القيادي العالمي يشكل رادعاً لحمايتها, كما أكدت أن أمن أميركا أو أية دولة أصبح بعد العولمة العابرة للحدود أكثر ترابطاً مع مجمل الأمن العالمي. أمن أميركا كان دائماً محوراً لجدل بين تيار سياسي يراه متحققاً من خلال عزلة أميركا عن مشكلات العالم, وتيار مقابل, متفوق عادة, دفع أميركا للتورط بدور فاعل في السياسة الدولية للدفاع عن أمنها ومصالحها.

هجمات 11/9 أفرزت سياسات جديدة داخلية وخارجية، الأولى تجسدت في إجراءات طوارئ نجحت حتى الآن في منع تكرار الهجمات وإيقافها قبل تنفيذها، وقد أدت لتقليص نطاق بعض الحريات مما أثار انتقادات داخل المجتمع الاميركي, إلا أن منع الإرهابيين من استغلال مناخ الحريات الواسع لارتكاب جرائمهم حاز على قبول الأغلبية, طالما أن لاستمرار الحياة أولوية على التمتع بالحريات, وأن الإجراءات تظل في حدود معقولة ومؤقتة لا تصل إلى "مكارثية" جديدة تطيح بالحريات الأساسية في المجتمع الديمقراطي الأول بالعالم.

لا تنجح الإجراءات الداخلية ذات الطبيعة الدفاعية وحدها في جعل أميركا أكثر أمناً, فلا بد لتحقيق ذلك من عالم أكثر أمناً. مما افترض استراتيجية اميركية استباقية تسعى للقضاء على الإرهاب العالمي في مهده وتجفيف منابعه وخاصة في الشرق الأوسط الغارق في التخلف والاستبداد والفساد, كأفضل حاضنة لتوليد اليأس وثقافة الانتحار.. مما جعل الإدارة الأميركية تنتقد سياساتها السابقة في دعم الأنظمة الاستبدادية الشرق أوسطية, وتنتقل لسياسة جديدة تؤكد على حاجة المنطقة لتغيير ديمقراطي شامل يحترم حقوق الإنسان ويعزز دور المجتمعات المدنية ويوسع المشاركة ويحرر المرأة ويحدث الاقتصاد ويحسن الأوضاع المعيشية...

أوروبا سبقت أميركا في وعي أهمية الإصلاح في المنطقة فطرحت مبادرات عديدة, إلى أن توافقت قمة الدول الثمان الكبرى منذ سنتين حول مبادرة موحدة: "شراكة من أجل التقدم ومستقبل مشترك مع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" لتشجيع الديمقراطية والحكم الصالح والقبول بالآخر والتبادل الحر للأفكار والتسوية السلمية للخلافات والوصول للمعرفة التقنية وتطوير البحث العلمي وتوسيع الاستثمار وخلق فرص عمل...

وقد رحبت المبادرة بالإسهامات الإصلاحية العربية الرسمية وغير الحكومية, وتحدثت عن مساهمات شعوب المنطقة في الحضارة الإنسانية, ودعت لحل سلمي للصراع العربي- الإسرائيلي وقيام دولة فلسطينية، ووضعت خطة لإنشاء مؤسسات وآليات لتطبيق الإصلاح, وأوضحت أنها لن تفرض خطتها المقترحة بل أبدت استعدادها للتعاون مع الراغبين من حكومات ومنظمات.

إذا كانت مبادرة الشراكة هي الجانب السلمي لليد الممدودة من أجل إصلاحات مطلوبة بإلحاح في المجتمعات المعنية, ولمعالجة الأسباب التي ولدت الإرهاب في المنطقة وصدرته للعالم, فأن الوجه الآخر العنفي في سياسة أميركا وحلفائها تجلى في "حرب على الإرهاب" بدأت في اجتياح أفغانستان وإسقاط حكومتها الخارجة من ظلام القرون الوسطى والتي قدمت ملاذاً ومنطلقاً للإرهاب العالمي. وهي حرب لقيت تأييداً من المجتمع الدولي لم يتوفر للحرب اللاحقة ضد النظام العراقي, مما اضطر أميركا للعمل منفردة دون قرار دولي وبرفض أممي واسع. وحتى بعد إسقاط النظام وصدور قرارات لاحقة لمجلس الأمن تعطي شرعية لقوات متعددة الجنسية تساعد الحكومة العراقية في مواجهة الإرهابيين, فثلاث سنوات غير كافية للحكم على النجاح في إقامة نظام ديمقراطي فيدرالي متصالح مع شعبه والدول المجاورة.

العملية السياسية في أفغانستان والعراق وقيام حكومات دستورية منتخبة وقابلة للتداول، يمكن اعتباره نجاحاً منقوصاً طالما لم توقف عمليات القتل اليومي. وإذا كان النجاح في أفغانستان أفضل في مواجهة الطالبان, فإن الفشل في العراق لم يستبعد نهائياً بعد, ويتحمل المسؤولية عن هذه النتيجة القوات الأجنبية التي تقودها أميركا التي ارتكبت أخطاء كثيرة, وتدخلات دول الجوار لتأجيج العنف العشوائي, وقوى إسلام سياسي حاكمة أطلقت ميليشياتها لإذكاء الفتنة الطائفية على حساب الأمن ودور الدولة وإعادة الإعمار, ومنظمات إرهابية أخفقت في التصدي للعملية السياسية لكنها نجحت في قتل عشرات آلاف المدنيين وتسببت في إطالة أمد بقاء القوات الأجنبية. كسب معركة العراق سيقصم ظهر الإرهابيين, وفي أسوأ الاحتمالات فأن الفشل في "معركة" لن يعني عدم كسب "الحرب" طويلة الأمد ضد الإرهاب العالمي.

أميركا وحلفائها الغربيين ليسوا وحدهم في الحرب فهناك أكثر من 90 دولة تنسق في مجال الأمن والمعلومات وملاحقة الإرهابيين, كما أن مجلس الأمن أصدر قرارات: 1373 للعام 2001, و1566 للعام 2004 ألزمت جميع الدول بالتعاون ضد الإرهاب ونصت على عقوبات للدول التي تساعده. والمجلس يعمل في جبهة أخرى لوقف انتشار أسلحة الدمار الشامل التي ستكون أخطر ما واجهته الإنسانية منذ نشأتها فيما لو تسربت لأيدي المنظمات الإرهابية. كما لا يمكن استبعاد القرارات الصادرة قبل الحرب الأخيرة بخصوص لبنان, التي اعتبرت جريمة اغتيال رفيق الحريري والجرائم التي سبقتها وتلتها أعمالاً إرهابية, مما أخضعها للاهتمام الأممي بتشكيل لجنة تحقيق ومحكمة دولية.

إن الخمس سنوات المنصرمة ليست فترة كافية للحكم على نجاح الحرب على الإرهاب, لكنها مفيدة في تحديد الأخطاء المرتكبة والسياسات والوسائل الأفضل لكسب الحرب مستقبلاً, فهي حرب خفية طويلة ضد عدو مجهول بلا خط جبهة واضح أو بنى تحتية أو منشآت اقتصادية وعسكرية, العمل المسلح ليس الوسيلة الوحيدة لمواجهته, فالوسائل الأهم هي حرب الأفكار والأيديولوجيات لتغيير المناهج والمفاهيم التي تحض على الحقد والكراهية و"الجهاد" ضد الآخر، ولاستبدال ثقافة استسهال الموت والانتحار و"الاستشهاد" بالدفاع عن الحق في الحياة, والتعامل مع جذور الإرهاب وخاصة التطرف الأصولي الإسلامي, ومواجهة مبرري الإرهاب من رجال دين يفتونه, وفضائيات وكتاب متطرفين ودول ممانعة استبدادية ترعاه خفية كوسيلة للدفاع عن أنظمتها أو كورقة مساومة.

ربما ستمر عقود قبل إنجاز نجاحات على جبهة المواجهة الأيديولوجية, تقلص قدرة المنظمات الإرهابية على تجنيد العناصر المستعدة للموت من أجل مفاهيم بالية تعتقد لجهلها أنها صائبة. الأيديولوجيا حاضرة دائماً في الحروب، فالعالم ناضل ضد الأيديولوجيا النازية في الحرب العالمية الثانية وضد أيديولوجيا رأسمالية الدولة الاستبدادية في الحرب الباردة, لكن الحرب الراهنة تتميز بتأثير أكبر للأيديولوجيا, خاصة بعد ثورة الاتصالات التي جعلت الإعلام في متناول الجميع.

من الضروري التمييز بين الإسلام كدين تسامح يعتنقه الملايين, والإسلام السياسي الساعي للسلطة باستخدام الدين أحياناً أو الدين والعنف أحياناً أخرى, فالإسلام المعتدل هو فقط الرافض للإرهاب والساعي لفضح زيف استناده للدين وعدم التورط بتبريره لأي سبب كان, إذ يخشى أن الحركة الإسلامية لم تتعلم شيئاً من تجارب سابقيها من ليبراليين وقوميين ويساريين, إذ اعتمدت في سياساتها على غيبيات الماضي والحساب الإلهي. كما يخشى إن لم يوضع حد لحملة التحريض ضد الغرب, أن تؤدي لتحشيد ضد العالم الإسلامي, فالأمور لا تتجه لوضع العالم في مواجهة أميركا كما توهمت بعض النخب, بل وضع العالم في مواجهة الإرهاب والأنظمة المستبدة والمنظمات المتطرفة والمفاهيم المتخلفة.

إن افتقاد الديمقراطية وشيوع الاستبداد والفساد ليست الأسباب الوحيدة لانتشار الإرهاب, فالتخلف والأمية والفقر والجهل والبطالة وعدم التوجه لحل المشكلات العالقة والصراعات العبثية التي هدرت طاقات المنطقة تلعب دوراً كبيراً. إن رفض قبول تبرير الإرهاب بعدم التوصل لسلام دائم في المنطقة، لا يعني تجاهل أن أحد أسباب استمرار الإرهاب هو تعثر عملية السلام وعدم بذل الجهد الكافي لاستئناف المفاوضات للتوصل لحلول نهائية.

تجربة الخمس سنين أثبتت أيضاً أن المطلوب ليس فرض الديمقراطية والقيم الغربية بل وقف الدعم للأنظمة الديكتاتورية وربط الأمن بالتنمية البشرية والمادية, ووقف التدخلات العسكرية, وعدم تسريع التغيير قبل وجود البديل المناسب، وإجراءات متوافقة مع معايير حقوق الإنسان العالمية لعزل المتطرفين عن مؤيديهم, وعدم فقدان الثقة بالديمقراطية بسبب وصول الإسلاميين للسلطة عن طريقها, فهي مرحلة مؤقتة قبل الانتقال للديمقراطية الليبرالية العلمانية على أنقاض الفشل المتوقع للإسلاميين في تنفيذ برامج أفضل لشعوبهم المتطلعة للحداثة والرفاه.

لا يمكن تجاهل مدى التأثير الذي خلفته "الحرب على الإرهاب" والمتغيرات العالمية التي سبقتها وتلتها على العالم إجمالاً ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص. فإذا كانت النهضة في معظم البلدان العربية والإسلامية قد أعيقت محاولاتها المتكررة منذ قرنين لأسباب أهمها رفض الحداثة لتعارضها مع التراث والنصوص القديمة السائدة في المجتمع, فقد ثبت الآن لقطاعات تزداد اتساعاً أن لا نهضة ولا حداثة وتقدم ومواكبة للعصر إلا من خلال الديمقراطية وحقوق الإنسان وتجميد النصوص التي تتعارض معها والمؤسسات التي تعيق مسيرتها.

كما أن التأثير الأكبر للمتغيرات العالمية في أوائل القرن إبرازها أن النهضة والحداثة المعاقة لم تعد مسألة خاصة بمجتمعات المنطقة, فقد أصبحت في قلب الاهتمام العالمي وعلى رأس جدول أعمال الدول الديمقراطية المتقدمة التي أدركت مؤخراً أن أمنها وازدهار حضارتها يتأثر سلباً باستمرار وجود مجتمعات متخلفة في أي جزء ناء من العالم الذي يزداد ترابطاً.

لكن المؤسف أن هذا التأثير لم يصل لنخب ماضوية لم تستوعب بعد حقيقة المتغيرات العالمية ولم تجر وقفة مراجعة شاملة لمفاهيمها القديمة: وطنية تقاس بمدى العداء للشيطان الأكبر!.. هيمنة إمبريالية للتفتيت والتقسيم والنهب!.. مخططات مسمومة ونظريات مؤامرة!.. هواجس الهوية المهددة بالاندثار!.. حراسة الثوابت وانتظار مجيء التعددية القطبية!.. الخ.. فعند العرب لكل داء دواء إلا الحماقة أعيت من يداويها.

* georgecat@mail.sy

ليست هناك تعليقات: