الأحد، يوليو 13، 2008

في الانتظار !


أحسان طالب
15/6/2008

أنائم أنت .. تنام وحدك
هكذا بكل بساطة
تغمض عينيك و تغفل
ألم تعدني بالانتظار ؟
تنام باكرا بعد منتصف الليل
وقبل الفجر
قبل أن أعود
قلت لك ابق على الانتظار
كن مستعدا دائما
سآتي يوما ما
ساعة ما
****
أنا في الانتظار دائما
في حالة تذكر لا تنتهي
تعال وقت تشاء
ستجدني في كل مكان
في الطريق وفي الفراش
في السيارة وعلى مائدة الطعام
*****
كانت دقات قلبي تعد الثواني
في الانتظار
أسمع النبضات كوقع الجنود
تدق في رأسي
تتسارع تتصاعد حتى نقطة الانفجار
وعند رؤيتك ينتهي كل شيء
يعود السلام
يرتاح القلب وتطمئن الروح
***
رحلت بعيدا في ثقب أسود
تغادرني روحي بحثا عنك
تصطاد صوتك
صورتك
كلماتك ضحكاتك
أسترق السمع إلى داخلي
أتلصص على مشهد أدخل البهجة إلى قلبك
أهرب من النظرات
أبتعد عن العيون
تخونني الدمعات
تخونني السيطرة
***
لا تزعج الآخرين بمأساتك
هكذا تحدثني نفسي
وكأنها لا تعلم
تطلب من التجلد و التحكم
وكأنها تجهل
الروح الهائمة
و النفس الضليلة
تنعش التفاصيل
تفترش لحظات الهروب
تملؤها بذكراك

أنا و الموت يجذبني


إحسان طالب
7/6/2008

يستهلكني الحزن
تتآكل مشاعري بفعل الوحدة
أنا و الموت يجذبني
أدمنت معاقرة الأسى
الفرح الجميل يأنفني دونه قطف النجوم وسد الثقوب
أهرول معزولا إلى أحضان ذاتي
أنثر رماد سعاتي
فوق ذرى الزمن الجامد
أنهكت الخيبات لحظات أنس
بحثت عنها طويلا
قوة الألم أمتصت نقي عظامي
غرست الجرح في قلبي
نست أن تخرج النصل المسنن من أحشائي
أدمت الشقاء
فلا انتظار الفرج بريق
ولا اليد المرفوعة نور
ظلمة تعشش في قعر روحي
تنبذ كل ما عرفت من شهوة
تقدم كأس العنت وقت العطش
صدأ مفتت كرمل الصحراء
بعد الغزو
صفوان على حجر فؤادي
غبار في عيون الأطفال أحلامي
****
استوطنت الكأبة مستودع الرغبات
وهربت اللذة إلى غير رجعة
حرب مسعورة تمارسها الأيام
تغتال أجنة المتعة تقرض أطراف الأصابع
بعد حين تتضخم الأرضة
وتتعفن الروح داخلها
تنتظر يوم البعث الموعود
تستذكر عمرا مديدا
لا يستحق الحساب
استمرأ اللهب
نسي الثواب و الجزاء
أيتها الروح المعذبة أنى لك ؟
الوقوف في ميزان الثواب و العقاب
أيها الرجل المكلوم
هل حقا ستتقاذفك المرزبات ؟
أيها الحظ العاثر
هل حقا يحصي عليك القدر الأنفاس و الكلمات ؟
يحدد المسالك و ينهي الطرقات
يقف في أخر نفق العتمة
يسألك عن زمن وجسد ومال و عمل
أنى يصح السؤال وقد حمل الشقاء
النعش من التراب إلى التراب

مآخذ منهجية على الليبرالية العربية


إحسان طالب

28/5/2008

تلتقي كثير من التيارات في عالم الفكر والثقافة و السياسة الإصلاحية الصاعدة في تطلعاتها قبالة العدالة و المشاركة و المساواة وتتشاطر مقارباتها لحالة الشعوب و المجتمعات العربية الراهنة ضرورة الخروج من بؤس الواقع ووقف حال التدهور و الجمود المهيمن ،إلا أن الجو السياسي المضطرب وتأزم الموقف والقرار ينقلب إرباكا شديدا ولدته النتائج المخيبة للآمال لمشاريع نشر الديمقراطية وتبني منظومة أفكار حقوق الإنسان، وإذا كان اللوم لا يلقى على عاتق الفكرة و المبدأ فان سهام النقد والتجريح توجه حيال المنهج الليبرالي ومفرزاته وتحمله مسؤولية الوضع المتردي ومآلا ته المستقبلية، وبصرف النظر عن دقة ذلك التقويم أو مبالغته فالوقوف عند النقاط الرئيسة المعالجة لذلك المنهج مسألة موضوعية تلزمها قواعد البحث والتقصي .
كان رواد النهضة العرب وهم أبرز الوجوه الليبرالية واثقون من مثالية النموذج الغربي الأوربي واستشرفوا فيه العلاجات الناجعة لأمراض الشرق وكان اعتقادهم بضرورة تطبيقه حتمية: يقول طه حسين : نريد أن نتصل بأوربا اتصالا يزداد قوة من يوم إلى يوم حتى نصبح جزءا منها لفظا و معنى وحقيقة وشكلا،وعلينا أن نشعر الغربي بأننا نرى الأشياء كما يردها ، ونقوم بالأشياء كما يقومها ،ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها ) (1) . تلك الرغبة في استنساخ التجربة الأوربية لم تكن في الواقع عملية ولا علمية لاختلاف الخلفية التاريخية للمنطقة العربية اجتماعيا و فكريا و سياسيا كونها منيتة عن البيئة التي طرحت فيها ولعل ذلك أحد الأسباب التي ألت بالتجربة الليبرالية للبقاء ردحا من الزمن حبيسة فكر النخب ولم تتمكن من خلق جذور جماهيرية لغربة الخطاب و انعدام تماسك الهوية الليبرالية . يقول كمال عبد اللطيف في كتابه (سلامة موسى و إشكالية النهضة : إن مسيرة الثورة الكمالية كانت تتجه نحو غرب رأسمالي أي نحو تمثل مكتسبات البرنامج الليبرالي بشكل كاريكاتوري ، نقل الفكر و الممارسة الجاهزة و محاولة تطبيقها في مجتمع تحكمه شروط مخالفة لشروط تحققها التاريخي )صفحة 185
لقد كانت التوجهات الليبرالية العربية في سياقها خارج التاريخ الذي نشأة فيه وفي بعض جوانبها اندهاش بلغ حد الصدمة بالغرب المتطور علميا و المتقدم سياسيا و اجتماعيا تسبب بردة فعل أحدثتها المطروحات الغربية قبالة سيادة الفكر الغيبي واستبدادية الحكم الفردي ، لقد كان تشخيص الداء واضح الملامح محدد الأطر لكن العلاجات كانت مقلدة و منسوخة عن وصفة طبيب بعيد لمريض أخر لم يعاينه ولم يختبر أوجاعه فآلت التجربة إلى نتائج سطحية استعجلت الشفاء فكانت انتكاسة المريض أشد وطأة و تأخرت طويلا لتتطور وتحدد ملامحها وإلى حد ما هويتها. ردة الفعل تلك تجلت في محاولة دائمة لاستجلاب الصورة الغربية وتعليقها مكان النموذج السلفي السائد :(إن ازدواجية المثقف السلفي وتوتره بين الشرق و الغرب ، ثم تمسكه بالشرق وبالتراث تقابل عند المثقف الليبرالي بالسعي الدائم للبحث في التاريخ الثقافي للغرب ، ومحاولة استنساخ جوانب من بالصورة التي تجعل الشرق غربا تابعا مهيمن ، أي لغرب لا مفر من سطوته و جبروته ، الانتقائية هنا بديل لا تاريخي لازدواجية وتخلف الرؤية السلفية ( المصدر السابق 232
وفقا لذلك التحليل يمكننا القول بأن الليبرالية العربية لم تبحث عن خطاب تأسيسي ( وهذا ما نسعى في الواقع لنقوم به هنا ) يصلح منصة انطلاق لصيانة وبلورة قراءة قادرة على تحديد قاعدة ينيوية يتشكل حولها و عليها كيان فلسفي فكري يجادل السلفية والشمولية من شط عقلاني محايد مؤهل بالمنطق التاريخي يطرح حلولا قريبة في سياقها من الشرط المكاني و الزماني للبيئة التي يرجى علاجها من سطوة الغيب ومبررات الاستبداد
ينحاز المنهج الليبرالي إلى قناعة إستراتيجية ترى العالم فضاء مفتوحا أمام المنطلقات الإنسانية ، يتجاوز الحدود ولا يعبأ بالموروثات الوطنية والقومية الممانعة و المعارضة، ويتبنى فكرة إعادة صياغة قيم ومفاهيم السيادة وحدود التدخل الدولي في المسألة الوطنية ، ولا يرى تدويل الصراعات الداخلية خطرا أو سببا لضياع الهوية .هذه الرؤيا تأسست وفق معلمين رئيسيين الأول هو الميل بالعموم صوب النموذج الغربي واتخاذه أمثولة وقبلة تميل القلوب و العقول إليها تستجدي الحلول وتقتفي أثر المدارس الحديثة في الاقتصاد و الاجتماع و السياسة .ومبرر ذلك الفشل المزمن لمشاريع تاريخية و أخرى تقليدية تواءمت مع أنظمة شمولية ورثت الهزيمة وجذرت التخلف،كانت على الدوام متصدية لأفكار الحرية والديمقراطية لا تعبأ بحقوق الإنسان أذاقت الشعوب ويلات القهر بذريعة التصدي لسياسات الهيمنة و التسلط العالمي . المعلم الثاني هو إعادة صياغة الأولويات وبروز المفهوم الإنسان المجرد كقيمة عليا تطغى على ما دونها من القيم حيث غدا تحرير العقل مقدما على تحرير الأرض ، وصارت القيم الإنسانية مقدمة على القيم الوطنية وباتت حقوق الأقليات العرقية و الدينية في طليعة هموم الكتاب وهيئات الحقوق المدنية، في خضم هذا المنهج العمومي مالت بعض القوى العربية إلى تبني العولمة وارتبطت بها ورأت في أجواء التدخل الدولي حلا قريبا لأزمات الشعوب ومشاكل الدول .راجع الملحق رقم واحد :مشروع لبرنامج ليبرالي سوري.
كذلك يميل المنهج الليبرالي صوب أيديولوجية رأسمالية بعيدة في منطلقاتها النظرية عن أولوية العدالة الاجتماعية قريبة من قبول تحقيق الربح على حساب الطبقات الأكثر عوزا و حرمانا،وإذا كان التطور المدني و السياسي في الغرب سمح بمستويات معقولة تحقيق التوازن الاجتماعي وفق منظومة حقوقية و دستورية ،فإن الانعكاسات الخارجية للبرالية الجديدة على شعوب العالم الثالث باتت تشكل خناقا شديدا على مقدرات وثروات البلدان النامية وتحرمها من السيطرة وإدارة إمكاناتها الطبيعية يما يمنع من تحقق متطلبات وحاجات الأفراد و المجتمعات وطموحاتها الوطنية و القومية.
تلك المسؤولية الملقاة على عاتق السياسات الغربية و الأمريكية حملتها رياح الضيق من مأساة عالمية تحل الفوضى و الاضطراب في أماكن مختارة على الخريطة الدولية نالت منطقتنا العربية قسطا وافرمنها وألقتها فوق الفكرة الليبرالية العربية و متبنيها بالتبعية و التسلسل
هذه الرؤيا السطحية أججت الهجوم على المنظومة الفكرية الليبرالية وأشعلت هاجس ارتباطها بالأمركة وما نجم عن عسكرة العولمة من تشظي الصراعات الوطنية نحو صراعات طائفية وعرقية وتفاقم النزاعات الإقليمية على الحدود و الموارد وتحولها لنزاعات مسلحة . وربطت أشكال مناهضة العولمة بالعداء لتك المنظومة وحملتها أوزار ومفاسد النظام العالمي الجديد :( حددت حركات مناهضة العولمة موقفها المبدئي بمعارضة الليبرالية الجديدة السائدة على نطاق العالم باعتبارها لا يمكن أن تنتج سوى ما تراه حاليا وهو استقطاب الثروة و التدهور في أحوال شعوب بكاملها وتنامي الزعامة العسكرية و الاحتلال ..) 6
تزامنت الدعوة إلى ممارسة الديمقراطية ونشر ثقافة حقوق الإنسان وحماية وجود وحقوق الأقليات العرقية و الدينية في نهايات القرن الماضي مع سيادة الليبرالية الجديدة، وباتت سيادة الديمقراطية متداخلة بصورة مباشرة مع حرية السوق وسياسة الانفتاح الاقتصادي مما تسبب في إلحاق الضرر بالمبدأ و الفكرة الليبرالية القائمة أساسا على فلسفة الحرية وقيمة الفرد العليا .وتكمن المشكلة الرئيسة هنا بذلك الربط الذي يفاقم الخشية من سيطرة أو انتشار تلك الفلسفة المتزامن مع اتساع الهوة بين الفقراء و الأغنياء بين الشمال و الجنوب وبين الشرق و الغرب بما تحمله الجهات الأربع من تنوع وتعدد ثقافي وسياسي و اجتماعي . وتباين مجحف لطبيعة الحياة المعيشية لأناس ينفقون المليارات من الدولارات على الكماليات بينما لا تجد الملاين على الطرف الآخر ما تسد به رمقها، تلك الخشية بجانبها الاقتصادي الخارجي محقة في حين أنها مجحفة إذا ما طبقت مقاييسها على الداخل فالليبرالية المتوحشة كما يعرفها عبد الرزاق عيد ( هي تلك النخب من أساطين المال الذين يفترسون الحدود الدولية و القيود والوطنية على حركة رأس المال حيث تنتشر على ساحات القارات دون رقابة ضريبة أو جمركية أو حدود سياسية). وهي (الحرب ضد أي عائق يقف ضد الربح ، هي القوة العسكرية والاقتصادية التي تفتت أي مفهوم أو قيمة تقف في طريق مشاريعها في الهيمنة و السيطرة )هي السياسات الدولية التي لا تمانع بإسالة الدماء البشرية مقابل إسالة النفط والسيطرة على إمدادات الطاقة ذلك هو الجانب الموحش حقا الذي يستغل عن سوء قصد لضرب التوجهات الليبرالية الإنسانية العربية البريئة من سياسات لا تقيم اعتبار للبشر خارج منظومة الغرب الجغرافية و الثقافية والبعيدة كل البعد عن تصورات فلسفة الحرية المنبعثة أصلا من الإنسان المتقمص لصورة المطلق . لقد تطورت الفلسفة الاقتصادية الليبرالية التي بدأت متوحشة وسارت نحو آفاق إنسانية و اجتماعية و ما نشهده في العشر الأول من القرن الواحد و العشرين هو ارتداد لفعل وتشويه لفكر استمر في المعالجة و الصيانة ليبلغ منطقة يكون التقدم والتطور في خدمة البشرية كلها وسببا لوقف معاناتها وليس العكس .
على الصعيد السياسي الذي تشكل الانتخابات العامة انعكاسا لتاريخه يأخذ على الليبراليين العرب عجزهم الحالي عن تشكيل تنظيم سياسي جماهيري ذو امتدادات عربية أو إقليمية خلافا للأحزاب الدينية و القومية التي استطاعت رغم كل الصعوبات تحقيق حشد جماهيري عريض مؤيد لها و مناصر لمنطلقاتها ، فأحزاب الإسلام السياسي ما زالت تحظي بجماهيرية عالية و في كل الفترات بما في ذلك فترة صدامها مع السلطة و إلى الآن، كذلك مازال حزب البعث العراقي يحظى بتأيد معقول بعد احتلال العراق و توابعه ذلك الواقع كان في الماضي و لم يتغير كثيرا في الحاضر و إن باتت الغلبة للتيار الديني غير مسبوقة . وإذا كانت بعض لأحزاب المعروفة سابقا كأحزاب يسارية تحولت بطريقة أو بأخرى صوب الفكرة الليبرالية فان ذلك لا يعني قيام أحزاب ليبرالية بما تحمله الكلمة من معنى ومازالت قاصرة عن تلبية مقومات المنظومة الفكرية والسياسية لليبرالية بمفهومها الفلسفي .وربما يمكن عد حزب الوفد المصري أول حزب ليبرالي عربي إلا إننا لا نستطيع إيجاد امتداداته العربية أو الإقليمية خارج مصر ، و حتى في مصر لم يستطع الاستمرار بصورة فاعلة في الحراك السياسي داخل الشارع المصري بعد ثورة يوليو مع أن السبب يعود لسياسة الحزب الواحد المطبقة آن ذاك لكن على الصعيد الجماهيري لكنه لم يتمكن من استقطاب الجماهير عندما أتيحت له الفرصة أيام حكم الرئيس السادات وازداد الوضع سوءا في الوقت الحاضر .في عام 1984 حصل حزب الوفد على 58 مقعدا في البرلمان وفي عام 1987 حصل الحزب على 25 مقعدا وفي عام 1995 حصل على ستة مقاعد وفي سنة 2000أبقى على نفس العدد و في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لمجلس الشعب المصري و التي جرت في 20|10 عام 2005 نالت قوى المعارضة المتمثلة في الجبهة الوطنية للتغير و التي تضم حزب الوفد و حزب التجمع اليساري و آخرون ستة مقاعد فقط ، وهذا يشكل في الواقع فشلا شعبيا مريعا للأحزاب السياسية العلمانية عموما جديرا بالدراسة و التحليل . ولعله يعكس الهوة العميقة الموجودة بين ما تذهب إليه النخب الثقافية _ خارج التيار الديني _ و بين الرأي العام العربي.
الليبرالية المفرطة :
التعبير المباشر الواضح عن العولمة الليبرالية المفرطة هو التحكم المطلق لرأس المال على ما سواه في العالم ، و اتخاذ ما يلزم للوصول إلى الهيمنة و السيطرة .
لقد شكل المنهج الليبرالي الاقتصادي على الدوام عائق أمام قبول الحريات والقيم الليبرالية عموما وطغى في كثير من الأحيان على الرؤية الفلسفية للإنسان التي تلتقي حولها النظريات الفكرية الوضعية، لما يعتري ذلك الجانب من مخاطر وإشكالات بالغة التأثير في حياة الفرد وعلاقات الإنتاج وتوزيع الثروة بين أبناء الوطن الواحد ، تلك المخاطر أخذت منحا تصاعديا متطورا تنامى ليصبح هما كونيا تلتئم حوله مجموعات و منظمات في الدول النامية و المتقدمة على حد سواء . جزء مهم من ذلك عائد للخلفية اليسارية الفكرية والسياسية التي توارثت العداء للغرب دغمائيا وعارضت منتجاته الإنسانية وشككت في أطروحاته المنادية بالحرية و الديمقراطية استنادا للنتائج المخيبة و الخطيرة لتك الدعوات و انعكاساتها السلبية. .على الضفة الأخرى أفرزت التطورات الجيوسياسية العالمية و التغيرات الإستراتيجية الإقليمية المرافقة لرزمة الهزائم و الإخفاقات المحلية منذ ثمانينيات القرن الماضي، نخبا ثقافية فكرية دأبت على المراجعة و النقد الذاتي بموضوعية حينا ً و ردود أفعال أحيانا أخرى نقلت البعض إلى الجانب الآخر تماما نحو الليبرالية المفرطة - بذات الطريقة التي تبنت فيه أفكارها القديمة - فلم تعد ترى مشكلة في التوسع الرأسمالي وعولمة الموارد الكونية، غير معترضة على حرية حركت الكتل النقدية و الاحتكارات الدولية متناغمة مع التحرر الكامل للتجارة العالمية متغافلة عن احتكار التكنولوجيا و تصدير الصناعات الخطرة إلى دول العالم الثالث عازية التخلف والفقر لبيئة داخلية بحتة .تلك التصورات المفرطة الجانحة نحو المحافظين الجدد أغفلت الأخطار الكونية الناجمة عن سياسات صناعية ألحقت بالبشرية كوارث كونية تثيرها بإلحاح أزمة الغذاء العالمي الخانقة و ارتفاع أسعار المواد المعيشية الرئيسة.
إن أيديولوجيا ألاستهلاك الرأسمالية باعتبارها منظومة أفكار مترابطة تتحكم وتسير سلوكيات الدول و المجتمعات الغربية، انقلبت ندرة خطرة و صراعات مدمرة و استنزافا مجحفا للموارد الطبيعية ، تجاوزت حدود أثاره السلبية حاضر البشرية ليصبح خطرا على مستقبل الإنسان و الأرض . وتحمل الدراسات العلمية الحديثة السياسات الصناعية للدول المتقدمة مسؤولية التداعيات الخطرة للتغيرات المناخية و الاحتباس الحراري التي باتت تنذر بكوارث إقليمية بدأت نتائجها الوخيمة بالظهر تباعا من ارتفاع لدرجة حرارة الأرض وذوبان لثلوج القطبين المهدد بارتفاع مستوى البحار ما يعني غرق مدن مأهولة للأسف الشديد تتمركز مخاطرها الأولية في مدن الساحل الأسيوي و دلتا النيل المصري ولم يعد مقبولا علميا تبرئة الدول المتقدمة مت مسؤوليتها المباشرة عن تصاعد تكرار الكوارث الطبيعية : راجع الملحق رقم 2.
للبرالية المفرطة جانب آخر مهم ينفرد بتحليل مسرف لأزمة النهضة العربية حيث يبتعد في مقاربته عن العنصر الخارجي ويتجاهل مصائر زرع و إنبات دولة إسرائيل في قلب البلدان العربية وينقلب بمفرداته النظرية نحو الداخل كرد فعل تلقائي على التحليل الا موضوعي الذل يلقي بالمسؤولية الكاملة على المآلات العربية المعاصرة على الغرب و الاستعمار و بنفس السوية على إسرائيل.
هذا الخلل المنهجي في التحليل عائد لطريقة تفكير المدارس الشمولية القديمة، القومية المتعنتة و الماركسية الجامدة و الإسلامية التقليدية التي خرج من عباءتها كتاب و باحثون و سياسيون أرادوا قلب الطاولة القديمة بكل ما عليها كونها لم تفرز سوى التخلف والتعصب و الجمود المقرون بسلاسل لا تنتهي من التراجعات والهزائم. وبدت المسألة و كأنها تبادل للتهم و الأدوار فإذا كانت النخب السلطوية تحمل الخارج إسرائيل كل المسؤولية فان نخب اليمين العربي تحمل الذات و الداخل كل المسؤولية، هذه الحالة في دلالتها المباشرة تنقلب نحو التركيز على قضية النقد و المراجعة الحقيقية والاعتراف بقصور الامكانات و الأدوات و الوسائل المستخدمة في النقد و التحليل .
ذلك المنهج المفرط سارع لتأييد غزو العراق و تبنى عناوين المشروع الأمريكي للمنطقة ونعى ثقافة المقاومة كحالة من حالات النهضة و مقارعة الظلم و الاحتلال و الاستبداد جملة و تفصيلا ونأى عن المشاق واستمرئ جني الثمار دون عناء ، هنا أيضا جاء ذلك الموقف كرد فعل لا عقلاني على الترويج لثقافة الموت وقتل الذات والتضحية بالمختلف واحتقار قيمة الإنسان قبالة العقائد و الأيديولوجيات ! وجاء كرد فعل على الدعوات و الشعارات المعارضة للحداثة و العقلنة المنتجة لفكر أصولي متصلب لا يرى الفلاح و النجاح إلا في ركوب الجمل و تقصير الثوب و إطالة اللحية أو يؤخر مشاريع التنمية و التطور إلى ما بعد تحقيق دولة الوحدة العربية النقية الطاهرة لا يوجد فيها جزء محتل أو مغتصب لو تسبب ذلك في تكريس الاستبداد و الظلم وإهدار كرامة الإنسان فلا صوت يعلو على صوت التحرير و الجهاد.
هذا المنهج المفرط يقال فيه النقد التالي ((لا يتورع الليبرالي العربي عن اللجوء المسرف لآلية النقد الذاتي في معالجته لكافة القضايا المعاصرة ، إذ لا يرى في الاستعمار الأجنبي إلا قابلية داخلية ولا يجد في احتلال العراق إلا خروج البعض قوميا عن المنظومة الدولية ، بل لا يعد المقاومة في العراق وفلسطين أكثر من لعبة خطرة لا يدرك " المتشددون " أبعادها أما العولمة بوجهها الأمريكي السافر فتحول لدى بعضهم نتيجة طبيعية للتطور الديالكتيكي للمجتمع الإنساني _ بالمفهوم الهيوماني الشامل _ والذي مازال يعمل على كتابة صفحات تاريخه الأولى ))أحمد دعدوش الليبراليون العرب : هل هم حقا ليبراليون :مجلة البيان
تلك الليبرالية المفرطة لا تشكل في الواقع كتلة أو تجمعا ملموسا يصح أن نطلق علية تلك التسمية صحيح أن هناك تناغما ملموسا بين ما يطرحه ليبراليون كانوا بالأمس ماركسيون أو قوميون أو إسلاميون لكن في الحقيقة يندر أن تجتمع صفات المنهج المفرط في تجمع أو تيار ليبرالي بعينه أو في باحث وكاتب بذاته وكما هي الحال في المنظومات الفكرية و الفلسفية ذوات التوجهات المشتركة تحت عنوان أو مسمى معروف يصح القول بوجود مناطق ليبرالية متفاوتة يقف عندها أو يبتعد عنها تيار أو مفكر ، وعلى هذا الأساس لا يصح إطلاق التقويمات الكلية قبالة مجموعة أو أفراد ونقلهم إلى خانة العمالة و الخيانة للاختلاف معهم في التفكيك و التحليل فذلك هو النقد الدوغمائي و الحكم المسبق دون محاكمة أو معالجة قد يصح وصف الإسراف و الإفراط في موقف معين أو رأي محدد توجه له سهام الاتهام الفكري أو السياسي ولكن بعيدا عن منصة الفضيلة و الأخلاق أي لا يتحول الاتهام الفكري أو السياسي لاتهام أخلاقي ومن باب أولى أن لا يتحول الاختلاف في التقويم التحليل إلى اتهام حقوقي ينتج عن زج المعترض أو المختلف خلف القضبان وفقا للائحة اتهام مسبق باتت صيغة معروفة و ثابتة ترفع الراية الحمراء في وجهة المعارض تحمله وزره و وزر أقوام سبقوا و أقوام لحقوا .
1 -- طه حسين مستقبل الثقافة في مصر، القاهرة مطبعة المعارف 1944 ص 34، 44. الإختلاف الفلسفي عبد الله ابراهيم

الاثنين، مايو 12، 2008

الخيار الوطني لإعلان دمشق

إحسان طالب

16/4/2008


النقد و المراجعة وسيلتان أساسيتان في تطوير العمل السياسي والنهوض به نحو أداء جماعي ديمقراطي يعي تجارب الماضي ويستفيد من أحداث الحاضر وما يفرزه من ردود أفعال تتفاوت قيمتها وتتباين قدرتها على الإفادة و التأثير .
أثير في الآونة الأخيرة قراءات نقدية تتعرض لأداء المجلس الوطني لإعلان دمشق و ما صدر عنه من وثائق سياسية و مبدئية و إجرائية توخ بعضها دعم مسيرة العمل وإسناده بقراءات موضوعية تشكل إضافة هامة لفعل تراكمي يخدم الهدف الإستراتيجي للتغير الوطني الديمقراطي السلمي المتدرج .
في حين شكلت بعض التوجهات هروبا نحو الأمام و أثقلت كاهل الإعلان بمهام بعيدة المنال شديدة التشعب ربطت الأهداف القومية الكبيرة، والشعارات الأممية القديمة بالهدف الإستراتيجي الوطني المرحلي، وهي بذلك تكرر أخطاء الماضي التي ساهمت وما تزال في وضع العقبات والعراقيل ـ عن حسن نية ـ في طريق المعارضة الوطنية السورية .
لقد أجمعت القوى المتآلفة في إعلان دمشق على نقاط مركزية تمثلت في:
1 ـ التغير الوطني الواثق بمقدرات الشعب السوري المعتمد على ذاته و إمكاناته ودون اللجوء للقوى الخارجية و أجندتها المتقاربة حينا و المتباعدة أحيانا .المتفهم لطبيعة التغيرات الدولية والمشاريع الخارجية
2 ـ الديمقراطية و التنمية كثقافة و فكر و منهج متوائم مع الحالة السورية ،مستفيد من التجارب العربية و الإقليمية .
3 ـ مكونات الشعب السوري المتعددة و المتنوعة بانتماءاتها العرقية و الدينية تمثل حالة فريدة جديرة بالحفاظ عليها ،يلزم التأكيد على حقوق تلك المكونات و خصوصيتها
4 ـ الوقوف إلى جانب معاناة الشعب السوري والطبقات الاقتصادية و الاجتماعية الأدنى التي تتحمل العبء الأكبر و الأهم جرا الغلاء و التضخم و السياسات المرتجلة
5ـ الهوية العربية للغالبية المطلقة من السورين مسألة مبدئية لا تنفصل عن الهوية الوطنية وسوريا جزء لا يتجزأ من الأمة العربية كما جاء في البيان الختامي للمجلس الوطني .
لقد شكل المجلس الوطني سابقة في عمل المعارضة السورية .ذلك أنه للمرة الأولى منذ تأسيس التجمع الوطني تقوم المعارضة السورية بالمبادرة بالفعل ولا تنتظر أفعال من النظام لتبني عليها تحركها ، و إنها المرة الأولى التي يتحقق فيها المطلب المهم في إعادة السياسة إلى المجتمع و إعادة المجتمع إلى السياسة.و إشراك المستقلين نواة المجتمع المدني و الأكثر التصاقا بالناس و المجتمع .فدعونا نحمي منجزا قد نختلف في حجمه لكننا متفقون على ريادته و أهميته .
بل لقد انعقد المجلس في ظل أجواء إقليمية و دولية توحي بتسويات و تقاربات أبعد ما تكون عن إرادات التغير و الإصلاح , وشكلت العوامل الخارجية ثقلا إضافيا ساهم بشكل مباشر في رفع وتيرة التصدي و مواجه الإرادة الوطنية المدافعة عن حقوق الناس في حياة كريمة بعيدة عن الفقر و الحاجة و الازدراء الإنساني ، بعيدة عن القمع و التسلط و كم الأفواه و كسر الأقلام .
أسس إعلان دمشق بتحركه السياسي بعيدا عن السطحية و القشرية عملا نموذجيا في تاريخ المعارضة السورية حيث جعل الداخل منطلقا و مركزا للقرار و الموقف في ظل دينامكية مرنة تترك لكل أطياف المعارضة ممارسة الحراك السياسي بالطريقة و الأسلوب اللذين تراهما مناسبين لظرفها الزماني و المكاني ،بما لا يتعارض مع وثائق الإعلان المقرة من قبل المجلس . و إذا كان البعض يرى اختلافا في التفسيرات و التأويلات لنصوص الوثائق فإن ذلك أمر طبيعي و عادي بل ومرغوب في ظل إاتلاف يجمع ألوان الطيف السوري الفريد و الجميل .
معارضة الخارج و حرب النظارات :
تلقى إعلان دمشق دعما لا يستهان به من قبل القوى الوطنية السورية المنفية قسرا أو اختيارا ،و أدى ذلك الدعم إلى ظهور لجان مساندة و مؤيدة اتخذت من وثائق المجلس عنوانا و منطلقا لحراكها و عملها السياسي ، كما ساهم في نقل الصورة الأقرب للواقع السوري إلى الهيئات و المنابر الدولية وذلك أمر ايجابي يضيف لبنة جديدة لكيان البناء المعارض ، و إذا كان البعض ممن ركبوا تيار الإعلان الصاعد تجاوزا السقف الوطني و انفردوا بتوجهات لا تنسجم مع وثائق المجلس فإن التبعية هنا منفصلة و تقع على عاتق الفاعل دون سواه ولا يأخذ الآخرون بخطيئة ارتكبت بمعزل عن القرار الداخلي و انفردت في التصور و التوجه حتى لو رفعت أسماء وشعارات تلتصق بالإعلان رغبة منها في الصعود السريع و جني الثمار قبل نضوجها بل ربما قبل إزهارها.
إن التسرع و قلة الصبر و التأثر بالأجواء الإعلامية المجانبة للواقع صفة تكاد تكون ملازمة للمعارضة الوطنية في الخارج , وكثيرا ما ينطلق البعض الآخر لتحديد سقف زمني خيالي للتغير يعكس رغبة و أمنيات ذاتية في الوصول إلى السلطة دون المرور بالولادة الطبيعية لجنين التغير الضعيف
وهنا يقع الكثيرون في فخ الخلط بين الحقائق و المعلومات من جهة و بين التمني والرغبات من جهة أخرى فتحل الثانية محل الأولى وتتحول وهما وخيالا مرضيا ينقل صاحبه لتحليلات و تنظيرات لا تذهب ابعد من أنف صاحبها ترى الأفق البعيد سرابا عامرا بوقائع و أحداث لا تغادر المخيلة و لا تصل لنتيجة سوى التخبط و التعثر وإلقاء التبعية يمينا وشمالا كما ينثر الدجاج التراب ليبحث عن الحب فيؤدي نفسه ومن حوله ويعيق الآخرين ويسيء لصورة الجميع .
وفي مقابل المتفائلين بالسراب يقف أصحاب نظرية المستحيل ،يضعون العراقيل والعصي في عجلة العمل الدائر ويتناولون نشاط الآخرين بفوقية وتعال المنظر العالم ببواطن الأمور الذي لا تفوته شاردة ولا واردة ,أحاط بكل شيء علما، فتراه يستخف التضحيات و يقلل من قيمة الأثمان الباهظة التي تدفع عمرا و حياة و مالا في سبيل تحقق هم وطني شعبي إنساني لا يستحق سوى التقدير و الامتنان .يقبع بعيدا عن ساحة الصراع يتقدم خطوة ويتراجع خطوات كنافخ الكير لا تنال منه سوى الشرر و الرائحة الكريهة.
ومن أغرب ما نشر زعما لتحليل مواقف المعارضة طلب تحويل القرار للخارج بذريعة العجز أو الضعف أو البطء .فهكذا وبكل بساطة بعد استعراض عشوائي لما صارت إليه الأمور و بعد إحكام القبضة على قياديين في الإعلان لا يرى سوى نقل التحكم إلى الخارج بزعم القدرة و الحرية ! إنه يتصور المعركة خلف الشاشة ينظر و ينظر و يتحكم عن بعد لا يتحمل عبئا أو ثمنا ولا حتى خطرا ولا يعنيه أن يرى الرجال و النساء في ساحة المواجهة يلاقون مصيرهم الصعب ويدفعون أثمان باهظة لسلعة توزع على الملايين وربما لا ينالون من منافعها سوى متعة وصول الناس لبعض مطالبهم .
الصدق و الوجدان و التعاطف كل ذلك كان أمره محمودا لكن الوقوف بواقعية وقراءة المعطيات و الحقائق بترو وصبر لا يقل أهمية عن الموقف الأخلاقي الشريف . لقد كان و ما يزال النقد ضرورة و حاجة حيوية لآي حراك أو نشاط سياسي أو ثقافي والالتفات و التنبه للقراءات النقدية الصادقة وحتى المغرضة سبب لتلافي الأخطاء وتجاوز العثرات والانتقال نحو الأصوب والأفضل. وإذا كان التكلس والتخشب صفة غير بعيدة عن فكر سائد أو ثقافة رائجة في صفوف معارضة سورية، فإن التعميم و التثبيط و التجهيل و التخوين أمراض مستعصية مزمنة اختلطت ببيئة النقد و تجاوزت المفاهيم إلى المواقف و التوجهات .

إحسان طالب : كاتب سوري

الأربعاء، أبريل 09، 2008

نقد نظرية الحكم الإسلامي


إحسان طالب

تمارس المدرسة التقليدية في الفكر الديني النقد على مستويين :داخلي يقوم على أركان ثلاثة، أولها الإثبات
وثانيها التفسير و ثالثها التبرير، و خارجي يقوم على مبدأ الهداية والضلال، فالآخر إما ضال ممانع للهداية محارب يواجه بالقوة و إما ضال مستعد لقبول الهداية و الانخراط فيها و بالتالي يكون جزءا منها أو منطويا تحت ضوابط ناظماتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.والخروج عن أدوات تلك المدرسة ووسائلها ومناهجها
والبحث خارج مكوناتها ونقدها ،هو سعي جاد لمطروحات حداثية تقدم رؤية ومفاهيم تؤهل المجتمعات العربية والإسلامية للخروج من حالة الاستعصاء و التقهقر التي تلازمها في الحاضر وفي الماضي القريب . وليس محل خلاف الظن بأهمية القراءات النقدية للموروث السلفي المنقول و الفيض المتجدد و المتنامي لمؤثراته الراهنة
والمستقبلية، إلا أن الخلاف يبدأ ثم يشتد عندما يغوص النقد في مسلمات و ثوابت يعد تخطيها أو حتى الاقتراب منها لعبا بالنار وخوضا ً في المحرمات . وربما يكون التخوف عائدا في قسط منه إلى الالتباس في مفهوم النقد
والتوجس من تفكيكه للمكون العام للبنيان الديني الذي يشكل الرابط الاجتماعي الأهم ونقطة الجذب المركزية لمختلف العناصر المشكلة للمجتمعات ذات الغالبية المتدينة .و قد يكون خوفا من التغريب وضياع الهوية إلى جانب العامل الغيبي المتمثل في رهاب الخروج عن إرادات المطلق و النتائج الوخيمة لذلك الخروج .
" إن الرهان على مستقبل جديد للأمة العربية و الإسلامية مرتبط بمدى إنجازها لنقد الأسس التي قام عليها العقل الإسلامي مما يطرح تساؤلا جدليا هو مدى ارتباط حداثة المجتمعات بنقد الأسس العقلية التي قامت عليها هذه المجتمعات "(2)
و النقد بداية لا يعني الإعابة أو الانتقاص بقدر ما هو فتح أو تجلي و ربما كشف على الطريقة الصوفية و هو في بعض جوانبه يصح وصفه بالنقد التأملي لهذا سنلجأ إلى الأدوات المعرفية الحديثة مع إدراكنا للأنماط السائدة
والموروثة طالما أننا نجري نقدا بحثيا ً يمارس خطابا ً حول الخطاب يتناول المعنى بعيدا ً عن الشعور بالخوف أمام حضور جلالة النص. (1)
قد تكون خياراتنا النقدية فكرية أو ثقافية في المقام الأول لكنها في الحقيقة تخفي بعداً سياسيا واجتماعيا تغيريا ً نهدف إليه، خصوصا في مواجهة الهجوم الشامل و العنيف للأصولية السياسية و الاجتماعية الجادة في أسلمة البيئة و الفضاء و الهواء، المسيطرة على الأجواء العربية و الإقليمية الشعبية و الرسمية إلى حد بعيد، تجرها نحو صدام و تناقض مع العالم و الواقع . في هذا الخضم الهائل من الضغط في مواجهة العقلنة و التجديد و الإصلاح كان لزاما العمل بمنهج تفكيكي قبالة البناء الأيديولوجي العظيم المتجذر عبر إرث تاريخي تراكمي حظي بأفضلية الممارسة و التطبيق استعصى على التغير و عاند الإصلاح و التجديد ولن يتحقق تقدم أو تطور نسبي ما لم يتم نقده بالمفهوم اللغوي للكلمة.
شرح نظرية الحكم في الإسلام:
النظرية التي نحن بصدد بحثها و دراستها هي الوعاء الذي خرجت منه الأشكال المتعددة لأنظمة الحكم الإسلامي عبر التاريخ وهي التي ستستخدم لإنشاء أشكال جديدة في المستقبل وفقا للتغيرات الجيوسياسية. ومطلبنا الوقوف عند النبع الذي ألهم وأوحى ذلك الكم الكبير من التنوع وتأطيرالفضاء الحاوي لأركان وقواعد تلك النظرية
ومراحل تطورها و مدارسها و أشكالها العملية.
نظرية الحكم في الإسلام جزء من نظرية شرعية كاملة تتسق بمجموعة من الضوابط والقواعد تشترك فيها كافة أشكال النظم السياسية والاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية، أي أنها أيديولوجية كاملة مغلقة ذات مصدر إلهي الواجب الرئيس فيها الملقى على عاتق العالم و الفقيه والباحث هو معرفة مراد المشرع في المقام الأول، وفي حال الوصول إلى ذلك المراد ليس هناك خيار بين الرفض أو القبول بل لابد من الانصياع التام و الطاعة المباشرة.
((ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ))الأحزاب 36
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره الجامع لأحكام القرآن عند شرحه لهذه الآيـة:
"روى قتادة وابن عباس ومجاهد في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش، وكانت بنت عمته, فظنت أن الخطبة لنفسه, فلما تبين أنه يريدها لزيد مولاه كرهت وأبت وامتنعت وامتنع معها أخوها عبد الله بن جحش لنسبها من قريش، وأن زيدا كان بالأمس عبداً, إلى أن نزلت هذه الآية فقال له أخوها مرنا بما شئت, فزوجهـا من زيد".
المسألة الأصولية المعروفة وهي: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إذ سبب نزول الآية كـان امتناع زينب من الزواج بزيد، ولكن حكمها عام في كل مؤمن ومؤمنة كما دلت عليه الصيغة الكلامية. والشاهد أيها القارئ من هذه المقدمة أن تعلم أن هذه الآية الكريمة { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } هي معيار الإيمان ودليل وجوده أو عدمه؛ فمن جاءه أمر الله أو أمر رسوله الجـازم ورده بوصفه أنه حر ومختار في تصرفاته الشخصية إن شاء قبل الأمر أو رفضه، وإن شاء نفذ حكم الله تعالى وحكم رسوله أو نبذه وأهمله، فهذا العبد ما هو بمؤمن ولا يعد فرداً من أفراد المؤمنين إذ الآية تنفي وجود إيمان صحيح مع اختيار حر بالرفض والقبول, لأحكام الله ورسوله - ص-3 انسجاما مع المفهوم المركزي للإسلام بأنه استسلام وانقياد لمراد المشرع الأول جل شأنه كانت القاعدة المبدئية في تلك النظرية نفي حرية الاختيار و تجاوز أصل الرفض أو القبول المرتبط بحرية الإنسان.هذا الخضوع يقابله الانصياع للأنظمة و القوانين الوضعية و الفارق هنا قابلية التشريع الوضعي للتغير التعديل وحق الفرد في إعلان معارضته وعدم رضاه وسعيه للتغير ،في مقابل التصديق المطلق والحب الخالص للشريعة الدينية .
((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما))النساء65.
تحمل هذه الآية بعداً إضافيا داخل مفهوم الانقياد والتسليم الفعلي و الوجداني يمتد ليشمل قضاء و حكم الرسول خارج القرآن، أي ما صدر عن النبي من أقضية و أحكام دنيوية ولا تنازع بين القرآن و السنة فالآية نزلت لإعطاء الشرعية الإلهية لأحكام وأوامرالرسول وخاصة تلك التي لم ترد في القرآن هكذا هو الأمر في حياة النبي وبعد وفاته يفترق التأويل والتفسير فعند أهل السنة يستمر الحكم الملصق بالنبي إلى ما ورد عنه ومن ثمة بالوكالة للحاكم الملتزم بتطبيق الكتاب والسنة, عند الشيعة تنحصر مسألة الانقياد والتسليم بالأئمة المنصوص على إمامتهم
وبالوكالة للولي لحين عودة الإمام الغائب وفي كتب التفاسير أحاديث نبوية بأسانيد تذكر أسماء الأئمة و تحصر و لي الأمر فيهم
عن الإمام الصادق عليه السلام:لو أن قوما عبدوا الله و أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه رسول الله ألا صنع خلاف ما صنع ؟أو وجدوا في ذلك حرجا في أنفسهم لكانوا مشركين ـ4ـ
جاء في فتح القدير في تفسير الآية أعلاه: و التقدير فوربك لا يؤمنون حتى يحكموك أي يجعلونك حكما بينهم في جميع أمورهم ولا يحكمون أحدا سواك، أي ينقادوا لأمرك و قضائك انقيادا لا يخالفونه في شيء، والحرج الضيق وقيل الشك ــ5ــ
لا تكتفي النظرية الكلية للفقه السياسي الإسلامي بإلزام المسلمين و المؤمنين برؤيتها وتصورها لطبيعة الحكم و آثاره بل تذهب أبعد من ذلك بكثير لتشمل أهل الأرض كافة.
فالرسالة عالمية شمولية لا تقبل الرفض أو الشك ممن حولها، والاعتقاد بمطلق الحق والصواب فيها جوهري و خطير ملزم و حجة لكل من سمع بها، وفي ظل الثورة الكونية الإتصالاتية بات من المفروغ من وصول و معرفة أمر هذا الدين لكل البشر على سطح المعمورة، و كل من لا يؤمن به من أصحاب النار، فهي رسالة تحمل البشر و الخير لأهلها والنذير و الثبور لم خرج عنها أو منها.
((و ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا و نذيرا و لكن أكثر الناس لا يعلمون ))سبأ28"أي ما أرسلناك إلى الناس إلا جامعا لهم بالإنذار والإبلاغ أو مانعا لهم من الكفر والمعاصي "ــ 6ــ
(( إن الدين عند الله الإسلام و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ))آل عمران 19ــ
قال العلامة حسين الطبطبائي في تفسير تلك الآية:أن المراد بكون الدين عند الله وحضوره لديه سبحانه هو الحضور التشريعي بمعنى كونه شرعا واحداً لا يختلف إلا بالدرجات، و بحسب استعدادات الأمم المختلفة دون كونه واحدا بحسب التكوين بمعنى كونه واحدا مودعاً في الفطرة الإنسانية على وتيرة واحدة ـ اـ هـ ــ 7ــ
((و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل من و هو في الآخرة من الخاسرين ))آل عمران 85 ــ
وفي الحديث الصحيح : و الذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار .
ــ قال النووي في شرح الحديث: هذه الأمة أي من هو موجود في زمني و بعدي إلى يوم القيامة فكلهم يجب عليهم الدخول طاعته و إنما ذكر اليهود و النصارى تنبيها على من سواهم، و ذلك لأن اليهود و النصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى. إ ـ هـ ـ 8 ـ
تشترك الأشكال و أنظمة الحكم الإسلامية الأصولية المختلفة بالمبادئ المستنبطة من الآيات والحديث أعلاه و غيرها كثير تعطي ذات الدلالة و ترسخ ذات المفاهيم التي يصعب جدا تجاوزها و القفز فوقها لثباتها و قوة الحجة و الدليل فيها ، فشمولية الرسالة و فطرية الدين بمفهومه الشرعي تلقي بظلالها الثقيلة على الباحث عن الحرية السياسية والاعتقادية تحت سقف نظرية كلية للحكم في الإسلام.
ويعزى جزء مهم من ذلك الإرث المتراكم من التنوع في مظاهر التفسير و التطبيق إلى طبيعة النص القرآني المولد لقائمة لا متناهية من الأحكام ولفتوته وحيويته عبر العصور، كما ينصرف قسم أخر إلى محاولة الباحثين المسلمين تركيب ما وصلوا إليه من أراء و مواقف و مفاهيم على الأسس و القواعد المستوحاة و المستنبطة من الموروث المنقول لإكساب مقولاتهم السند الشرعي و لإثبات قدرة الوحي في التحكم في متغيرات الزمان و المكان, ودائما كان هناك فرقَ و حتى تعارض بين المثالية والمبادئ النظرية التي تطرح في كتب الفقه السياسي و بين التطبيق العملي المختلف كثيرا عن الأهداف و الغايات والمقاصد. هذا الإشكال ليس خاصا بالمنطلقات الإسلامية بل هو في واقع الحال عام تاريخيا في كل الأيديولوجيات التي عرفتها البشرية. إلا أن الإشكال الخاص بالفقه السياسي الإسلامي له شقان أساسيان:الأول: التباين الصريح في مدلولات الآيات القرآنية و الأحاديث الثابتة المروية عن النبي، فلغة النص و مدلولاته المتعددة تنعكس إرباكا واضحا في استنباط أحكام متناقضة تماما من نص واحد، واختلاف مدارس التفسير والتأويل مازالت قضية مستعصية على الحل، ناهيك عن قضية الاختلاف في إثبات النص ومذاهب التفسير و علومه. فمسألة قتل المرتد أي المغير لدينه أو المنكر لكل أو بعض ما علم من الدين بالضرورة مازالت غير محسومة إلى الآن بعد أربعة عشر قرنا من البعثة، ومثلها كذلك القبول بالتعدد المرجعي للتشريع و القوانين ـ.
من خلال العصور التاريخية المختلفة التي تلت عصر التأسيس أي عصر النبوة لم تعجز أي من المذاهب و الفرق و أنظمة الحكم حتى الحديثة منها عن إسناد أرائها و مواقفها المتناقضة بدليل شرعي من الكتاب و السنة و تراث الأئمة والفقهاء وكل منها يدعي الحق المطلق وامتلاك الإسلام الصحيح. و تستمر الاجتهادات و النظريات الحديثة في السياق ذاته تسخر الدليل لخدمة أطروحاتها و مواقفها و تدعم الواقع الراهن بالسند الشرعي.
الثاني: مفهوم قداسة و قطعي النص و نهائيته تنعكس على الموقف و الحكم المأخوذ عنهويترتب على ذلك وجوب إخضاع أو إقصاء أو إنهاء المخالفين والمعارضين. فالموقف السياسي أو النظرية السياسية المدعومة بالسند الإلهي تنتقل إليها ميكانيكيا القداسة والنزاهة والعصمة ويصبح معارضوها محل شك و ريبة وخارجين عن الدين و معادين للأمة و الوطن. فالحزب الإلهي لا يقبل النقد ولا المراجعة ولا يصح البحث في سياساته إلا من باب المدح والتعظيم والإجلال ويحظر الحديث عن قادته دون ألقاب التبجيل والتفخيم. عندما تكتسي السياسة وأنظمتها ونظرياتها بحلة الدين تغدو مفاهيم التعدد والاختلاف والمعارضة أمرا مكروها بل ومحرما.
تلك العلاقة الجدلية بين الدين و السياسة كانت في النهاية لمصلحة السياسة على حساب الدين والمتتبع لتاريخ الدول و الأنظمة الإسلامية بعد مرحلة التأسيس و البناء يلحظ بوضوح خضوع الدين للسياسة و ليس العكس . كلما جد منطق أو نظام جديد وفقا للظروف و الحاجات و مصالح الحكام استطاع فقهاء السلطان إسناد الفعل بالدليل الشرعي.

استعراض لسمات النظرية:

من الصعب تحديد سمات رئيسة واضحة ومحددة لنظرية الحكم في الإسلام متفق عليها تحظى برضي وتأييد التيارات الفقهية و السياسية المذهبية السائدة في عالمنا المعاصر، و ذلك لأسباب تتعلق بالمرجعية وآليات إثبات الموروث النصي وفهمه من حيث المبدأ، ولأسباب مرتبطة بالموقف من أصحاب الممارسة العملية للأسس والمبادئ المكتوبة. فتاريخيا تعامل المسلمون، علماء وقادة سياسيين مع الدليل الشرعي بصورة معكوسة للمنهج التجريبي قبالة الدليل الشرعي، فالأصل هو البحث في النص ومن ثمة استنباط الحكم، ما حدث عبر التداول الزمني لقيادة دفة الحكم و الفقه العكس تماما،وذلك في الجانب السياسي تحديدا حيث برع علماء السلطان في توصيف الحالة الواقعية بمدلولات مسبقة للدليل.
لكن بالتأكيد هناك سمات و أركان جامعة تلتقي حولها المتفارقات من حيث المنطق و اللغة والقيم المبدئية ويمكننا تكثيف عرضها على الشكل التالي: هي نظرية إلهية ربانية شاملة ملزمة قوامها الخضوع و الانقياد لمشيئة الوحي ومراده بما في ذلك من صلاح ونجاة للبشر وعمران للأرض ((فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى * و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى))طه 122ــ123ــ
و لمفهوم الغلبة و القهر و ذوي الشوكة ثقله البارز في صياغة النظرية و سيبرز ذلك واضحا في التفاصيل.و العقد الاجتماعي فيها محصور في مفاهيم الخلافة و الإمارة، فالبيعة تفويض مطلق لا يراجع بعده المفوض إلا من باب النصح و هي، أي البيعة واجب من الرعية تجاه الراعي أي الحاكم، وهي مناطة في المقام الأول بأهل الحل والعقد و ذلك جلي واضح في المذهب السني . أما عند الشيعة التي كانت تشكل على الدوام معارضة ممنوعة ومحاربة اختزلت المسالة بالأئمة المعصومين وتحول الإمام بصلاحياته وعصمته إلى مطلق الحق و الصواب وزاد المسألة تعقيدا تبني الأكثرية الشيعية لولاية الفقيه التي تكسب رجلا واحدا صلاحيات نهائية، تتحكم بمصير أمة ، ولم يتحدث القرآن الكريم في أساسيات الحكم و تنظيمه و لم ترد فيه أشارات أو بيانات واضحة لقضية الخلافة أو طريقة انتقال الأمر بعد النبي و اكتفى بالأمر بالحكم بما أنزل الله و الطاعة له و لرسوله و لولي الأمر وذكر الشورى و حض على العدل. وان كان علماء الشيعة يذهبون بعيدا في تفسير آيات طاعة ولي الأمر في دراساتهم الماورائية إلا أن المسألة تبقى مناطة بما يسند من أحاديث للنبي و للإمام علي ومن بعده من الأئمة وفي الجانب الآخر لم يعز على أصحاب مذهب السنة إسناد أدلة شرعية كثيرة بدءا من صحيح الحديث إلى أقوال و اجتهادات الصحابة و من بعدهم تصبغ ممارساتهم و طريقة حكمهم بالشريعة الربانية .
والدليل الشرعي خارج القرآن الكريم في غاية الأهمية كونه وضع الأطر التنفيذية لما نزل به الوحي ومن هنا كانت الأحاديث النبوية الأساس والمنطلق لمبادئ و قواعد مركزية تناقلها العلماء و الفقهاء و الباحثون من زمن بدء التدوين إلى راهن البحث السياسي المعاصر.و بالرغم مما قد يثيره المحققون من إشكاليات حول البنية الكلية للحديث فإنه كان و مازال المرجع الثاني الأهم في تتبع نشأة الفكر السياسي الإسلامي و نموه و تطوره.
عن النبي قال : كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي ويكون خلفاء فيكثرون ، قالوا فما تأمرنا ؟ قال: فوا بيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم "
رواه مسم برقم 3429باب وجوب الوفاء بيعة الخلفاء أول بأول .
و عنه أيضا :من كره من أميره شيئا فليصبر عليه ، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية" رواه الإمام أحمد في مسنده و البخاري مثله برقم 6530 هذه الأحاديث وأمثالها كانت ومازالت تتداول و يستند إليها في استنباط الأحكام و تنظيم السياسة .
اعتنى فقهاء السياسة المسلمون بالمفهوم الديني للأخلاق في علاقات الراعي بالرعية و اهتموا بنصيحة الملوك وتوجيه سلوكهم إلا أنهم لم يتطرقوا لقضايا المشاركة بالحكم و المساواة كقيمة إنسانية لا تقيس الفرد بميزان الدين و تركزت أبحاثهم حول الخلافة والإمامة وجواز استيلاء الأقوى على السلطة وحق الأمة على السلطان العدل وحراسة الدين وحق الإمام على الجماعة الطاعة ، وعدت الإمامة عقدا لازما غير محدود بزمن لا يحل إلا بشروط عظمى تساوي الكفر الصريح أو الجنون ، ووقفوا عند العهد و الاستخلاف كأدوات لانتقال السلطة و كان الموت أو القتل طريقا واقعيا لتداول الملك .أما الحديث عن العقد الاجتماعي فيظل محصورا بالبيعة المناطة بمشورة أهل الحل و العقد و التي باتت منذ بيعة السيف ليزيد بن معاوية مشروعة بالقوة و الغلبة .
يقول الماوردي في الأحكام السلطانية: إذا استقرت الخلافة لمن تقلدها بعهد أو اختيار ــ بعد معرفته باسمه وصفاته ــ ... فعلى كافة الأمة تفويض العامة إليه ليقوم بما و كل إليه من وجوه المصالح و تدبير الأعمال ـ أ ـ هـ
يقول ابن تيمية في منهاج السنة : " فبين رسول الله أن الإمام الذي يطاع هو من كان له سلطان سواء كان عادلا أو ظالما .أ ـ هـ
وكان يعتقد بالغلبة والقهر صفتين من صفات الخلافة الراشدة إذ يقول: إن الإمام هو من يقتدى به و صاحب سيف يطاع طوعا و كرها و هذان الوصفان كانا كاملين في الخلفاء الراشدين.اــ هـ
وللإمام أحمد بن حنبل قول مشهور أورده أبو يعلى في الأحكام السلطانية :إن من غلبهم و صار خليفة و سمي أمير المؤمنين ،لا يحل لأحد يؤمن بالله و اليوم الأخر أن يبيت ولا يراه إماما برا كان أو فاجرا ـ أ هـ
فالحاكم الذي يعتلي العرش بالقوة و قتل منافسيه و ذبح معارضيه تجب له الطاعة بالحق ولا يجوز الخروج عليه ولو شبرا و يعد تاركه خارجا عن الدين .فالحاكم له الطاعة المطلقة ما لم يخالف الشرع و له مطلق الحرية في اتخاذ القرارات بدون مراجعة و تسن له الاستشارة.
و الفرد في تلك المنظومة السياسية مثقل بقيود البيعة و الطاعة و الولاء إلى جانب واجباته الدينية اليومية و ليس من الضروري معرفته حتى باسم السلطان إذ تكفي معرفة السلطان لأهل الحل و العقد و تبقى ضرورة تحقيق العدل لإقامة الحكم فالعدل أساس الحكم، و اشتهر عن ابن تيمية قوله " و أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي يكون فيه الاشتراك في بعض الإثم أكثر مما تستقيم مع الظالم في الحقوق و إن لم تشترك في إثم لذلك قيل إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة"ـ 9ـ ما ذكره ابن تيمية هنا هو نصيحة للملوك و السلاطين كي يتحلوا بالعدل لإدامة ملكهم إلا أن تلك القاعدة لا أثر ولا مفاعيل قانونية لها تترتب على الحاكم في حالة اقترافه للظلم ولا تملك الخاصة و العامة حيال بطش و ظلم السلطان سوى النصيحة و الدعاء . فمفهوم العدل و قيمة العدالة تتراجع درجات أمام أولوية حراسة الدين وسياسة الدنيا أي استمرار السلطان بالقوة له الأولوية على تطبق العدل حال تعذر الجمع بينهما.
ويرى ابن تيمية أن السياسية الشرعية تقوم على القوة و الأمانة ((إن خير من استأجرت القوي الأمين ))القصص26 .
و القوة ترجع إلى العلم بالعدل و إلى القدرة على تنفيذ الأحكام. أما الأمانة فترجع إلى خشية الله و الاعتصام إليه و التزام الحق و حسن الأداء و التضحية في سبيل الخير العام .و هذا نلاحظ عدم وجود محددات سياسية أو ناظمات مؤطرة لبرامج و آليات تصلح أدوات سياسية تبنى عليها أطروحات عامة مرنة و حوض يقبل و يلائم ما يوضع فيه.
"الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد له حكم الإمام في جميع الأشياء و لولا هذا ما استقامت الدنيا "محمد بن عبد الوهاب 10ــ
و بالمحصلة فان الخليفة أو السلطان حاكم مطلق بصرف النظر عن الوسيلة التي وصل بها إلى الحكم ومن استولى على العرش أطلقت يده في التصرف كونه منفذا للشرع و مفوضا من قلة مختارة أو معصوما بالولاية و السند الشرعي .
يقول شيخ الإسلام ابن جماعة: فإذا خلا الوقت من إمام عادل مستحق للإمامة فتصدى لها من هو ليس من أهلها و قهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته و لزمت طاعته لينتظم شمل المسلمين و تجمع كلمتهم، ولا يقدح في ذلك كونه جاهلا أو فاسقا في الأصح . و إذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد ثم قام آخر فقهر الأول بشوكته وجنوده، انعزل الأول و صار الثاني إماما لما قدمناه من مصلحة المسلمين و جمع كلمتهم ـ أ هـ 11 ـ و سميت تلك البيعة بالبيعة القهرية و لا يملك المتتبع لمثل تلك الفتاوى والأحكام إلا أن يتعجب من ارتباط البيعة والخلافة بالقوة وإذا كانت الحالة السياسية التي وضع فيها ابن جماعة كتابة شهدت اضطرابات عنيفة في العهد المملوكي و إبان غزو التتار فيمكن لنا اعتبار تلك الأحكام ظرفية تاريخيا إلا أن المدهش و المثير أيضا أنها مازالت مراجع أساسية و معتمدة و تجدها لدى دعاة الخلافة و الجهاد و حتى عند الوسطيين من الباحثين المعاصرين، و ما زالت تذكر في مواضيع و دراسات الإسلاميين الحديثة كمراجع أصيلة أولية.و يستند إليها لتأصيل الإسلام السياسي و تأكيد مبدأ الإسلام دين و دولة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:فالدين الحق لابد فيه من الكتاب الهادي و السيف الناصر، فالكتاب يبين ما أمر الله به و ما نهى عنه و السيف ينصر ذلك و يؤيده . أ ــ هـ 12
إن متلازمة القوة و الفكرة شديد الأصالة في النظرية السياسية الإسلامية فهي ليسن فقط مطلوبة لنشر الدين وهداية الناس بل هي أيضا وسيلة مقبولة و شرعية ـ و إن كانت غير مفضلة لدى البعض ـ للوصول إلى الحكم واستلام السلطة، و هذا يفسر الجنوح الشديد لدعاة الإسلام السياسي الأصولي لتبرير اللجوء للقوة كوسيلة مشروعة لتولي الحكم و إقامة دولة الخلافة و الحكم بما أنزل الله.و لعلنا تستطيع الاستدلال على حيوية تلك النقول ومرجعيتها فضلا عن وجودها و حضورها الدائم و المستمر في الدراسات والمباحث السياسية السنية ، بما أكده الدكتور رضوان السيد من استفادة الشيعة من تلك المصادر، يقول السيد : إن مدوني الدستور الإيراني يستمدون مواد كاملة من الأحكام السلطانية للماوردي في المهام الدينية و الدنيوية لمرشد الثورة و الفقيه .المرجع ـ 13 ـ
يقول الإمام الخميني: إن الحكومة الإسلامية تمتاز عن غيرها بكونها حكومة القانون الإلهي، و هذا ما يوفر للمجتمع معطيات تعجز الحكومات الوضعية عن تحصيلها. فان اتصافها بالقانون يحول دون تحولها نحو الاستبداد إذ لا يكون الفرد الحاكم شبحا يحكي القانون المهيمن على حية الأمة. واتصاف قانونها بالإلهية يمنحها قدرة تنفيذية عالية إذ يحل الخالق العظيم محل السلطة التشريعية و تكون الدولة سلطة تنفيذية له ـ14ـ
والأمر يأخذ منحى مختلفا في التوصيف الشيعي للإمامة فهي ليست من المصالح العامة التي يترك للأمة النظر فيها بل هي ركن من أركان الدين و قاعدة من قواعد الإسلام على أعلى و أرقى مستوى من الأهمية الافتراضية أو النظرية لزم وجوبا أن ينص النبي على خليفته ووجب أيضا تعيين الإمام بالنص.ولكي يكون مؤهلا وجبت له العصمة من الصغائر و الكبائر فلا يقترض في الإمام السهو أو الغفلة و يفترض له الإحاطة بكل ما فيه مصلحة المسلمين .تلك المنزلة مخصوصة بأصحاب الولاية التكوينية كما يقول الخميني وهم الأئمة الإثنا عشر و ينتظر ظهور آخرهم الغائب ،و لحين ظهوره يقوم مقامه الولي الفقيه الذي يحظى بالمحصلة بذات المكانة الاعتبارية . ونعود لنقع بذات مأزق سيادة الفرد على الأمة في النظرية السياسية الدينية السنية.

و يمكننا رصد مراحل تشكل النظرية السياسية الإسلامية في أربع مراحل :
الأولى هي المرحلة التأسيسية وهي فترة الوحي و البناء النص للقرآن الكريم وما تلاه من تدوين للسنة العملية والقولية للنبي ، وتعد هذه المرحلة الأهم باعتبارها القاعدة والأساس الذي ستمارس على وفقه النظرية و تتطور وتنضج. الثانية هي مرحلة قيام المدارس الفقهية وتأصيل العلوم الدينية التقليدية التي أسسها أبو حنيفة صاحب مدرسة الرأي و تلميذاه أبو يوسف و أبو عبيد مؤلفا أهم كتابين تراثيين يمكن عدها الأساس في تقنين النص الديني و هما كتابا الخراج و الأموال. الثالثة هي مرحلة الشروح على المتون و اقتفاء أثر المجتهدين الأوائل و أصحاب المذاهب الفقهية الخمسة الكبرى ، الحنفية و المالكية و الشافعية و الحنبلية و الجعفرية. الرابعة هي المرحلة الحديثة و المعاصرة بدأ بـمجلة الأحكام العدلية العثمانية وصولا إلى كتاب علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم و الذي ألفه بدعم من حزب الدستوريين الأحرار لرفض دعوة بعض شيوخ الأزهر تنصيب الملك فؤاد خليفة وإعادة الخلافة بعدما ألغاها مصطفى أتاتورك في العام السابق وهي زمن الانفتاح على العلوم السياسية الغربية ومحاولة التماهي مع النظريات و النظم الوضعية و السعي للحاق بركب الحضارة الغربية و مسايرة تطورات العصر . و لم يستطع رواد تلك الفترة ترسيخ قاعدة صلبة من الحداثة واضطر علي عبد الرازق تحت ضغط علماء الأزهرإلى التراجع و التوبة عن كتابه و تتابع التراجع لنصل إلى راهن اضطراب الفكر السياسي الديني عبر منظري الإسلام السياسي الأصولي المتشددة ما رافقه من عنف و صدام بين القوى السياسية قد يتحول إلى صدام بين الشعوب والحضارات ما لم نعمل على لجم التوق و الشغف بالتعصب و التزمت و التشدد.

الإشكال الأساسي في النظرية بنيوي في العمق:

إذا كنا نعتقد بأن التدوين الفقهي يشكله الجزئي و المبسط قد بدأ في النصف الثاني من القرن الأول الهجري ــ ما كتبه عبد الله بن إباض. ولم يصل إلينا ـ إلا أن مسألة الخلافة و سياسة الملك لم تبحث بشكل جدي و متكامل إلا في القرن الخامس الهجري على يد أبي الحسن علي بن محمد الماوردي (364ــ0 45 ) ــ هـ الذي ألف أربعة كتب مختصة في الفقه السياسي هي :الأحكام السلطانية ,قوانين الوزارة و سياسة الملك ,نصيحة الملوك , تسهيل النظر و تعجيل الظفر في أخلاق الملك و سياسة الملك. وحققها و قدم لها و بحث فيه الدكتور رضوان السيد المختص في الدراسات السياسية التراثية. وجاء بعده بدر الدين ابن جماعة ولد في حماة سنة639 ـ وتوفي 733 هجرية و كتب تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام. وسبقه زمنيا شهاب الدين أحمد بن الربيع المتوفى 227هجرية كتب في عهد الخليفة المعتصم كتاب سلوك المالك و تدبير الممالك إلا أنه لا يشكل نظرية سياسية كما يقول محققه حامد ربيع: بأنه وثيقة ليست فلسفة سياسية و ليست علما، لكنها تحليل للإدراك السياسي الجماعي الذي قاد الحضارة الإسلامية خلال النصف الثاني من القرن الثالث الهجري.و يرى بعض الباحثين أن مؤلف سلوك الممالك يقوم على الفكر السياسي اليوناني و بخاصة فكر أرسطو و أفلاطون وهو يؤكد شكل الحكومة الملكي الذي يقوم على حكم الفرد مقرونا بالتفويض الرباني للحكام بقول ابن الربيع: إن الله خص الملوك بكرامته و مكن لهم في بلاده وخولهم عبادة.
و جاء قبله جنس مرايا الأمراء و نصائح الملوك وفيه كتابات ابن المقفع المتوفى 139هجرية و اختص بالنصائح و إقرار قواعد أخلاقية موجهة للحكام .ولا يصح تصنيف تلك المؤلفات في مجلد البحث السياسي الديني بقدر ما تنطبق عليها أبحاث فلسفية و أدبية سياسية تداخلت مع الموروث الفارسي التاج في أخلاق الملوك المنسوب للجاحظ المتوفى 252 هـ كتاب في الأدبيات و الأخلاقيات لا يصنف في المبحث السياسي المختص.
لا يستطع باحث في فقه السياسة التراثي نفي التأثيرات المهمة للحضارات التي سادت أرض الإمبراطورية الإسلامية خاصة الحضارة الساسانية كما يؤكد رضوان السيد كما لا ينكر الإفادة من المترجمات اليونانية في صياغة الفلسفة الإسلامية. و هذا لا يبرئ الفقه السياسي من الإشكالات التي و قع فيها، و من و جهة نظرنا فان الأفكار المنقولة و جدت لها صدى و قواعد جاذبة في عمق النص ما مكن الفقهاء من خلق سبيكة صلبة لها كل المواصفات و الميزات الإسلامية. وتأسيسا على ما سبق نرى أهمية العمل في حفريات التراث على مناقشة الأصل و الأس الذي نهلت منه العلوم السياسية الإسلامية.
إن عشرات الكتب التراثية المختصة في الفقه السياسي عبر أكثر من ألف سنة ليست دليلا مؤهلا لتأكيد أحقية الدين في قيادة السياسة، كما و أنها ليست كافية لمقارعة العلوم السياسية المختصة بالنظريات و الأنظمة السياسية الوضعية.
يجب أن يدرك الدعاة الجدد للإسلام السياسي أن تراث الفقه السياسي خلا تماما من مفاهيم المشاركة في القرار والحكم ولم يلتفت إطلاقا إلى مسألة تداول السلطة. وابتعد كل البعد عن الحرية والمساواة كقيم إنسانية مقاييسها مهملة للانتماء الديني والعرقي ولم يتبن المواطنة كمفهوم ومبدأ، ولا تكفي الإشارة القرآنية والدلالات العملية المحدودة في السيرة النبوية للشورى كأساس ومنطلق للمشاركة السياسية خاصة وأن الفقه السياسي أجمع على عدم إلزامية الشورى.

في النظام السياسي الإسلامي:

إشكالية انتفاء المعارضة وعزل الخليفة :
عندما تبايع الأكثرية الخليفة أو الأمير أو القائد تكره أي تجبر الأقلية على المبايعة و مفهوم الأكثرية المقصود هنا هو قرار النخبة الغالبة أي الأقوى أو المسيطرة وهذا عائد لطبيعة التفكير السياسي الديني المرتبط بوحدانية الحق و مطلق الحقيقية ،فبعد مبايعة أبي بكر على الخلافة أجبر ـ أكره علي على البيعة وبعد مبايعة علي أميرا للمؤمنين أجبر الزبير و طلحة على البيعة ،كماأجبر معاوية بن سفيان علماء المدينة و بقية أصحاب الرسول على مبايعة ابنه يزيد و اشتهرت تلك الحادثة ببيعة السيف ، و كانت حجة يزيد في محاربة الإمام الحسين وقتله شديدة اللصوق بضوابط البيعة . و أصبح الأمر فيما بعد صوريا, حيث تنتقل الخلافة ـ أي رئاسة الدولة أوتوماتيكيا لولي العهد دون شورى أو انتخاب من باب أولى و بطبيعة الحال كان الرعايا مبعدين تماما عن مسألة من يتولى قيادتهم و حكمهم ولم يكن للعامة أي دور يذكر في هذا الشأن و استمر الحال على ما هو عليه إلى عام ـ 1876تاريخ أول برلمان في الدولة الإسلامية وقد استمر سنة واحدة ثم حله السلطان عبد الحميد الثاني بعد الخسائر الكبيرة التي مني بها الجيش العثماني على يد الروس واعتبر عبد الحميد البرلمان مسئولا عن الهزيمة . هذا بالاستعراض التاريخي .
في الراهن فإن الحكم الإسلامي في إيران رغم وجود مظاهر ديمقراطية من انتخابات حرة وشفافة نسبيا وتنافس و تعددية إلا أن انتفاء و جود المعارضة خلل جوهري في النظام السياسي الإيراني خاصة والإسلامي عموما.ولا ينكر وجود المعارضة على الدوام في التاريخ الإسلامي لكنها معارضة مضطهدة و محاربة كما هو الحال في الأنظمة الفردية الاستبدادية المعاصرة.
ولما كان نظام الحكم في الإسلام غير محدد وغير واضح لم تتعرف في العهود الأولى طرق لتنصيب الخليفة و لم يتطرق البحث إلى وسائل عزله. و لقد تجلى ذلك النقص في الحيرة و العجز حيال الموقف من الخليفة الثالث عثمان بن عفان و تمت محاصرة بيته لثلاثة شهور ثم فك الحصار بعد تسليمه كتاب عزل والي مصر ولما أكتشف ما في الكتاب من أمر للوالي بقتل حاملي الرسالة عادت الفتنة من جديد و تمت محاصرة عثمان واقتحم قصره و قتل وهو يتلو القرآن .آخذين هنا بعين الاعتبار الروايات السنية عن الموضوع والدالة إلى وجود مؤامرة يهودية هدفها إثارة الفتنة بين المسلمين ، إلا أن الوقائع وما آلت إليه الأمور هي بؤرة البحث و مصب استخلاص النتيجة .
الإباضية و الخوارج:
ينتسب الإباضيون إلى جابر بن زيد الأزدي التابعي العماني و لد عام 22هجرية كما ينسبون إلى عبد الله بن يحيى بن إباض المري الذي عاصر معاوية وخرج على حكام بني أمية عام 128هـ و قتل عام 130 على يد جيش مروان بن محمد و يعتبرهم الشيعة من الخوارج لخروجهم على الإمام علي،وأنكروا التحكيم ورفعوا شعار :قبلت الدنية و لا حاكم إلا الله ولعل هذا هو أهم رابط بينهم و بين الخوارج ويعدهم السنة من الشيعة لسبهم عثمان. والمذهب الإباضي بالنظر إلى تأسيسه و نشأته أقدم المذاهب الفقهية الإسلامية وهو نتاج مدرستي العراق و البصرة خصوصا واستخدم الرأي و القياس بالرغم من أن جابر محدث . أهمية الوقوف عند هذا المذهب هو أن أصحابه دعوا إلى إمامة المسلمين عن طريق حرية الاختيار و الكفاءة الشرعية لهذا المنصب ولم يشترطوا الإمامة في قريش و لا يجوز عندهم الخروج على الإمام العادل أما الظالم فالخروج عليه ليس ممنوعا كما عند الأشاعرة.و ما زال أتباعهم حاضرين كثرا وهم قريبون من أهل السنة .
ومن غرائب النظام السياسي الإسلامي أن الخوارج و هم فئة ضالة بنظر أهل السنة و الشيعة، اعتقدوا بأن الخليفة لا يكون إلا بانتخاب حر وصحيح يقوم به عامة المسلمين، لا فرق بينهم و يستمر خليفة مادام قائما بالعدل مقيما للشرع مبتعدا عن الخطأ فان حاد وجب عزله و قتله. و الإمامة في نظرهم جائزة وليست واجبة تقتضيها المصلحة العامة فإذا أمكن أن يعيشوا فيما بينهم بالعدل و الإنصاف لا ضرورة للحاكم فإذا فسد الحال
وجبت الإمامة .إلا أنهم أسسوا لمذاهب العنف و القتل و تسرعوا في أحكامها الجائرة و قتلوا المخالف و لم يرحموا طفلا أو شيخا أو حاملا و كانوا شديدي التعصب و الالتزام. و تقتفي أثرهم بعض الفئات الإرهابية الضالة في عصرنا الراهن.
والواقع أن رؤية الخوارج لنظرية الحكم رؤية بدائية غوغائية تعود بمآلها إلى التصورات العشائرية و مجتمعات الإنسان ما قبل الدولة. يتجلى ذلك من خلال قولهم بعدم وجوب الإمامة و أمرهم بقتل الخليفة أو الإمام عندما يحيد أو يخطئ

نتيجة البحث :
لقد أثرى العلماء و الفلاسفة المسلمون الحضارة الإنسانية بمؤلفات قيمة و ساهموا في إغناء التراث الحضاري الإنساني ومازالت علوم أبن خلدون الاجتماعية صالحة ليومنا هذا و مازالت آداب الحكم حرية ً بالقراءة والفهم. ولا ينسى العالم حكاماً مسلمين قل و ندر أن تعرف البشرية أمثالهم كيوسف بن أيوب الفارس النبيل صلاح الدين الأيوبي.
ألا أن الأزمة تستمر وتعود من جديد كلما تجدد البحث السلفي في النصوص و زاد الإصرار على أولوية ووحدانية المرجعية الدينية و تجاوز العلوم و المعارف التي اشتغل عليها وأنتجها العلماء و الفلاسفة، و حصر البحث في قائمة من الكتب التراثية المذهبية و تصنيف الناس على أساسها و يمارس العنف بفتاواها ويعمل من أجل إعادة عجلة التاريخ إلى الخلف. إن ارتباط السياسي بالديني كان على الدوام لمصلحة السياسي و كل الجرائم الإنسانية التي ارتكبت بقرار سياسي تمت تحت مظلة قرار ديني أو أيديولوجي.
وحتى عصرنا الراهن لم يتمكن العلماء و المختصون في علوم الشريعة و مذاهبها من إبرام نظرية حكم متكاملة تمتلك الآليات و الوسائل الإجرائية العملية المنظومة في أطر و قواعد مضبوطة و محددة.وكل ما دار الحديث حوله ومازال منصب في إقامة مراد الوحي الذي يعتقد بتفاهة الحياة الدنيا مقابل عظمة وسرمدية الحياة الثانية بعد الموت.وما زال البحث قائما في اجترار صور و أشكال مبعثرة لأساليب الحكم التي عرفها تاريخ الدولة الإسلامية التي غابت عنها على الدوام إرادة العامة و مراقبتها.وما نظرية ولاية الفقيه التي ينص عليها الدستور الإيراني إلا وجه جديد لقالب قديم منح الحاكم أو الملك صلاحيات مطلقة بتفويض رباني.
يقول سيد القمني مختصرا المسيرة التاريخية لنظرية الحكم في بلادنا التي سيطر عليها نظام الحكم الفردي المستند إلى مرجعية دينية وما أل إليه الراهن كمسيرة طبيعية لتولي الهيمنة المرجعية: (في معظم عالمنا الإسلامي ديكتاتوريتان تتصارعان على استمرار الديكتاتورية و ليس إقامة الديمقراطية:
1. ديكتاتورية عسكر و أسر حاكمة و يمثلون الخليفة الإسلامي التاريخي، و يحاكون نظامه.
2. ديكتاتورية دينية سواء حليفة للسلطة أو معارضة لها ، و يمثلها الإمام أو الشيخ.
و كلاهما الحاكم أو الخليفة، و الشيخ أو الإمام، في حالة صراعية حول من يأخذ أكثر من نصيب الآخر من الفريسة، لكنهما لا يختلفان مصيرياً و لا منهجياً ، إنه صراع الإمام و الخليفة منذ فصل معاوية بين سلطة الحكم و إمامة الصلاة و عين للصلاة الجامعة شيخاً إماماً ) "الحوار المتمدن 2208"
لقد كانت الديمقراطية وما تزال غائبة و مغيبة ولم تعرف أنظمة الحكم الإسلامية تاريخيا مفهوم سيادة الشعب ولا مشاركته، وفي عصرنا الراهن تزداد قيم الحرية و المشاركة السياسية غربة وحصارا حيث استطاعت الأنظمة السائدة التغلغل في الوجدان الشعبي المكون من دغمائية دينية بحتة وأوجدت حالة من العداء مع الفكرة والمفهوم الديمقراطي باعتبارها مستوردة وغريبة لم تعرف المنقولات التراثية دليلا عليها ولم تثبت ممارستها.وفي الجانب الآخر ما زالت الأحزاب الدينية تعد الديمقراطية عربة تستقلها للوصول ثم تتركها عند أخر محطة تريد الوصول إليها وهي كرسي الحكم ،وبعد تلك المحطة تحيل المركبة للتقاعد وتحيي أساليب وطرائق الحكم الموروثة ضاربة عرض الحائض بالمبادئ و القيم التي أوصلتها وكانت تنادي بها وتناضل من أجلها .ولعل الفتوى التي أصدرتها جماعة أنصار السنة في الشهر الثاني من العام 2008 في مصر ـ وهي جماعة سلفية تعتقد بوجوب الرجوع إلى الكتاب و السنة في كامل توجهاتها الدنيوية و الدينية ـ بجواز توريث الحم على أساس أنه ينطبق مع التوجهات الشرعية، دليل رمزي على ما أسسنا له و استنتجناه .
إن البحث السياسي الديني يدور حول السياسة و أخلاقياتها وغاياتها يدعم السلاطين في الأغلب ولا يدخل في عمق البحث السياسي و علومه إلا من خلال الدراسات الوضعية الشرقية و الغربية.

نماذج حديثة للنظرية السياسية الإسلامية:
من وجهة نظر سنية:
أولا :أنها نظام رباني في أسسها و قواعدها ،ليست من وضع البشر بل هي من و ضع خالقهم
((أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يقنون )) المائدة 50
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ))الملك 13
ثانيا : أنها نظام أخلاقي يقوم على الفضيلة و احترام حقوق الإنسان .
ثالثا :أنها نظام عقائدي يقوم على أساس عقيدة التوحيد.
رابعا: أنها نظام شامل كامل .
خامساً: أنها نظام العدالة والمساواة.
سادسا : أنها نظام عالمي صالح لكل زمان و مكان
وأما أهداف هذه السياسة الشرعية الإسلامية فهي أهداف سامية،أهمها:
أولا: إقامة الدين لله وتحقيق العبودية الخالصة لرب العالمين.
ثانياً: إقامة العدل ودفع الظلم عن الناس.
ثالثاً: إصلاح الدنيا وعمارة الأرض.
والمتأمل لمقاصد قواعد النظام السياسي الإسلامي يجده يهدف إلى ثلاثة مقاصد مهمة (درء المفاسد وجلب المصالح والحث على مكارم الأخلاق).
وإما قواعد هذا النظام السياسي فهي الشورى والطاعة والعدل والحرية.
ولهذا يجب أن تكون سياستنا سياسة شرعية قائمة على أصول الكتاب والسنة وان نضع القوانين الملائمة لزماننا ومقتضيات واقعنا الحالي شريطة أن لا نبيح لأنفسنا سنّ قوانين تتعارض مع الشريعة أو مقاصدها، وذلك لتحقيق الغاية والهدف الأسمى وهو إقامة المجتمع المسلم على منهاج النبوة ــ15ــ الخلافة الراشدة) ـ
يتطرق النموذج لعموميات تصلح عناوين كبيرة لبحث ديني لا ينحصر ولا يتخصص في العلوم و المبادئ السياسية ولا يصلح بحال من الأحوال كنظرية سياسية للحكم.ذلك أن القواعد
والأهداف والمهام المطروحة تسبغ الطابع الديني العام المعاد و المكرر عند الإنشاء أو التأسيس لأي من المناهج و العلوم و المعارف الإنسانية من منطلقات إسلامية . فهو يصلح منطلقا لعلم الاجتماع و أساسا لعلم النفس وضابطا لعلوم الاقتصاد ، ومؤسسا لمناهج الثقافة.هكذا هو الحال في غالبية الدراسات الإسلامية الحديثة المتنطعة لشرح و بيان النظرية السياسية للحكم من منظور ديني إسلامي، تضع عناوين وشعارات تصلح لتكون وعاءا ولباسا يوضع فيه ما يتواءم معه و ما يتفق مع التوجهات المرحلية و الإستراتيجية المؤقتة للمستقبل المنظور .

و بالنظر إلى نماذج لمدارس فقهية شيعية :
بكونها نموذج متطور ومحاولة جادة وقيمة ينطوي على إضافة وتجديد هامين إلا أنه يبقى أسير الدليل الشرعي المختلف علية و المتناقض أحيانا عند المرجعيات الشرعية المذهبية
وهو في الواقع يظهر بجلاء ووضوح العملية التركيبة المتبعة من قبل الباحثين الإسلاميين عندما يدخلون أعمق من العناوين و الشعارات و يكونون أكثر تحديدا في مجال البحث و التخصص يلجئون للدراسات و الأبحاث و النظريات الوضعية شرقية كانت أم غربية و يحاولون صبغها أو تلوينها باللون الديني ويمارسون الشرح و التوصيف باعتبارها مباحث و معارف إسلامية ، و إذا كانت تلك الطريقة و ذلك الأسلوب خطوة متقدمة و توجها سليما َ باتجاه البحث العلمي فإن المأخذ الأساس عليها هو محاولة أسلمة النظريات و العلوم بحيث تنطبق عليها محاذير الوقوف عند المرجعيات الدينية فقد يغدو المخالف لما تم تبنيه خارجا عن الدين مفارقا للجماعة ، كما يحظر نقدها أو تخطيئها .
هكذا تستمر إشكالية البحث الديني السياسي و يتفاقم تناقضه مع المفهوم المركزي للسياسة باعتبارها علما و فنا مرنا متغيرا يراعي الحاجات و المصالح البشرية غير ملتزم بثوابت مطلقة غيبية لا تعدل ولا تتغير ومن باب أولى ألا تناقش.

موجز حول مسألة التعددية:
في مجمل بحثنا لنقد نظرية الحكم الإسلامية قدمنا نماذج مطولة من الدراسات و الأبحاث التي تدور في فلك الموضوع و تغوص داخل تفاصيل بنيانه و تراكيبه , وذلك توخيا للموضوعية في الدراسة و البحث ،و نستطيع الوقوف حيال تلك المطروحات بعين التقدير و الاهتمام لما تقدمة من طرح جديد و محاولة لتأسيس نظرية متكاملة تكون ذات مرجعية مقبولة و معتمدة من الأكثرية الملحقة بضرورة سيادية الإسلام السياسي . ولقد سعت الأبحاث المنقولة لإسناد أطروحاتها بالدليل الشرعي من المصادر الأولية الكتاب و السنة و أدلة المذاهب الفقهية و أراء
ومواقف أقطاب الفكر الديني الحديث و المعاصر وذلك بهدف حشد التأيد اللازم و الكافي لتبنيها والتعامل بها .
وبالنظر بعمق نجد بعض المسائل الإشكالية الحائلة دون انتقال تلك النظريات إلى عالم التطبيق و الواقع .فهي بداية مازالت تبحث في أساسيات لعلها باتت مسلمة في علوم السياسة و مناهجها فمثلا لم يتمكن فريق من أقطاب الإسلام السياسي من حسم مسألة التعددية في الحكم دون الخروج من دائرة الدليل أو قيد النص حيث مازال تفسير النصوص محل جدل و اختلاف لم يستقر بعد على رأي أو توافق .مازالت تلك المحاولات الجادة تبحث في قضايا و أمور تجاوزها نظام الدولة المعاصرة و تخطى البحث فيها ، فأشكال المبايعة و الأمارة لم تعد ذات بال في المنظومة السياسية الحديثة للمجتمعات و إذا كانت ما تزال مطروحة و معتمدة في بعض الدول العربية فلا يعني ذلك سوى تخلف تلك الدول و أنظمتها عن ركب العلاقات السوية بين الحاكم المجتمع المدني .
تظهر الأبحاث السياسية الدينية عموما بجلاء محاولة فرش النص و إطالته أفقيا ليكون مناسبا لتغطية وجهة نظر ما في سعي متكلف يظهر العجز عن مغادرة الأنموذج التراثي في الحكم ( استدل القائلون بجواز التعددية: بالقرآن، والسنة، وقواعد الشريعة ومقاصدها، وكذلك بالمعقول:
أولاً: القرآن الكريم:
1. قال الله تعالى: " وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "سورة آل عمرن الآية رقم 104.
وجه الدلالة: يأمر الله تعالى جماعة من المسلمين أن تكون متصدية لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر الرباني يفيد الوجوب في قوله: " وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ " وأمة يقصد بها جماعة، وفي هذا دلالة على مشروعية العمل الجماعي، والناس بطبيعتهم يختلفون في الأفكار والسياسات لتحقيق أهدافهم، فتتشكل الأحزاب السياسية كوسيلة شرعية للقيام بهذه الفريضة.)
كم يبدو التكلف واضحا في إسناد حكم التعددية لآية الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فالآية شديدة العمومية و لم يتطرق أي من التفاسير التقليدية المعروفة ـ عند السنة ـ للوصول إلى تلك الدلالة البعيدة المنال من النص القرآني الكريم .
وللأسف فان حجج المعارضين للتعددية السياسية أقوى و أوضح وأشد، وتمتلك و البراهين المختلفة و المتعددة بدأ من التفاسير المنقولة و الموروثة للنصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وصولا إلى التطبيق العملي تاريخيا في مختلف حقب و عصور الحكم الإسلامي .ويستدل أصحاب الرأي المناهض للتعددية بحزمة واسعة من العناصر تبدأ بقوله تعالى :" إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ "سورة الأنعام الآية رقم 159.
كذلك قوله تعالى : "ولا تكونوا من المشركين* من الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون " سورة الروم الآيتان 31 ـ32
و التوجه العام في الفكر السياسي الديني منصب نحو التوحيد و الوحدة و ينفر من التعدد و الاختلاف وهذا منطق شديد البساطة و الوضوح فالأصل واحد و المرجع معروف ومحدود والاجتهاد يبقى محصورا بالمفهوم الأصولي في حدود الفهم الصحيح القائم على الدليل و مخالفته لا تكون من باب الرأي الأخر بل من نافذة الخروج عن الجماعة.
موجز حول طاعة ولي الأمر :
ولي الأمر مصطلح شديد الأهمية في فقه السياسة الشرعية تقوم على بنيته القواعد و الأسس الناظمة لأنظمة وطرائق وأساليب الحكم الشرعية ن فالخليفة أو الإمام أو الولي وصولا إلى الملك و السلطان قائمون على تنفيذ أوامر و توصيات و توجهات المقام الأعلى وهو الوحي الإلهي وما نزل موازي له ( ألا إني أوتيت القرآن و مثله معه) وعلى مبدأ ضبط العلاقة بين الراعي و الرعية و مهام وواجبات كل منهما دارت الأحكام السلطانية وتطور مفهوم ولي الأمر في المذاهب السنية ليسترسل وصولا إلى أمير الجماعة وقائد الجند وحتى المسئول الموكل من قبل سلطة أعلى لإدارة شأن ما عام أو خاص .في حين تطور ذلك المفهوم في المدارس الشيعية باتجاه معاكس ليضيق ويحصر بالإمامة ووكلائها لحين ظهور المهدي المنتظر ، ويرى بعض علماء التفسير أن ولي الأمر يكون في المرتبة الأولى صاحب العلم و الفقه الشرعي وهذا منطق وسط بين المذاهب فهو يميل نحو الفهم الضيق للمدارس الشيعية و ينفتح نحو الحاكم بوصفة خليفة أو وكيلا لتنفيذ إرادة الوحي عند السنة .
"" ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولى الأمر منكم "" سورة النساء الآية 59
تدل الآية بوضوح على تراتبية في الطاعة فطاعة الله في المقام الأول و منها طاعة الرسول (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )( قل أطيعوا الله و الرسول ) سورة آل عمران الآيتان 31 ـ 32
أما و لي الأمر بمختلف دلالاته فلا طاعة له إلا في حدود طاعة الله فإذا خالف أمر ه فلا طاعة له، ولكن عندما يكتسي ولي الله كسوة العصمة تتبخر تلك القاعدة و ينوب الولي نيابة عامة لا تنتقص
هكذا يتداخل دائما السياسي بالديني و يختلط الأمر الدنيوي بالسماوي وتجد النظريات السياسية الدينية نفسها مضطرة للف والدوران حول نفسها و حول النص في مسعى للخروج من أسره مرة و الاستناد إليه أخرى. لقد وجدنا ضرورة لعرض نماذج مختارة من الأطروحات الحديثة المتناولة للنظرية و النظام السياسي الإسلامي لنكون أكثر موضوعية وأشد قربا وعمقا من مادة بحثا وذلك في محاولة جادة للبعد عن النتائج المسبقة والأحكام النمطية ،وحرصنا على الوصول إلى نتيجة مدعومة بالمعلومة والبحث الأكاديمي .
مجمل القول فإنني أعتقد بأن الحقيقة مسيرة دائمة لا تتوقف، يصعب بل يعجز احتكارها ، وهي في ذات الوقت مجزئة تقبل القسمة و الزيادة والطرح والجمع، متغيرة بقدر ما هي ثابتة ويبقى الإنسان وحريته وكرامته وحقوقه هي القيم الأسمى التي تدور في فلكها.

هوامش :

1 ــ يعرف هشام جعيط القداسة بأنها الشعور بالخوف أمام حضور الجلالة وليست مسألة أخلاقية . كتاب : الوحي القرآن النبوة ـ صفحة 111
2ــ محمد أركون الإسلام و أوربا : ترجمة هاشم صالح 1995
3ـ الشيخ أبو بكر جابر الجزائري العالم المفسر الداعية المصلح رئيس قسم التفسير و أستاذ الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة
4ــ هذه الرواية موجودة في العديد من تفاسير القرآن الكريم الشيعية كتفسير نور الثقلين للحويزي ومجمع البيان للطبرسي و الميزان للطبطبائي
5ــ تفسير فتح القدير لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني ج2ص483
ــ6المصدر السابق المجلد الرابع ص328
ـ 7الميزان في تفسير القرآن للعلامة محمد حسن الطبطبائي النسخة الألكترونية
ـ 8ــ رواه مسلم برقم 153ـوصحح مثله الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 157
ــ 9 ــرسالة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ص4
10ـ ـالدر السنية في الأجوبة النجدية 7/ 239ـ
11ـ تحرير الأحكام صفحة 55
12ــ منهاج السنة 1/142
13ــ جريدة الشرق الأوسط21/8/2003
14ــ كتاب الحكومة الإسلامية للإمام الخميني صفحة 43
51ـ فقه السياسة الشرعية في ضوء الكتاب والسنة : الشيخ ضياء الدين عبد الحميد محمد
اخترنا تلك الصيغة المعبرة عن السياسة الشرعية لكونها مختصرة و تحتوي على كل العناصر المطلوبة بدون إطالة

الجمعة، مارس 21، 2008

تعدد الزوجات ضرورة أم تنفيذ لرغبات ذكوري

إحسان طالب
2008 / 3 / 22



في إحصائية رسمية للسكان في سوريا ، أفادت بزيادة طفيفة لعدد الذكور عن الإناث وفي مصر يزيد عدد الشباب العزاب على عدد العازبات من الفتيات
هذه الأرقام تدحض فرضية تعدد الزوجات لزيادة عدد النساء ، فكثيرا ما سمعنا من دعاة التعدد لضرورة تغطية عدد النساء الفائض بسبب أن الرجل أكثر عرضة للأخطار و بالتالي أقرب للوفاة من النساء ، لكن الأرقام تثبت عكس ذلك
بعض الحجج الأخرى تنطلق من فكرة عدم اكتفاء الرجل جنسيا بامرأة واحدة بمعنى أن الرجل صاحب شهوة جنسية أكبر من النساء ، لكن على الطرف الأخر تتعدد الروايات المنقولة و الموروثة عن شبق النساء و ضرورة التخفيف من طغيان الجنس عليهن بالختان و إزالة شعر العانة وتحريم الثياب الداخلية الحريرية على الفتيات لمنع الاحتكاك الناعم بالأعضاء الجنسية مما يثير الشهوة لديهن ( فتوى قبيسية ) ما إلى ذلك من تعاليم .
من الحجج الأخرى العقم و غالبا ما تكون المرأة مسؤولية عن عدم الإنجاب من وجهة نظر الداعين للتعدد لكن العلم يؤكد مسؤولية مشتركة بين الرجل و المرأة عن عدم الإنجاب و أحيانا يكون أحدهما مسئول دون الأخر .أي قد يكون الرجل وحده هو المسئول وقد تكون المرأة ولقد قدم العلم الحلول بعيدا عن التعدد وهي حلول عملية و آمنة يتعاطاها المتدينون و غيرهم على السواء
التطبيق العملي و الواقعي لفكرة التعدد يفصح عن ظلم بالغ للمرأة فهي لا تستطيع منع الرجل أو الوقوف في طريقه ، وغالبا ما يلجأ الرجل إلى الزوجة الثانية بعد إهمال الأولى أو مرضها أو كبر سنها فيحيلها إلى التعاقد قبل الأوان .ويحكم عليها بالموت البطيء. وكل ما يقال عن العدل بين الزوجات محض افتراء ( ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم )
فكرة مجنونة طرحها البعض : لماذا لا يسمح للمرأة بتعدد الأزواج إذا تطابقت المبررات المعطاة للرجل للتعدد .
مثلا إذا كان زوجها عقيما أو عاجزا أو ضعيفا جنسيا أو أنها لا تكتفي برجل أو أنه مريض أو أنه كبر في السن و هي تملك المال الكافي لتحظى بقبول شاب في عمر أولاده . إنها نفس المبررات التي يقدمها المدافعون عن تعدد الزوجات . إنها فكرة مجنونة فعلا لكنها بالقياس المنطقي مشابهة لنظرية التعدد عند الرجال .
تتعارض فكرة التعدد مع المساواة بين البشر بصرف النظر عن جنسهم و تتناقض مع الموقف الإنساني من المرأة و اعتبارها إنسانة كاملة لها نفس الحقوق و الواجبات لها نفس الإمكانات العقلية و النفسية .
يبقى الداعم الأول و الأساسي لمسألة تعدد الزوجات السند الشرعي و الفقهي التراثي و ما يؤيده من ممارسة عملية ثابتة عن السلف و تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

الهوية فوبيا تشعل حطب الرسوم المسيئة



إحسان طالب
2008 / 3 / 13


في أجواء عالمية مأزومة تقف على طرفيها أمم تتباين طبيعة حياتها و تكويناتها الثقافية و الاجتماعية وتتعارض مصالحها و أهدافها يقف الشرق المحاصر بالضغوط و التهديدات تثقل كاهله الحاجات و الضرورات ،تقلقه هواجس الذوبان و ضياع الهوية في قبالة غرب مستقر عمليا
يسعى بجد لامتلاك ما يستطيع من إمكانات و أدوات وطاقات يعزز تفوقه الراهن ويؤكد سيطرته الحديثة على المقدرات الكونية .
بدأ ذلك الغرب يستشعر بخطر داهم ـ مبالغ فيه ـ على هويته الثقافية و طرائق معاشه وتفكيره ، حيال تنامي المظاهر الإسلامية في شوارعه و أحياءه زاد على ذلك إعلام يرى مادة دسمة تنقلها الأحداث اليومية يخلقها تيار إسلامي معزول متطرف يبرز بين الفينة و الأخرى مطلا برأسه بعمليات تخريبية تتنقل من عاصمة أوربية لأخرى حيثما وجد ثغرة ولج فيها . وفي الجانب الموالي شرق أو جنوب ـ لا فرق ـ يعاني فوبيا الهوية استقر في وجدانه تقديس لماض وتراث وجد عنده ذاته وحقق في سالف سيطرته و تفوقه ، يخالجه خوف ورعب من الذوبان و الضياع أمام ثورات علمية و تكنولوجية و فكرية يسعر أوارها تنافس دائم وتسابق لا يهدأ في عالم بات وشيكا من اجتراع معجزات ظنها دهورا حكرا على المطلق. زاد و فاقم تلك الفوبيا تأزم القضايا المستعصية و الغزو الاستعماري الجديد المباشر الآتي تحت راية التحرير و الديمقراطية من قبل الغرب لبلاده وشعوبه .
فالمسألة إذن أبعد بكثير من اختلاف في مفهوم للحرية لم يتبلور بعد في شرق ومازال يعد الحرية جنين سفاح لا يريد الاعتراف به بل لا يرد له الحياة،كان يراها في حالة الاسترخاء و الأمن قضية رفاهية وترف تتجاوز سوية المطلب الملح وغدت في وضع الاستنفار و التأهب شبهة وسهما مصوبا من قبل عدو متاخم لعتبات الدار يعيش عالم الليبرالية الجديدة و يؤصل مضامين ما بعد الحداثة ، لم يعد ينظر إليه كنموذج ومثال متقدم للتطور و التقدم بل يخشاه ويأمل بصرف خطره حتى ولو كان ذلك على حساب مغادرة الزمن إلى الوراء و إحياء أنموذج السلف ونفض ماران عليه من نقد وكشف .
في خضم ذلك المشهد شديد التشعب مارس الفنان الدانمركي حريته مستغلا ما تطاوله يده من عبث بوجه قوم أضروا بذاتهم أكثر مما أضر بها الخصوم وتعامل بانتقائية حيال مفرداتها و أدواتها مباشرا رؤيته من زاوية حادة لعلها زاوية عمياء حجبت قيمة كلية أضر بتخصيصها و تجزيئها ولم تكن بالنسبة إلية تجاوزا لخطوط حمراء لم يستطع أن يخفي بفنه حقدا و اشمئزازا حيال الآخر المختلف عنه. من زاوية أكثر انفراجا نظر اليسار الفرنسي لقانون شيراك بتحريم الحجاب في الدوائر و الهيئات الرسمية فوجدوه مناقضا لقيمة الحرية ومتعارضا مع قواعد العلمانية .
ردود الأفعال و التوظيف السياسي :
في الرابع عشر من فبراير 1989أصدر أية الله الخميني من خلال راديو طهران فتوى بإهدار دم سلمان رشدي صاحب رواية آيات شيطانية التي تعرض فيها للنبي محمد بن عبد الله و التي صدرت قبل أشهر من الفتوى ،وفي نهاية عام 1990 قدم رشدي إعتذارا رسميا للمسلمين وفي العشرين من سبتمبر أعلنت حكومة إيران عدم التزامها بتنفيذ الفتوى ضد رشدي وعلى إثرها أعادت بريطانيا سفيرها لطهران . ربط بعض خبراء الإسلام السياسي فتوى الخميني بنجاح طالبان بإخراج السوفيت من أفغانستان و عدوه محاولة للتغطية على ذلك النصر وفرض للصوت الإيراني المسلم في الساحة الشعبية .كانت ردود الدول العربية على كتاب رشدي ضعيفة و متفاوتة و كان الكتاب متداولا في بعض العواصم العربية .في منتصف يونيو 2007 منحت ملكة بريطانيا لقب فارس لسلمان رشدي الذي أعرب في تلك المناسبة عن تأييده للصحيفة الدانمركية التي نشرت الرسوم المسيئة محذرا مما و صفه بسلطوية الإسلام ،اجتاحت حينها مظاهرات حاشدة المدن الرئيسة في باكستان و أهدر دمه و خصصت جائزة 15 مليون روبية لمن يأتي برأسه.
بالغت مجموعات عربية في ردود فعلها على الرسوم المسيئة و اقترب عدد الضحايا من العشرة وأحرقت عدة سفارات في عاصمة عربية مازال نظامها في نظر الأوربيين علماني لكن ردود الأفعال جاءت في وقت تعاني فيه سوريا حصارا و محاولات عزل قاسية .
إساءة رشدي مبدئية قامت على تصور ارتباط النبي محمد بالشيطان الذي أملى عليه بعض آيات القران الكريم فيما إساءة الرسوم الدانمركية منهجية
تنزاح في بعض وجوهها نحو قيمة الحرية و مكانتها ، لكن ردود الفعل الأضخم و الأكبر و الأشد كانت قبالة الرسوم الدانمركية لآن الظرف الموضوعي السياسي و الاجتماعي المهيمن على العرب و المسلمين بات أشد ضغطا و حصارا. هكذا تتداخل الصراعات السياسية مع التباينات الأيديولوجية وتسخر القضايا الدينية للوصول إلى مأرب لا تنتمي إليها .
الاستقرار السياسي و الاجتماعي المقرون بالتنمية البشرية و الوصول بالمجتمعات إلى قدر كاف من الديمقراطية و المشاركة السياسية و الاقتصادية
و الانفتاح المتبادل و الحوار الحضاري تحيل تلك الصراعات إلى محورها الأصيل و تخمد إلى حد بعيد ثوران الصراعات الأيديولوجية و العقائدية .ويعد النهوض الثقافي و التنوير الفكري أساسا لتجاوز حالة التصادم ذات المنشأ الحضاري ، إلا أن الأمر ليس بتلك البساطة فالوقوف على عتبة الاستقرار وولوج سلم التغيير دونه خرط القتاد.

الأربعاء، مارس 12، 2008

السلطوي و الديني في جريمة الشرف

إحسان طالب

جريمة "الشرف "أو غسل العار بالدم قضيه هامة يتفاقم انتشارها عاما بعد عام وترتبط بدون مواربة أو انحياز بالخلفية الدينية المتعصبة للفاعل و بيئته الثقافية و الاجتماعية و تقترن بهوان حياة الإنسان أمام قيم دينية وإيديولوجية مطلقة لا تعلو عليها رابطة إنسانية أو اجتماعية ،مما يفسر سرعة الاندفاع نحو القيام بفعل القتل دون تردد و بتخطيط مسبق عادة ما يكون هادئا ومنظم . فالجاني هنا لا يعارض الوصايا الدينية أو التقاليد العشائرية ـ حسب زعمه ـ ولا يخرج على السلطة السياسية و الاجتماعية بل يبادر لعمل سيلحق به مكانة وشرفا وسمعه طيبة طول حياته مع علمه المسبق بأن ثمن الجريمة بخس جدا مقارنة بالمنافع و المزايا النفسية و العشائرية التي سينالها .
عندما يقوم الرجل بالقتل غسلا للعار وسترا لفضيحة العرض لا ينطلق من رغبة بريئة ودافع مثالي وفقا للتفسيرات القانونية المخففة بل والمبررة لجريمة قتل النساء تحت لواء الشرف. بل قد تتغلب الدوافع الذاتية و الأنانية على سواها خلف تلك الجريمة النكراء، فهو يمارس سلطة أفلتت من يده وافتقدها في محيطة يريد رد الاعتبار لمكانته في المحيط الإنساني و الاجتماعي, يريد أن يثبت رجولته و قوامته في بيئة يهيمن عليها قهر سلطوي لا يجد القدرة ولا المبرر الكافيان للخروج عليها ومواجهتها و يميل لابتلاع مفرزاتها في ذات الوقت الذي يجد نفسه مرغما على تمجيدها و طاعتها.
في الجانب الآخر ينشأ الذكر ويترعرع وسط أجواء داخلية ضاغطة ويتربى على قيم و مثل عليا تعد بكارة المرأة أغلى و أثمن وأهم من حياة الإنسان وتجلس الرجل في مكانه وهمية عليا، تملكه سلطة السيطرة على الأنثى و مراقبتها وتصويب مسار حياتها و قيادته وهو في واقع الحال يستشعر هوانا و ذلا يمارس علية كل يوم من سلطة أعلى تبدأ بالأب داخل المحيط العائلي للتوسع نحو رموز السلطة السياسة القابضة بيد من حديد على مقدرات حياته تعد أنفاسه و تحصي لقمة عيشه ،هكذا تتراكم و تتحالف القاهرات في خلق كائن بشري مشوه تتداخل تناقضاته الوجدانية و الذهنية منتجة خليطا عجيبا من الاستكانة و الهوان تجاه الظالم والمستبد مقترنا بعنف وجبروت تجاه الأضعف المتمثل بالأدنى اجتماعيا و بالأنثى المتواجدة في كنف العائلة . والغريب أن ذلك العنف لابد له من الخروج ، فإذا لم يجد منفذا نحو طرف أضعف يمارس تجاه الذات بفعل الانتحار المزين بسرعة الانتقال إلى الفردوس الأعلى .
تلك الحالة من الضعف الشديد قبالة السلطة السياسية و الدينية المتكاملة مع الانكسار الداخلي و الإحباط الخارجي ،تمثل محرضا قويا تجاه فعل عظيم يحقق الذات ويحول النكرة إلى بطل وشهم ورجل شجاع يشار إله بالبنان في دائرة من التخلف الاجتماعي والثقافي المحصن بعوز اقتصادي وفقر مادي. ضمن هذه المنظومة تأتي جريمة الشرف كهدية ينتظرها الرجل ليستقلها و يحلق بها في فضاءات الغرور واثبات الوجود .
هكذا يقوم هرم جرائم الشرف على قاعدة مثلثة متساوية الأضلاع يكون القهر السلطوي السياسي و الاجتماعي و الديني ضلعه الخارجي الأول ويشكل الضغط الوجداني الداخلي ذو المنشأ الديني والقبلي ضلعه الثاني ،فيما تمثل المبررات القانونية والاجتماعية المشجعة للفعل بل وأحيانا الداعمة له الضلع الثالث محكمة الخناق على المرأة وتاركة تجاوز جرائم الشرف أو حتى الحد منها مسألة بعيدة المنال.
وما لم تتوفر أرادة جمعية مدعومة بقواعد قانونية وقرارات سياسية وإصلاح ديني سيستمر تعاظم خطر ظاهرة قتل النساء بذريعة غسل العار وستزداد أعداد الضحايا عاما بعد عام .ففي دولة مثل سورية تصنفها الأمم المتحدة الخامسة عالمياً والرابعة عربياً في انتشار «جرائم الشرف». حيث يقدر خبراء عدد الجرائم المرتكبة بدوافع «الشرف» بنحو 300 جريمة سنويا يتم معظمها في دائرة المجتمعات الريفية والأحياء الفقيرة ضمن المدن . تعتبر وزيرة الشؤون الاجتماعية العمل العنف ضد النساء غير موجود في سوريا و الاحتفال باليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة ترف فكري. يبدو جليا أهمية الوعي بقضايا المرأة على صعيد القيادات السياسية ,كما يبدو أفق معالجة العنف ضد المرأة ضيقا وربما مسدودا .

السبت، فبراير 23، 2008

ودمع لايكفكف يا دمشق


إحسان طالب

2008 / 2 / 18

من دمع عيني
من دمع عينك يا بردى
من دموع كل العاشقين
ابيضت عين قاسيون
محا الدمع لون ترابها
تكللت غيمات الشتاء بالسواد
واحتل الرماد فضاء المزن

*****
ضجيج مفرقعات ترهب قلب العاشق
شهب وشرر ينذر الشمعة بوميض الاحتضار
زعيق وعواء يكسر وجه القمر
ترقص الحيّات السامة على وقع الموسيقى
تُقلق ملائكة الموت
تتهيأ الثكلى للنواح
ثمة أشياء قبيحة
ترتدي أقنعة الاحتفال
الخراب على الأبواب
ومدحت باشا في قبره تنهش رأسه المعاول
سنة تفوت و أحياء كثيرة منكِ ستموت
****
امتزج الألم بالقهر
وأحكمت قبضة اليأس على عنق الأمل
تابوت جميل مزخرف
تكسوه عباءة حريرية حمراء
مشيعون كثر
ابتسامات صفراء تعلو رؤوسهم
مبتهجون أياديهم الطويلة القوية
تقتلع الحجارة تعتصر القلوب
و المدينة النائمة أغرقها دمع العاشقين
ينأى إلى سمعها صوت احتفال و طبل وزمر
تسأل شوقي ونزار و الجواهري
يحتفلون بموتي ؟
بعد ما عز على الغزاة قتلي !
تحت راية الخنق و الكبت و الحقد
الموت و الحياة سيان

الأجوبة الكلانية و الحلول الشمولية معوقات للتفكير الايجابي


إحسان طالب

2008 / 2 / 13

شاعت مقولة سلبية سيطرت بصورة غامضة على أجواء التفكير العربي وألزمته الجمود وحدت من توقه نحو الايجابية و إنتاج الإبداع (( ما ترك الأول للأخر شيئا ))هكذا سد أفق البحث وأغلقت أبواب الاجتهاد وصار منتهى الإبداع هو الإتباع و التقليد .
إن أول محفزات التفكير الايجابي الخلاق هي الرغبة الداخلية في الخلق و الإبداع و الإتيان بجديد ولا تتولد تلك الرغبة إلا من خلال الثقة الذاتية بالنفس و الإقرار بوجود أمر يحتاج لحل أو قضية مازالت عالقة لم يقدم لها الآخرون القدر الكافي واللازم من الطرح والمعالجة. بالمستوى الشخصي و المجتمعي على حد سواء .
عندما نقول بأن الأولين سبقونا في كل شيء وما ترك السلف للخلف شيئا،يرتد ذلك سلبا وقيدا يثقل التفكير ويقعده عن البحث والتطلع المبدع الخلاق ،ولا يفهم من معارضتنا لتلك المقولة الشائعة الضرب عرض الحائط بالمنتج الموروث و الإعراض عنه بل هي دعوة للاستفادة منه و الاتكاء عليه و الانطلاق نحو آفاق التجديد و الابتداع .فالثقة المطلقة بالأسلاف تبعث على زيادة الثقة بالنفس وهي أولى عوامل التفكير الإيجابي إلا أنها تتحول إلى عامل مرضي معيق و مكبل حالما تتجاوز الفخر و الاعتزاز إلى القناعة و التصديق بوصول السلف لكل الحلول و الأطروحات المناسبة للحاضر و الماضي و المستجد مستقبلا .والخوف الأساس هنا هو تحول القناعة بالمطلق بالماضي إلى وهم كبير يغلف التفكير ويحرفه نحو الاستكانة والخنوع بدعوى اللاجدوى المنبثقة من التعظيم والإجلال اللامتناهي بالمبحوث والمدروس في مضارب الأقدمين والسالفين .
الوهم بامتلاك الحقيقة المطلقة و العلم الكامل والمعرفة الكلانية هو العدو الأولي للتفكير الايجابي و الإبداع ، حيث ينزلق حامل ذلك الوهم نحو الإحباط والاكتئاب بسبب التناقض بين القناعة الداخلية بمشروعية وصوابي وكمال ما نقله الأسلاف وبين الحاضر المثقل بأزمات وإشكالات فردية شخصية ومجتمعية ووطنية لا تساعد الأفكار المعلبة على تجاوزها و النهوض من براثنها ، فيغرق الوجدان بالتشاؤم و العجز اللذان هما أهم معوقات التفكير الإيجابي .
وعلى العكس تماما يشكل النزوع الفعال لإشغال الفكر وتحريضه وتحفيزه للتوق نحو التفاؤل والثقة بالقدرة على الإضافة والتجديد حافزا عقلانيا ونفسيا نحو الاستفادة من المهارات و الإمكانات الفردية و المجتمعية المتاحة .
الآلية التي تعمل بها الشمولية :
أسس الغربيون علوما واستحدثوا معارف مبتكرة ومتجددة انطلاقا من أمرين الأول الحاجة والرغبة في الابتكار و التجديد و الثاني الثقة والقناعة بالقدرة على ذلك ،ومن تلك العلوم علم التفاؤل : Learned Optimismويعد الدكتور مارتن سيليجمان : Martin Seligman من جامعة بنسلفانيا الأمريكية رائد من رواد علم النفس الايجابي ،يتحدث في كتابه التفاؤل المكتسب : Learned Optimism: How to Change Your Mind and Your Life (Paperback)
(ثلاثة أنماط من القناعات التي تجعلنا نشعر بالعجز وقد تدمر جانبا من جوانب حياتنا وهو يسمي هذه الأنماط الثلاثة :ـ 1ـ الديمومة
ـ 2 ـ الشمول
ـ 3 ـ السمات الشخصية ) "1 "
كذلك نورمان فينست بيل ألف عدة كتب :التفكير الإيجابي
النتائج المذهلة للتفكير الإيجابي
كن نشطا طول حياتك
توني هامفير :قوة التفكير السلبي
هارلود شيرمان : التفكير الإيجابي الخلاق
إذا قدمنا تلك مراجع الهامة في موضوعنا يأتي الرد الكلاني الشمولي فيقول ليس هناك جديد لقد جاء في الأثر :تفاءلوا بالخير تجدوه
ولقد نهى الرسول صلى الله عليه و سلم عن الطيرة ( التشاؤم )
وكفى الله المؤمنين شر القتال . هكذا بكل بساطة تختزل علوم و معارف بنص مجتزئ و نقل محدود ، طريقة التفكير تلك عائدة للوهم بامتلاك العلوم و الحقائق على وجه كامل لا تفتح أفقا للبحث و المعرفة بل تشكل عاملا قويا للتثبيط و الإحباط للتفكير الايجابي في مستوياته الذاتية و الاجتماعية . أما عندما نأخذ تلك النصوص و النقول كمضيئات بل ومحفزات للبحث و التجديد نضع أنفسنا على الطريق الصحيح
هامش :انتوني روبنز:قوة الإبتكار و الإبداع وقوة التدم

العقل العربي و أغلال الفكر الأصولي



إحسان طالب

2008 / 1 / 30

تسيطر الثقافة الأصولية في فضاء الفكر العربي على مجمل مناحي الإبداع و الخلق الأدبي و المعرفي ،و تحتل كتب المرجعيات الدينية قائمة المنشورات و المطبوعات المتداولة في معارض الكتب المفترض أنها بوابة للتعرف على ما جد من نتاج العقل الإنساني.
يختزن العقل العربي كما هائلا متراكما من المنقولات المرجعية تحاصر نزوعه نحو الخلق و الابتكار ، وتثقل كاهله بضوابط صارمة لا تسمح بمرور منتج يخل بتوازناتها و سيطرتها .فقبل الشروع في عملية الخلق يتبادر إلى الذهن فوبيا الوقوع في المحرم ،خاصة و أن التابوهات تمتزج بكل جزيئات الحركة الذهنية وردود الأفعال الوجدانية.
الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي يميل إلى التواصل و الاختلاط و الانسجام داخل مجموعة يشترك معها بكثير أو قليل من الاهتمامات و الصفات و الأفكار، و يفضل البعض العزلة و الإنفراد وهي حالة استثنائية تعود في أغلب الحالات لظروف اجتماعية أو مرضية و أحيانا إبداعية ، إلا أن الوضع الأخير لا يستمر ويرغب المبدع في إيصال ما أنتجه للعالم و إلا غص داخله و خنقه. ترتبط أحكامنا و مواقفنا إلى حد بعيد بخلفيتنا الفكرية وكثير ما نستعرض الصفحة الأولى أو مقدمة الموضوع ولا ندخله ،نرتكب خطأ جسيما بالحكم على النص من خلال مقدمته ، وليس بالضرورة أن يكون المكتوب ظاهر من عنوانه ،هذه القاعدة الشهيرة و السائدة سطحية وخادعة .تلك هي أولى أخطاء النظرة الشمولية العمومية للنقد و النقاش انطلاقا من أيديولوجية دنيوية أو غيبية مغلقة .
الحوار و إبداء الرأي وسماع وجهة نظر الآخرين أهم عوامل النضج و التفتح نحو عوامل جديدة و قيم حقيقية تقرب البشر و تستقطبهم حولها .يتفق الكثيرون مع الظن بأن أبرز عيوب المثقف العربي حساسيته من الرأي المخالف و خشيته من النقد و لذلك مبررات أخلاقية و ثقافية تربوية . فالثقافة العربية ثقافة نص و سماع ، تدور حولهما النشاطات و الإنتاجيات العقلية و الاجتماعية،و يقترن الكتاب بصورة إلزامية في مخيلتنا بالموروث وما يحمله من إبداعات و جماليات و انجاز حضاري و إنساني خلاق .وما يحمله أيضا من تراكمات مقيدة للنهوض المبدع .
لقد تطورت النظرة للتراث في العقود الأخيرة الماضية و بات التراث بمجمله موصوفا بالفكر الديني و أخذ تدريجا يبعد التجديد و التنوير و يقتصر على كتب التعليم و التقليد المذهبي ،حتى كادت الكتب التراثية الجمالية تغيب عن محافل الثقافة و تجمعاتها لتحل محلها كتب تحمل ثقافة أصولية متزمتة تعيد استنساخ مقولات ونظريات عكف العلماء دهرا لتجاوزها و تغليف آثارها السلبية. ومثال ذلك كتب التعصب المذهبي و العقائدي الرائجة من جديد .
و تدور الحوارات و السجالات الفكرية و الثقافية في عمومها في عالمنا العربي حول نص مجتزأ أو فكرة مركزية بطريقة حلزونية و مهما حاولت الدراسات التنويرية الابتعاد تبقى مرتبطة بالمركز لا تملك منه فكاكا ،تجد نفسها مرغمة على دعم نتائج بحثها الفكري بالمدلولات الشرعية تقتنص قولا منها و اجتهادا من هناك و تفسير معزولا لآية أو حديث أو قول تكون النتيجة إبداعا محدود الإطار قاصرا عن استيعاب التغير و التطور قابلا للدحض و التدمير . حتى تلك الدراسات التي كانت بمنأى عن الارتباط الحيوي بالمنقول النصي و ما جاوره كالأبحاث العلمية و الاجتماعية باتت ملزمة بارتداء جبة المراجع و المشايخ لتحظى بالرضا و القبول و الانتشار.ومن ثمة تسبب البعد عن المنهج العلمي و الافتراق عن المسيرة الحضارية العالمية بغربة ترتد إقصاء و عداء ًورغبة شديدة لدى الجمهور في الحفاظ على الهوية المهددة لأسباب علمية بحتة في المقام الأول و نفسية في المقام الثاني .
وتتضامن مخاوف ثلاثة في معمل الإبداع العربي تحاصره و تثقله بقيود تمنعه من التحليق .أولها المخاوف الأمنية المرعبة ذات السيف المسلط فوق رقبته ، وثانيها سيطرة السائد و التقليدي على الأجواء العامة في ذلك الأفق المفترض أنه لا يخضع لاعتبارات الالتزام الديني و المذهبي , وثالثها الكرت الأحمر المتوفر بكثرة في جيوب المشتغلين في الشأن الفكري و الثقافي ، ففي أي خلاف أو تباين في الآراء أو وجهات النظر يلقى في وجه الباحث و الدارس نصوص دينية قطعية لا تحتمل النقاش أو الجدال تنذر الثبور و عظيم الأمور . لقد امتلك المسلمون الأوائل الصدق و الشجاعة و الجرأة ووقفوا في مواجهة النصوص وفهموها كما يريدون و كما تمليه مصالحهم و مصالح رعاياهم . تستلب حالة التخلف و العجز و الضعف المثقف العربي فتثقله بقيود داخلية و أصفاد مجتمعية و أغلال موروثة تحارب النهوض و إبداع و التجديد .يتحمل المثقف مسؤولية مزدوجة بشقين الأول ذاتي تلزمه العمل و البحث المستمر عن الحق و الحقيقة والصواب و ثانيهما مجتمعية تجبره على إرشاد الناس إلى مكامن العجز و أسباب وحقيقة التلف و التقهقر الجمعية المقترنة بدينامية الحراك الفكري العربي الراهن .

المرأة ليست فرجا ً فقط !


إحسان طالب

2008 / 1 / 26

ُغشاء البكارة هو الحصن الأعظم الذي تدور حوله معارك الشرف الجنسي وتسقط على عتباته آلاف النساء صرعى ،جثث تسيل منها الدماء تغسل العار ، تثبت زعامة الرجل المسلح بالقانون و الشرع و التقاليد و العادات ،حصن ولا كل الحصون تعتمد على بقاءه صامدا حياة النساء في المجتمعات المحافظة و المتلطية تحت ركام من التهيج الجنسي المختلط بقناعات غيبية تتماهى فيه حدود الإنسان مع لا نهائية المطلق يحتل الفرد الرجل مكان الوصي الأخير على تنفيذ توجهات و تعاليم فوقية لا تراجع أو تناقش .
تبدأ الحكاية من الصغر مع الألف و الياء الذكر بركة وقوامة و حارس والأنثى وعاء رقيق وغشاء سطحي يخدشه النظر أو الكلمة ، المرأة مجلبة للعار ما لم تحتجب خلف الأستار و الأبواب ،رهينة بانتظار طالب اليد الخارج من أتون الشحن والضغط تسكن رأسه رؤية قطعة قماش ندية حمراء بللتها قطرات من الدم الطاهر ،يدك الرجل حصن البكارة ويهدمه و لا أدل على رجولته و بطولته و ذكوريته من فض لبكارة ينبغي على الأنثى الحفاظ علية مختوما من الولادة إلى الزواج .
يفشل الرجل في تحطيم السور العظيم ،يحاول ثانية و قد أثقله الخوف من العار عار الفشل والرسوب في امتحان الذكورة ،كيف يواجه الأهل و الأصدقاء وقد سقط في امتحان إثبات الذات و حتى تحقيق الوجود ؟ الحل يخرج ملونا بهلوسة نفسية تسعر نارها غيرة دينية وتوقد نارها تجارب و عادات راسخة نهضت من فوقها قيم و مبادئ مجتمعية يستحيل تجاوزها أو القفز فوقها ،تساور الذكر التبريرات و الحلول السريعة الجامعة المانعة ،هو رجل كامل الرجولة، ذكر بكل ما تمليه الكلمة من معاني ، لقد تأكد من أمر في غاية الخطورة الحصن مدكوك و الغشاء مفضوض من قبل أن يطأه ،الأمور باتت شديدة الوضوح ملتهبة تلك النار التي لا تعرف سبب اشتعالها ،الدم الذي سال بالحرام لا يغسله و لا يطهره إلا الدم
يستل السيف ويرفعه عاليا تتداخل في شرايينه كريات الدم بعقد الرجولة وتعاليم القبيلة ،يغلي دماغه فلا يطفئ النار و العار إلا الدم ينهال فوق جسد المرأة يقطعه ويخرج مرفوع الرأس مشهرا علامة رجولته منشيا بنصر مؤزر ،لقد دك الحصن و أسال الدماء
يحميه القانون و العرف و التقاليد الجاهلية ،تأخذ الجثة ينظرها الطبيب يفتش عن الحصن الغشاء بدون عناء الحصن مازال صامدا و الغشاء مازال مسمطا
عجز الرجل وخيبته ،هيجان الشرف و هوان المرأة ، تنهي الحكاية بجثة جديدة لامرأة لا يحزن موتها أحد .
تتكرر المأساة وبذات التفاصيل مع الأخ و الأب ،و المجتمع الآثم ينظر و يبرر،و القضاء المريض المصاب بفيروس المراجع يجرم الضحية و يبرئ المجرم .
إحسان طالب : كاتب سوري.
هامش :
من وحي قصص حقيقة جرت في بلداننا العربية وتناقلتها و كالات الأنباء

العيد الحزين


إحسان طالب

2008 / 1 / 24

كل عام و أنت حزين
كل عيدٍ و أنت مبتور
أجمع أشياءه الصغيرة َ
أشم ملابسه القديمة َ
أقلب دفتر الصورْ
هذه خطوته ُ الأولى
أذكرها كما اللحظة ُ
هذه ضحكته الأولى
أسمعها كما أسمع نفسي
أقلامه أوراقه رسومه
تحتل جدران روحي
بكاؤه يعزف على نبض قلبي
؟
سأقف إلى جانبك عندما أكبر
سأدير أعمالك لتسعد
سأكون ساعدك الأيمن
قطعوا ساعدي الأيمن
أسالوا أنهار الدمع في شرياني
أسقطوا القمر من قبة السماء
و حجبوا الشمس بظل البغضاء
!
انتظرت أربعة و عشرين
لم أفكر يوما أن يقدم لي شيئا
إلا الحب
لم أشاء أن أكسب منه عونا
إلا القرب
يكبر الحب مع الحزن
ويزداد الأسى مع البعد
.
العيد مناسبة للفرح
ليس لكل الناس
العيد يقول لي أنت
ممنوع من الفرح
و أنا لا أريد أن أفرح
:
لا أستطيع أن أفرح
يسعدني حزني
و تحييني الذكرى
هذا أول امتياز له
و هذا أخر قميص لبسه
،
لوحة جدارية ٌ
تحتل المكان
يقف عند حوافها الزمان
تختزل العمر و الذكريات
تأكل فتات الليل و النهار
تتسرب بين شقوق الجدران
تستعير خيوط الليل
تقطف حزمة من أحزان و أسى
ترسم اللوحة
و تعيد التشكيل
ألوان لا تجف
تسقيها الدموع
يحضنها الفقد

حورية على ضفاف الحب


إحسان طالب

2008 / 1 / 18


جنة على تراب الأرض
ناقصة
وفي السماء جنات
مؤجلة
حورية على ضفاف الحب
تغتسل
لا تنتمي إلى عدن و فردوس
تحاور الشمس لحظ النور تسكبه :
هل ما بيننا نسب ؟
أنت الحياة
سرمد العمر أعصره
و أنا النبات
عصر الحب أنشره
يختزن الكرم شعاع الضوء في ألق ٍ
و أسقي َظمَاءة الصًّب
كما المُعْصِرَات تروي
عفرة الجدب
في كل صبح يشرق وجه
ناظرك
وقد أشرق النور في جفني
مُغْمِضَة
أنت وحدك.. في العلياء
مستوية
و الكل حولك في فلك
تابعون
وأنا هنا معززة
بين الغفير
على عرش الرضا
مكرمة
الكل حولي مغرمون
إلى رحيق العمر
ناظرون
حاضنة الكون بالدفء
مشرقة
وحاضنة الحب لِلظى الرمضاء
ماء
أجود بليل لا حدود له
أزور الحالمين
أنثر الغبطة في صاوي الفؤاد
أهز أركان السرير
فأكون للفجر شمسه
وتكونين شاهدة
لحظ النور
يشرق في القلوب

حوريات المؤذن


إحسان طالب

2008 / 1 / 13


أطل الليل الطويل بوجه عابس
لا تعترض
في كل مرة يخرج لسانه في وجهي
ابتسامة صفراء
تهمس في أذني حاول أن تنام
أحتال عليه
يتجاهلني سنة أو اثنتين
يهزني لن تنام
الخبز و الماء و فواتير الكهرباء
أخبار الدماء وصولات الدخلاء
كيف لك أن تنام
أسامر الليل و النجوم آذان
و أنتظر الفجر و الساعات أزمان
أخاطب روحي و الجدران خلان
أفكر بحلم جميل
أتوق لفرح يسير
أسافر في دهاليز الخيال (1)
وأبني قصصا ً
لأطفال وأبطال
أفكر بنصر الأمهات
على قلة الدقيق
وضيق الثوب وغش الحليب

******

أقول له سأهزمك بواحدة
سأهرب منك إلى السماوات
التي لا تنتهي
وأعد النجوم التي لا تعد
لن أعد الخراف
إنها تقلقني بإدام (2)
ووجبات دسمة
لا يعرف رائحتها أبناء حيي
وذلك الشيطان اللعين
تحالف معك
فلا تطرده آيات ولا أذكار
أرجوك دعني أنام
أنهكتني
الشمس الحارقة بانتظاري غدا ً
والحذاء الرخيص
يأكل فتات قدمي
دعني أرتاح قليلا ً
يخرج لسانه اللئيم
لن تنام قبل الفجر
أتأمل الفجر الجميل
وأتكئ على وعد كليل

*******

مؤذن الحي ينام قبل الغروب
يحلم بحوريات وجنات
توقظه إحداهن قبل الفجر بساعات
اللؤلؤ المكنون (3)
يضيء ليل المفتون
يقلب البصر
يصعد درجات الصوت
يحتار ماذا يقول
وكيف ينهي مديحا ً جانبه القبول

قلت لك لن تنام
آخر كلمة سمعتها من الليل
وأذكرها وأنا أقابل
وجه الحذاء القبيح !


1 ـ الدهليز بالكسر ما بين الباب والدار فارسي معرب :مختار الصحاح للرازي
2ـ الإدام ما يؤتدم به تقول منه أدم الخبز بالحم من باب ضرب : مختار الصحاح للرازي
3ـ من قولة تعالى : ( و حور عين كأمثال اللؤلوء المكنون ) الواقعة 22

الإشكالية الديمقراطية بين الأغلبية السياسية و الإثنية 12


إحسان طالب

2008 / 1 / 8

النظرية الشائعة التي غدت مسلمة لدى ثلة من المراقبين م المحللين و القائلة بأن أية انتخابات حرة و نزيهة في الدول العربية سوف تؤل إلى اكتساح التيار الإسلامي لغالبية المقاعد النيابية و تاليا السيطرة على الحقائب الوزارية و مراكز صنع القرار في الدولة ، بحاجة إلى مراجعة و نقد .بالوقائع تفصح الانتخابات التشريعية المغربية الحاصلة في 7ايلول007 عن خيبة التوقعات باكتساح حزب العدالة و التنمية المغربي للمقاعد المتاحة حيث قدم الحزب 94 لائحة فاز من خلالها
ب46 مقعدا من أصل 295 بزيادة طفيفة بلغت أربعة مقاعد عن الانتخابات السابقة . أيضا في الانتخابات التشريعية الأردنية الأخيرة 20-11-007 و خلافا للمتوقع حصل تراجع واضح لحظوظ الإخوان المسلمين بنيلهم لستة مقاعد فقط من أصل 22 مرشحا . بالأخذ بعين الاعتبار مسألة الشفافية و النزاهة يمكننا اعتبار الحراك الديمقراطي المشار إلية مقبول نسبيا بالنظر إلى جود 50 مراقبا أجنبيا متابعا للانتخابات في المغرب وبالركون إلى مراقبة منظمات المجتمع المدني للعملية الانتخابية في الأردن و استنادا لتقارير صحفية اقر خلالها 54%من الأردنيين بنزاهة الانتخابات بينما تنوعت مواقف الباقيين بين عدم النزاهة و عدم القدرة على تحديد موقف .اللعبة الديمقراطية تلك جرت في ظل نظام انتخابي يتبنى القائمة النسبية التي تفرض التصويت على سلة من اللوائح المتنافسة على المقاعد المتاحة في دائرة انتخابية كبيرة مما يعني منع أي حزب أو تجمع أو حتى تيار من السيطرة على الأغلبية الكبيرة داخل المجلس النيابي . نحن هنا أمام حالة موضوعية تحجز و تحاصر طغيان الأغلبية الإثنية قبالة الأقليات المتعددة المتواجدة على الساحة الوطنية و تسمح بممارسة العملية الديمقراطية بطريقة آمنة .
عناصر الصورة على المسرح الديمقراطي العربي لا تكتمل بدون استيعاب الحالات الأخرى المتممة للمشهد السياسي الراهن ، فالتطبيقات العملية للتجربة الديمقراطية في فلسطين و العراق أعادت الثقة لمقولة سائدة في أوساط العلمانيين أن الخوف من التيار الإسلامي و الأغلبية الإثنية ليس وهما .
التجربة الإيرانية الرائدة أفرزت صيغا من التعصب الطائفي آثار شكوكا بمصداقية الحل الديمقراطي للمسألة الوطنية فالنموذج الإيراني الحالي لا يقبل بمعارضة من خارج الطبيعة الأصولية الحاكمة و لم يتردد الرئيس المنتخب أحمدي نجاد من وصف معارضيه بالغباء ة الجهل و الخيانة و كان صادقا مع نفسه و لعله حسن النية أيضا فالصواب ضمن الفهم الأصولي الديني له وجه واحدة و الحق مطلق و ليس نسبيا . تلك الصورة المثالية حسب رؤية البعض انعكست نتائج سلبية على ميادين و إرادات عربية رغبت بالاستفادة من تلك التجربة و تطبيقاتها العملية . ففي العراق لا تجد الأغلبية البرلمانية عيبا في سيطرتها على محصلة نتائج العمل البرلماني طالما أنها تحظى بأكثرية المقاعد التشريعية و لا ترى إشكالاً في توجيه مسيرة النشاط الحكومي لتصب في مصلحة أكثرية الهيئة الانتخابية التي تمثلها ، في مثل ذلك المنطق المحق ظاهريا تضيع حقوق الأقلية النيابية حتى و لو كان الفارق المرجح لطرف على الأخر 1% . الأقلية النيابية العراقية لم تجد حلا للتعبير عن عدم القدرة على التغير سوى التهديد بالانسحاب من الحكومة و البرلمان و لولا الضغوط الخارجية لانفردت الأكثرية بالبرلمان و الحكم و وضعت الأمور على حافة الانفجار .
الحالة العراقية تماهت مع التجربة الإيرانية من جهة التقارب المرجعي الأيديولوجي للسياسيين في البلدين فسمحت للأكثرية المذهبية بتبني حقوق الأغلبية السياسية ـ المتفق عليها في أنظمة الحكم العالمية الحديثة ـ إلا أنها أغفلت كون الاصطفاف و التقسيمات التي على أساسها تجسدت التوازنات البرلمانية انبثقت من ولاءات مذهبية و طائفية آخذة ًبعين الاعتبار في المقام الأول أملاءات المرجعية الأصولية الدينية ، فمنطق اللغة الجامعة للأكثرية هنا هو التموضع خلف مصالح و طموحات فئات ترى المصلحة الوطنية متحققة جراء تلبية مطالب و رغبات الأكثرية العددية بصرف النظر في كثير من الأوقات عن حاجات و توجهات الأقليات المكونة لباقي عناصر الطيف الوطني ، و في ظل هذا الوضع يتوه جوهر الفكر الديمقراطي و يكرس واقع جديد يصعب تغيره أو تبديله .و يطفو على السطح هنا مصطلح دكتاتورية الأكثرية أو استبداد الغالبية ، و لا يبتعد مدلول المصطلح كثيرا عن الصواب ,ففي بلد كالعراق أو سوريا لا تتغير الكتل العددية المحصاة طبقا لتنوع مذهبي أو ديني أو عرقي , فالغالبية الشيعية في العراق كانت سائدة لعقود طويلة و هي مرشحة للاستمرار لزمن مديد و لا يمكن لعلماء الديموغرافيا تحديد نهايته ، و في سوريا الإحصاء العرقي يؤكد على التفوق العددي للعرب على الكورد لأزمان قادمة يستمر خلالها التباين النسبي لمكونات الشعب السوري ولا توجد في التاريخ المنظور مؤشرات على تحول الواقع القائم أو تبدله .
صحيح أن اللعبة الديمقراطية تقوم ببساطة على أساس عددي تنال خلاله الأكثرية العددية ميزات القيادة و الحكم و تقف الأقلية العددية في موقع المعارضة إلا أن هذا الوضع غير ثابت و قابل للتغير ، فالشرط الديمقراطي يفرض و جود الفرصة الكاملة لتبادل المراكز بين الأقلية و الأكثرية . فالأغلبية المطلقة في المجلس النيابي مؤهلة و جاهزة للتغير في دورات انتخابية قادمة تتحول المعارضة إلى موالاة و تصير هي صاحبة الامتياز ، يحدث ذلك بسلاسة في مجتمعات مدنية حديثة ، يتبلور التمحور و التجاذب داخلها وفقا لمنظومات سياسية تذوب داخلها و تتراجع الهويات المذهبية و العرقية و يكون البرنامج السياسي و البيان الانتخابي مركز الاهتمام و الالتقاط .
ثبات الواقع الجيوسياسي الناجم عن الحالة الديموغرافية أمر يدعو للقلق ، فشرط تبادل المراكز في اللعبة الديمقراطية الذي يتيح انتقال الأكثرية من جهة لأخرى غير ممكن في ظل توجه أصوات الناخبين بشكل أوتوماتيكي نحو المرشحين الممثلين للهويات العرقية و الإثنية بدون التفنيد و التدقيق في البرامج السياسية ، و يشغل البحث عن الانتماء المذهبي و العرقي المبدأ الرئيس الذي يعطي على أساسه الناخب صوته . الحالة السسيولوجية للمجتمعات العربية تؤكد التزام و تعلق الفرد بوحدات اجتماعية صغيرة تبدأ برب الأسرة ضمن العائلة الواحدة و تتوسع قليلا نحو العشيرة والقبيلة و عندما تأخذ شكلا أكثر مدنية تتحول إلى الطائفة فالمذهب فالدين والعرق ، هذه الحالة في الواقع ليس واحدة لدى الشعوب العربية و هناك تفاوت كبير يبدو جليا بين دولة و أخرى و ربما بين مدينة و أخرى
المؤسف أنة بعد عقود من الاستقلال الوطني نعود لمعالجة أبجديات التناقض بين الواقع العربي و النظام الديمقراطي ، و نسعى للبحث عن أشكال و أنظمة سياسية أقل ديمقراطية و أكثر توافقية نخبوية و لا اقصد بالنخبوية هنا الثقافية أو الفكرية و لا حتى العلمية بل الاجتماعية والطبقية و السياسية .
باستقراء نموذج آخر له خصوصية قد نتمكن من القرب أكثر نحو فك أو تحليل الإشكال الديمقراطي في ميدان السياسة العربي .