الأربعاء، أبريل 09، 2008

نقد نظرية الحكم الإسلامي


إحسان طالب

تمارس المدرسة التقليدية في الفكر الديني النقد على مستويين :داخلي يقوم على أركان ثلاثة، أولها الإثبات
وثانيها التفسير و ثالثها التبرير، و خارجي يقوم على مبدأ الهداية والضلال، فالآخر إما ضال ممانع للهداية محارب يواجه بالقوة و إما ضال مستعد لقبول الهداية و الانخراط فيها و بالتالي يكون جزءا منها أو منطويا تحت ضوابط ناظماتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.والخروج عن أدوات تلك المدرسة ووسائلها ومناهجها
والبحث خارج مكوناتها ونقدها ،هو سعي جاد لمطروحات حداثية تقدم رؤية ومفاهيم تؤهل المجتمعات العربية والإسلامية للخروج من حالة الاستعصاء و التقهقر التي تلازمها في الحاضر وفي الماضي القريب . وليس محل خلاف الظن بأهمية القراءات النقدية للموروث السلفي المنقول و الفيض المتجدد و المتنامي لمؤثراته الراهنة
والمستقبلية، إلا أن الخلاف يبدأ ثم يشتد عندما يغوص النقد في مسلمات و ثوابت يعد تخطيها أو حتى الاقتراب منها لعبا بالنار وخوضا ً في المحرمات . وربما يكون التخوف عائدا في قسط منه إلى الالتباس في مفهوم النقد
والتوجس من تفكيكه للمكون العام للبنيان الديني الذي يشكل الرابط الاجتماعي الأهم ونقطة الجذب المركزية لمختلف العناصر المشكلة للمجتمعات ذات الغالبية المتدينة .و قد يكون خوفا من التغريب وضياع الهوية إلى جانب العامل الغيبي المتمثل في رهاب الخروج عن إرادات المطلق و النتائج الوخيمة لذلك الخروج .
" إن الرهان على مستقبل جديد للأمة العربية و الإسلامية مرتبط بمدى إنجازها لنقد الأسس التي قام عليها العقل الإسلامي مما يطرح تساؤلا جدليا هو مدى ارتباط حداثة المجتمعات بنقد الأسس العقلية التي قامت عليها هذه المجتمعات "(2)
و النقد بداية لا يعني الإعابة أو الانتقاص بقدر ما هو فتح أو تجلي و ربما كشف على الطريقة الصوفية و هو في بعض جوانبه يصح وصفه بالنقد التأملي لهذا سنلجأ إلى الأدوات المعرفية الحديثة مع إدراكنا للأنماط السائدة
والموروثة طالما أننا نجري نقدا بحثيا ً يمارس خطابا ً حول الخطاب يتناول المعنى بعيدا ً عن الشعور بالخوف أمام حضور جلالة النص. (1)
قد تكون خياراتنا النقدية فكرية أو ثقافية في المقام الأول لكنها في الحقيقة تخفي بعداً سياسيا واجتماعيا تغيريا ً نهدف إليه، خصوصا في مواجهة الهجوم الشامل و العنيف للأصولية السياسية و الاجتماعية الجادة في أسلمة البيئة و الفضاء و الهواء، المسيطرة على الأجواء العربية و الإقليمية الشعبية و الرسمية إلى حد بعيد، تجرها نحو صدام و تناقض مع العالم و الواقع . في هذا الخضم الهائل من الضغط في مواجهة العقلنة و التجديد و الإصلاح كان لزاما العمل بمنهج تفكيكي قبالة البناء الأيديولوجي العظيم المتجذر عبر إرث تاريخي تراكمي حظي بأفضلية الممارسة و التطبيق استعصى على التغير و عاند الإصلاح و التجديد ولن يتحقق تقدم أو تطور نسبي ما لم يتم نقده بالمفهوم اللغوي للكلمة.
شرح نظرية الحكم في الإسلام:
النظرية التي نحن بصدد بحثها و دراستها هي الوعاء الذي خرجت منه الأشكال المتعددة لأنظمة الحكم الإسلامي عبر التاريخ وهي التي ستستخدم لإنشاء أشكال جديدة في المستقبل وفقا للتغيرات الجيوسياسية. ومطلبنا الوقوف عند النبع الذي ألهم وأوحى ذلك الكم الكبير من التنوع وتأطيرالفضاء الحاوي لأركان وقواعد تلك النظرية
ومراحل تطورها و مدارسها و أشكالها العملية.
نظرية الحكم في الإسلام جزء من نظرية شرعية كاملة تتسق بمجموعة من الضوابط والقواعد تشترك فيها كافة أشكال النظم السياسية والاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية، أي أنها أيديولوجية كاملة مغلقة ذات مصدر إلهي الواجب الرئيس فيها الملقى على عاتق العالم و الفقيه والباحث هو معرفة مراد المشرع في المقام الأول، وفي حال الوصول إلى ذلك المراد ليس هناك خيار بين الرفض أو القبول بل لابد من الانصياع التام و الطاعة المباشرة.
((ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ))الأحزاب 36
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره الجامع لأحكام القرآن عند شرحه لهذه الآيـة:
"روى قتادة وابن عباس ومجاهد في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش، وكانت بنت عمته, فظنت أن الخطبة لنفسه, فلما تبين أنه يريدها لزيد مولاه كرهت وأبت وامتنعت وامتنع معها أخوها عبد الله بن جحش لنسبها من قريش، وأن زيدا كان بالأمس عبداً, إلى أن نزلت هذه الآية فقال له أخوها مرنا بما شئت, فزوجهـا من زيد".
المسألة الأصولية المعروفة وهي: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إذ سبب نزول الآية كـان امتناع زينب من الزواج بزيد، ولكن حكمها عام في كل مؤمن ومؤمنة كما دلت عليه الصيغة الكلامية. والشاهد أيها القارئ من هذه المقدمة أن تعلم أن هذه الآية الكريمة { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } هي معيار الإيمان ودليل وجوده أو عدمه؛ فمن جاءه أمر الله أو أمر رسوله الجـازم ورده بوصفه أنه حر ومختار في تصرفاته الشخصية إن شاء قبل الأمر أو رفضه، وإن شاء نفذ حكم الله تعالى وحكم رسوله أو نبذه وأهمله، فهذا العبد ما هو بمؤمن ولا يعد فرداً من أفراد المؤمنين إذ الآية تنفي وجود إيمان صحيح مع اختيار حر بالرفض والقبول, لأحكام الله ورسوله - ص-3 انسجاما مع المفهوم المركزي للإسلام بأنه استسلام وانقياد لمراد المشرع الأول جل شأنه كانت القاعدة المبدئية في تلك النظرية نفي حرية الاختيار و تجاوز أصل الرفض أو القبول المرتبط بحرية الإنسان.هذا الخضوع يقابله الانصياع للأنظمة و القوانين الوضعية و الفارق هنا قابلية التشريع الوضعي للتغير التعديل وحق الفرد في إعلان معارضته وعدم رضاه وسعيه للتغير ،في مقابل التصديق المطلق والحب الخالص للشريعة الدينية .
((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما))النساء65.
تحمل هذه الآية بعداً إضافيا داخل مفهوم الانقياد والتسليم الفعلي و الوجداني يمتد ليشمل قضاء و حكم الرسول خارج القرآن، أي ما صدر عن النبي من أقضية و أحكام دنيوية ولا تنازع بين القرآن و السنة فالآية نزلت لإعطاء الشرعية الإلهية لأحكام وأوامرالرسول وخاصة تلك التي لم ترد في القرآن هكذا هو الأمر في حياة النبي وبعد وفاته يفترق التأويل والتفسير فعند أهل السنة يستمر الحكم الملصق بالنبي إلى ما ورد عنه ومن ثمة بالوكالة للحاكم الملتزم بتطبيق الكتاب والسنة, عند الشيعة تنحصر مسألة الانقياد والتسليم بالأئمة المنصوص على إمامتهم
وبالوكالة للولي لحين عودة الإمام الغائب وفي كتب التفاسير أحاديث نبوية بأسانيد تذكر أسماء الأئمة و تحصر و لي الأمر فيهم
عن الإمام الصادق عليه السلام:لو أن قوما عبدوا الله و أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه رسول الله ألا صنع خلاف ما صنع ؟أو وجدوا في ذلك حرجا في أنفسهم لكانوا مشركين ـ4ـ
جاء في فتح القدير في تفسير الآية أعلاه: و التقدير فوربك لا يؤمنون حتى يحكموك أي يجعلونك حكما بينهم في جميع أمورهم ولا يحكمون أحدا سواك، أي ينقادوا لأمرك و قضائك انقيادا لا يخالفونه في شيء، والحرج الضيق وقيل الشك ــ5ــ
لا تكتفي النظرية الكلية للفقه السياسي الإسلامي بإلزام المسلمين و المؤمنين برؤيتها وتصورها لطبيعة الحكم و آثاره بل تذهب أبعد من ذلك بكثير لتشمل أهل الأرض كافة.
فالرسالة عالمية شمولية لا تقبل الرفض أو الشك ممن حولها، والاعتقاد بمطلق الحق والصواب فيها جوهري و خطير ملزم و حجة لكل من سمع بها، وفي ظل الثورة الكونية الإتصالاتية بات من المفروغ من وصول و معرفة أمر هذا الدين لكل البشر على سطح المعمورة، و كل من لا يؤمن به من أصحاب النار، فهي رسالة تحمل البشر و الخير لأهلها والنذير و الثبور لم خرج عنها أو منها.
((و ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا و نذيرا و لكن أكثر الناس لا يعلمون ))سبأ28"أي ما أرسلناك إلى الناس إلا جامعا لهم بالإنذار والإبلاغ أو مانعا لهم من الكفر والمعاصي "ــ 6ــ
(( إن الدين عند الله الإسلام و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ))آل عمران 19ــ
قال العلامة حسين الطبطبائي في تفسير تلك الآية:أن المراد بكون الدين عند الله وحضوره لديه سبحانه هو الحضور التشريعي بمعنى كونه شرعا واحداً لا يختلف إلا بالدرجات، و بحسب استعدادات الأمم المختلفة دون كونه واحدا بحسب التكوين بمعنى كونه واحدا مودعاً في الفطرة الإنسانية على وتيرة واحدة ـ اـ هـ ــ 7ــ
((و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل من و هو في الآخرة من الخاسرين ))آل عمران 85 ــ
وفي الحديث الصحيح : و الذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار .
ــ قال النووي في شرح الحديث: هذه الأمة أي من هو موجود في زمني و بعدي إلى يوم القيامة فكلهم يجب عليهم الدخول طاعته و إنما ذكر اليهود و النصارى تنبيها على من سواهم، و ذلك لأن اليهود و النصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى. إ ـ هـ ـ 8 ـ
تشترك الأشكال و أنظمة الحكم الإسلامية الأصولية المختلفة بالمبادئ المستنبطة من الآيات والحديث أعلاه و غيرها كثير تعطي ذات الدلالة و ترسخ ذات المفاهيم التي يصعب جدا تجاوزها و القفز فوقها لثباتها و قوة الحجة و الدليل فيها ، فشمولية الرسالة و فطرية الدين بمفهومه الشرعي تلقي بظلالها الثقيلة على الباحث عن الحرية السياسية والاعتقادية تحت سقف نظرية كلية للحكم في الإسلام.
ويعزى جزء مهم من ذلك الإرث المتراكم من التنوع في مظاهر التفسير و التطبيق إلى طبيعة النص القرآني المولد لقائمة لا متناهية من الأحكام ولفتوته وحيويته عبر العصور، كما ينصرف قسم أخر إلى محاولة الباحثين المسلمين تركيب ما وصلوا إليه من أراء و مواقف و مفاهيم على الأسس و القواعد المستوحاة و المستنبطة من الموروث المنقول لإكساب مقولاتهم السند الشرعي و لإثبات قدرة الوحي في التحكم في متغيرات الزمان و المكان, ودائما كان هناك فرقَ و حتى تعارض بين المثالية والمبادئ النظرية التي تطرح في كتب الفقه السياسي و بين التطبيق العملي المختلف كثيرا عن الأهداف و الغايات والمقاصد. هذا الإشكال ليس خاصا بالمنطلقات الإسلامية بل هو في واقع الحال عام تاريخيا في كل الأيديولوجيات التي عرفتها البشرية. إلا أن الإشكال الخاص بالفقه السياسي الإسلامي له شقان أساسيان:الأول: التباين الصريح في مدلولات الآيات القرآنية و الأحاديث الثابتة المروية عن النبي، فلغة النص و مدلولاته المتعددة تنعكس إرباكا واضحا في استنباط أحكام متناقضة تماما من نص واحد، واختلاف مدارس التفسير والتأويل مازالت قضية مستعصية على الحل، ناهيك عن قضية الاختلاف في إثبات النص ومذاهب التفسير و علومه. فمسألة قتل المرتد أي المغير لدينه أو المنكر لكل أو بعض ما علم من الدين بالضرورة مازالت غير محسومة إلى الآن بعد أربعة عشر قرنا من البعثة، ومثلها كذلك القبول بالتعدد المرجعي للتشريع و القوانين ـ.
من خلال العصور التاريخية المختلفة التي تلت عصر التأسيس أي عصر النبوة لم تعجز أي من المذاهب و الفرق و أنظمة الحكم حتى الحديثة منها عن إسناد أرائها و مواقفها المتناقضة بدليل شرعي من الكتاب و السنة و تراث الأئمة والفقهاء وكل منها يدعي الحق المطلق وامتلاك الإسلام الصحيح. و تستمر الاجتهادات و النظريات الحديثة في السياق ذاته تسخر الدليل لخدمة أطروحاتها و مواقفها و تدعم الواقع الراهن بالسند الشرعي.
الثاني: مفهوم قداسة و قطعي النص و نهائيته تنعكس على الموقف و الحكم المأخوذ عنهويترتب على ذلك وجوب إخضاع أو إقصاء أو إنهاء المخالفين والمعارضين. فالموقف السياسي أو النظرية السياسية المدعومة بالسند الإلهي تنتقل إليها ميكانيكيا القداسة والنزاهة والعصمة ويصبح معارضوها محل شك و ريبة وخارجين عن الدين و معادين للأمة و الوطن. فالحزب الإلهي لا يقبل النقد ولا المراجعة ولا يصح البحث في سياساته إلا من باب المدح والتعظيم والإجلال ويحظر الحديث عن قادته دون ألقاب التبجيل والتفخيم. عندما تكتسي السياسة وأنظمتها ونظرياتها بحلة الدين تغدو مفاهيم التعدد والاختلاف والمعارضة أمرا مكروها بل ومحرما.
تلك العلاقة الجدلية بين الدين و السياسة كانت في النهاية لمصلحة السياسة على حساب الدين والمتتبع لتاريخ الدول و الأنظمة الإسلامية بعد مرحلة التأسيس و البناء يلحظ بوضوح خضوع الدين للسياسة و ليس العكس . كلما جد منطق أو نظام جديد وفقا للظروف و الحاجات و مصالح الحكام استطاع فقهاء السلطان إسناد الفعل بالدليل الشرعي.

استعراض لسمات النظرية:

من الصعب تحديد سمات رئيسة واضحة ومحددة لنظرية الحكم في الإسلام متفق عليها تحظى برضي وتأييد التيارات الفقهية و السياسية المذهبية السائدة في عالمنا المعاصر، و ذلك لأسباب تتعلق بالمرجعية وآليات إثبات الموروث النصي وفهمه من حيث المبدأ، ولأسباب مرتبطة بالموقف من أصحاب الممارسة العملية للأسس والمبادئ المكتوبة. فتاريخيا تعامل المسلمون، علماء وقادة سياسيين مع الدليل الشرعي بصورة معكوسة للمنهج التجريبي قبالة الدليل الشرعي، فالأصل هو البحث في النص ومن ثمة استنباط الحكم، ما حدث عبر التداول الزمني لقيادة دفة الحكم و الفقه العكس تماما،وذلك في الجانب السياسي تحديدا حيث برع علماء السلطان في توصيف الحالة الواقعية بمدلولات مسبقة للدليل.
لكن بالتأكيد هناك سمات و أركان جامعة تلتقي حولها المتفارقات من حيث المنطق و اللغة والقيم المبدئية ويمكننا تكثيف عرضها على الشكل التالي: هي نظرية إلهية ربانية شاملة ملزمة قوامها الخضوع و الانقياد لمشيئة الوحي ومراده بما في ذلك من صلاح ونجاة للبشر وعمران للأرض ((فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى * و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى))طه 122ــ123ــ
و لمفهوم الغلبة و القهر و ذوي الشوكة ثقله البارز في صياغة النظرية و سيبرز ذلك واضحا في التفاصيل.و العقد الاجتماعي فيها محصور في مفاهيم الخلافة و الإمارة، فالبيعة تفويض مطلق لا يراجع بعده المفوض إلا من باب النصح و هي، أي البيعة واجب من الرعية تجاه الراعي أي الحاكم، وهي مناطة في المقام الأول بأهل الحل والعقد و ذلك جلي واضح في المذهب السني . أما عند الشيعة التي كانت تشكل على الدوام معارضة ممنوعة ومحاربة اختزلت المسالة بالأئمة المعصومين وتحول الإمام بصلاحياته وعصمته إلى مطلق الحق و الصواب وزاد المسألة تعقيدا تبني الأكثرية الشيعية لولاية الفقيه التي تكسب رجلا واحدا صلاحيات نهائية، تتحكم بمصير أمة ، ولم يتحدث القرآن الكريم في أساسيات الحكم و تنظيمه و لم ترد فيه أشارات أو بيانات واضحة لقضية الخلافة أو طريقة انتقال الأمر بعد النبي و اكتفى بالأمر بالحكم بما أنزل الله و الطاعة له و لرسوله و لولي الأمر وذكر الشورى و حض على العدل. وان كان علماء الشيعة يذهبون بعيدا في تفسير آيات طاعة ولي الأمر في دراساتهم الماورائية إلا أن المسألة تبقى مناطة بما يسند من أحاديث للنبي و للإمام علي ومن بعده من الأئمة وفي الجانب الآخر لم يعز على أصحاب مذهب السنة إسناد أدلة شرعية كثيرة بدءا من صحيح الحديث إلى أقوال و اجتهادات الصحابة و من بعدهم تصبغ ممارساتهم و طريقة حكمهم بالشريعة الربانية .
والدليل الشرعي خارج القرآن الكريم في غاية الأهمية كونه وضع الأطر التنفيذية لما نزل به الوحي ومن هنا كانت الأحاديث النبوية الأساس والمنطلق لمبادئ و قواعد مركزية تناقلها العلماء و الفقهاء و الباحثون من زمن بدء التدوين إلى راهن البحث السياسي المعاصر.و بالرغم مما قد يثيره المحققون من إشكاليات حول البنية الكلية للحديث فإنه كان و مازال المرجع الثاني الأهم في تتبع نشأة الفكر السياسي الإسلامي و نموه و تطوره.
عن النبي قال : كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي ويكون خلفاء فيكثرون ، قالوا فما تأمرنا ؟ قال: فوا بيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم "
رواه مسم برقم 3429باب وجوب الوفاء بيعة الخلفاء أول بأول .
و عنه أيضا :من كره من أميره شيئا فليصبر عليه ، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية" رواه الإمام أحمد في مسنده و البخاري مثله برقم 6530 هذه الأحاديث وأمثالها كانت ومازالت تتداول و يستند إليها في استنباط الأحكام و تنظيم السياسة .
اعتنى فقهاء السياسة المسلمون بالمفهوم الديني للأخلاق في علاقات الراعي بالرعية و اهتموا بنصيحة الملوك وتوجيه سلوكهم إلا أنهم لم يتطرقوا لقضايا المشاركة بالحكم و المساواة كقيمة إنسانية لا تقيس الفرد بميزان الدين و تركزت أبحاثهم حول الخلافة والإمامة وجواز استيلاء الأقوى على السلطة وحق الأمة على السلطان العدل وحراسة الدين وحق الإمام على الجماعة الطاعة ، وعدت الإمامة عقدا لازما غير محدود بزمن لا يحل إلا بشروط عظمى تساوي الكفر الصريح أو الجنون ، ووقفوا عند العهد و الاستخلاف كأدوات لانتقال السلطة و كان الموت أو القتل طريقا واقعيا لتداول الملك .أما الحديث عن العقد الاجتماعي فيظل محصورا بالبيعة المناطة بمشورة أهل الحل و العقد و التي باتت منذ بيعة السيف ليزيد بن معاوية مشروعة بالقوة و الغلبة .
يقول الماوردي في الأحكام السلطانية: إذا استقرت الخلافة لمن تقلدها بعهد أو اختيار ــ بعد معرفته باسمه وصفاته ــ ... فعلى كافة الأمة تفويض العامة إليه ليقوم بما و كل إليه من وجوه المصالح و تدبير الأعمال ـ أ ـ هـ
يقول ابن تيمية في منهاج السنة : " فبين رسول الله أن الإمام الذي يطاع هو من كان له سلطان سواء كان عادلا أو ظالما .أ ـ هـ
وكان يعتقد بالغلبة والقهر صفتين من صفات الخلافة الراشدة إذ يقول: إن الإمام هو من يقتدى به و صاحب سيف يطاع طوعا و كرها و هذان الوصفان كانا كاملين في الخلفاء الراشدين.اــ هـ
وللإمام أحمد بن حنبل قول مشهور أورده أبو يعلى في الأحكام السلطانية :إن من غلبهم و صار خليفة و سمي أمير المؤمنين ،لا يحل لأحد يؤمن بالله و اليوم الأخر أن يبيت ولا يراه إماما برا كان أو فاجرا ـ أ هـ
فالحاكم الذي يعتلي العرش بالقوة و قتل منافسيه و ذبح معارضيه تجب له الطاعة بالحق ولا يجوز الخروج عليه ولو شبرا و يعد تاركه خارجا عن الدين .فالحاكم له الطاعة المطلقة ما لم يخالف الشرع و له مطلق الحرية في اتخاذ القرارات بدون مراجعة و تسن له الاستشارة.
و الفرد في تلك المنظومة السياسية مثقل بقيود البيعة و الطاعة و الولاء إلى جانب واجباته الدينية اليومية و ليس من الضروري معرفته حتى باسم السلطان إذ تكفي معرفة السلطان لأهل الحل و العقد و تبقى ضرورة تحقيق العدل لإقامة الحكم فالعدل أساس الحكم، و اشتهر عن ابن تيمية قوله " و أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي يكون فيه الاشتراك في بعض الإثم أكثر مما تستقيم مع الظالم في الحقوق و إن لم تشترك في إثم لذلك قيل إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة"ـ 9ـ ما ذكره ابن تيمية هنا هو نصيحة للملوك و السلاطين كي يتحلوا بالعدل لإدامة ملكهم إلا أن تلك القاعدة لا أثر ولا مفاعيل قانونية لها تترتب على الحاكم في حالة اقترافه للظلم ولا تملك الخاصة و العامة حيال بطش و ظلم السلطان سوى النصيحة و الدعاء . فمفهوم العدل و قيمة العدالة تتراجع درجات أمام أولوية حراسة الدين وسياسة الدنيا أي استمرار السلطان بالقوة له الأولوية على تطبق العدل حال تعذر الجمع بينهما.
ويرى ابن تيمية أن السياسية الشرعية تقوم على القوة و الأمانة ((إن خير من استأجرت القوي الأمين ))القصص26 .
و القوة ترجع إلى العلم بالعدل و إلى القدرة على تنفيذ الأحكام. أما الأمانة فترجع إلى خشية الله و الاعتصام إليه و التزام الحق و حسن الأداء و التضحية في سبيل الخير العام .و هذا نلاحظ عدم وجود محددات سياسية أو ناظمات مؤطرة لبرامج و آليات تصلح أدوات سياسية تبنى عليها أطروحات عامة مرنة و حوض يقبل و يلائم ما يوضع فيه.
"الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد له حكم الإمام في جميع الأشياء و لولا هذا ما استقامت الدنيا "محمد بن عبد الوهاب 10ــ
و بالمحصلة فان الخليفة أو السلطان حاكم مطلق بصرف النظر عن الوسيلة التي وصل بها إلى الحكم ومن استولى على العرش أطلقت يده في التصرف كونه منفذا للشرع و مفوضا من قلة مختارة أو معصوما بالولاية و السند الشرعي .
يقول شيخ الإسلام ابن جماعة: فإذا خلا الوقت من إمام عادل مستحق للإمامة فتصدى لها من هو ليس من أهلها و قهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته و لزمت طاعته لينتظم شمل المسلمين و تجمع كلمتهم، ولا يقدح في ذلك كونه جاهلا أو فاسقا في الأصح . و إذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد ثم قام آخر فقهر الأول بشوكته وجنوده، انعزل الأول و صار الثاني إماما لما قدمناه من مصلحة المسلمين و جمع كلمتهم ـ أ هـ 11 ـ و سميت تلك البيعة بالبيعة القهرية و لا يملك المتتبع لمثل تلك الفتاوى والأحكام إلا أن يتعجب من ارتباط البيعة والخلافة بالقوة وإذا كانت الحالة السياسية التي وضع فيها ابن جماعة كتابة شهدت اضطرابات عنيفة في العهد المملوكي و إبان غزو التتار فيمكن لنا اعتبار تلك الأحكام ظرفية تاريخيا إلا أن المدهش و المثير أيضا أنها مازالت مراجع أساسية و معتمدة و تجدها لدى دعاة الخلافة و الجهاد و حتى عند الوسطيين من الباحثين المعاصرين، و ما زالت تذكر في مواضيع و دراسات الإسلاميين الحديثة كمراجع أصيلة أولية.و يستند إليها لتأصيل الإسلام السياسي و تأكيد مبدأ الإسلام دين و دولة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:فالدين الحق لابد فيه من الكتاب الهادي و السيف الناصر، فالكتاب يبين ما أمر الله به و ما نهى عنه و السيف ينصر ذلك و يؤيده . أ ــ هـ 12
إن متلازمة القوة و الفكرة شديد الأصالة في النظرية السياسية الإسلامية فهي ليسن فقط مطلوبة لنشر الدين وهداية الناس بل هي أيضا وسيلة مقبولة و شرعية ـ و إن كانت غير مفضلة لدى البعض ـ للوصول إلى الحكم واستلام السلطة، و هذا يفسر الجنوح الشديد لدعاة الإسلام السياسي الأصولي لتبرير اللجوء للقوة كوسيلة مشروعة لتولي الحكم و إقامة دولة الخلافة و الحكم بما أنزل الله.و لعلنا تستطيع الاستدلال على حيوية تلك النقول ومرجعيتها فضلا عن وجودها و حضورها الدائم و المستمر في الدراسات والمباحث السياسية السنية ، بما أكده الدكتور رضوان السيد من استفادة الشيعة من تلك المصادر، يقول السيد : إن مدوني الدستور الإيراني يستمدون مواد كاملة من الأحكام السلطانية للماوردي في المهام الدينية و الدنيوية لمرشد الثورة و الفقيه .المرجع ـ 13 ـ
يقول الإمام الخميني: إن الحكومة الإسلامية تمتاز عن غيرها بكونها حكومة القانون الإلهي، و هذا ما يوفر للمجتمع معطيات تعجز الحكومات الوضعية عن تحصيلها. فان اتصافها بالقانون يحول دون تحولها نحو الاستبداد إذ لا يكون الفرد الحاكم شبحا يحكي القانون المهيمن على حية الأمة. واتصاف قانونها بالإلهية يمنحها قدرة تنفيذية عالية إذ يحل الخالق العظيم محل السلطة التشريعية و تكون الدولة سلطة تنفيذية له ـ14ـ
والأمر يأخذ منحى مختلفا في التوصيف الشيعي للإمامة فهي ليست من المصالح العامة التي يترك للأمة النظر فيها بل هي ركن من أركان الدين و قاعدة من قواعد الإسلام على أعلى و أرقى مستوى من الأهمية الافتراضية أو النظرية لزم وجوبا أن ينص النبي على خليفته ووجب أيضا تعيين الإمام بالنص.ولكي يكون مؤهلا وجبت له العصمة من الصغائر و الكبائر فلا يقترض في الإمام السهو أو الغفلة و يفترض له الإحاطة بكل ما فيه مصلحة المسلمين .تلك المنزلة مخصوصة بأصحاب الولاية التكوينية كما يقول الخميني وهم الأئمة الإثنا عشر و ينتظر ظهور آخرهم الغائب ،و لحين ظهوره يقوم مقامه الولي الفقيه الذي يحظى بالمحصلة بذات المكانة الاعتبارية . ونعود لنقع بذات مأزق سيادة الفرد على الأمة في النظرية السياسية الدينية السنية.

و يمكننا رصد مراحل تشكل النظرية السياسية الإسلامية في أربع مراحل :
الأولى هي المرحلة التأسيسية وهي فترة الوحي و البناء النص للقرآن الكريم وما تلاه من تدوين للسنة العملية والقولية للنبي ، وتعد هذه المرحلة الأهم باعتبارها القاعدة والأساس الذي ستمارس على وفقه النظرية و تتطور وتنضج. الثانية هي مرحلة قيام المدارس الفقهية وتأصيل العلوم الدينية التقليدية التي أسسها أبو حنيفة صاحب مدرسة الرأي و تلميذاه أبو يوسف و أبو عبيد مؤلفا أهم كتابين تراثيين يمكن عدها الأساس في تقنين النص الديني و هما كتابا الخراج و الأموال. الثالثة هي مرحلة الشروح على المتون و اقتفاء أثر المجتهدين الأوائل و أصحاب المذاهب الفقهية الخمسة الكبرى ، الحنفية و المالكية و الشافعية و الحنبلية و الجعفرية. الرابعة هي المرحلة الحديثة و المعاصرة بدأ بـمجلة الأحكام العدلية العثمانية وصولا إلى كتاب علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم و الذي ألفه بدعم من حزب الدستوريين الأحرار لرفض دعوة بعض شيوخ الأزهر تنصيب الملك فؤاد خليفة وإعادة الخلافة بعدما ألغاها مصطفى أتاتورك في العام السابق وهي زمن الانفتاح على العلوم السياسية الغربية ومحاولة التماهي مع النظريات و النظم الوضعية و السعي للحاق بركب الحضارة الغربية و مسايرة تطورات العصر . و لم يستطع رواد تلك الفترة ترسيخ قاعدة صلبة من الحداثة واضطر علي عبد الرازق تحت ضغط علماء الأزهرإلى التراجع و التوبة عن كتابه و تتابع التراجع لنصل إلى راهن اضطراب الفكر السياسي الديني عبر منظري الإسلام السياسي الأصولي المتشددة ما رافقه من عنف و صدام بين القوى السياسية قد يتحول إلى صدام بين الشعوب والحضارات ما لم نعمل على لجم التوق و الشغف بالتعصب و التزمت و التشدد.

الإشكال الأساسي في النظرية بنيوي في العمق:

إذا كنا نعتقد بأن التدوين الفقهي يشكله الجزئي و المبسط قد بدأ في النصف الثاني من القرن الأول الهجري ــ ما كتبه عبد الله بن إباض. ولم يصل إلينا ـ إلا أن مسألة الخلافة و سياسة الملك لم تبحث بشكل جدي و متكامل إلا في القرن الخامس الهجري على يد أبي الحسن علي بن محمد الماوردي (364ــ0 45 ) ــ هـ الذي ألف أربعة كتب مختصة في الفقه السياسي هي :الأحكام السلطانية ,قوانين الوزارة و سياسة الملك ,نصيحة الملوك , تسهيل النظر و تعجيل الظفر في أخلاق الملك و سياسة الملك. وحققها و قدم لها و بحث فيه الدكتور رضوان السيد المختص في الدراسات السياسية التراثية. وجاء بعده بدر الدين ابن جماعة ولد في حماة سنة639 ـ وتوفي 733 هجرية و كتب تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام. وسبقه زمنيا شهاب الدين أحمد بن الربيع المتوفى 227هجرية كتب في عهد الخليفة المعتصم كتاب سلوك المالك و تدبير الممالك إلا أنه لا يشكل نظرية سياسية كما يقول محققه حامد ربيع: بأنه وثيقة ليست فلسفة سياسية و ليست علما، لكنها تحليل للإدراك السياسي الجماعي الذي قاد الحضارة الإسلامية خلال النصف الثاني من القرن الثالث الهجري.و يرى بعض الباحثين أن مؤلف سلوك الممالك يقوم على الفكر السياسي اليوناني و بخاصة فكر أرسطو و أفلاطون وهو يؤكد شكل الحكومة الملكي الذي يقوم على حكم الفرد مقرونا بالتفويض الرباني للحكام بقول ابن الربيع: إن الله خص الملوك بكرامته و مكن لهم في بلاده وخولهم عبادة.
و جاء قبله جنس مرايا الأمراء و نصائح الملوك وفيه كتابات ابن المقفع المتوفى 139هجرية و اختص بالنصائح و إقرار قواعد أخلاقية موجهة للحكام .ولا يصح تصنيف تلك المؤلفات في مجلد البحث السياسي الديني بقدر ما تنطبق عليها أبحاث فلسفية و أدبية سياسية تداخلت مع الموروث الفارسي التاج في أخلاق الملوك المنسوب للجاحظ المتوفى 252 هـ كتاب في الأدبيات و الأخلاقيات لا يصنف في المبحث السياسي المختص.
لا يستطع باحث في فقه السياسة التراثي نفي التأثيرات المهمة للحضارات التي سادت أرض الإمبراطورية الإسلامية خاصة الحضارة الساسانية كما يؤكد رضوان السيد كما لا ينكر الإفادة من المترجمات اليونانية في صياغة الفلسفة الإسلامية. و هذا لا يبرئ الفقه السياسي من الإشكالات التي و قع فيها، و من و جهة نظرنا فان الأفكار المنقولة و جدت لها صدى و قواعد جاذبة في عمق النص ما مكن الفقهاء من خلق سبيكة صلبة لها كل المواصفات و الميزات الإسلامية. وتأسيسا على ما سبق نرى أهمية العمل في حفريات التراث على مناقشة الأصل و الأس الذي نهلت منه العلوم السياسية الإسلامية.
إن عشرات الكتب التراثية المختصة في الفقه السياسي عبر أكثر من ألف سنة ليست دليلا مؤهلا لتأكيد أحقية الدين في قيادة السياسة، كما و أنها ليست كافية لمقارعة العلوم السياسية المختصة بالنظريات و الأنظمة السياسية الوضعية.
يجب أن يدرك الدعاة الجدد للإسلام السياسي أن تراث الفقه السياسي خلا تماما من مفاهيم المشاركة في القرار والحكم ولم يلتفت إطلاقا إلى مسألة تداول السلطة. وابتعد كل البعد عن الحرية والمساواة كقيم إنسانية مقاييسها مهملة للانتماء الديني والعرقي ولم يتبن المواطنة كمفهوم ومبدأ، ولا تكفي الإشارة القرآنية والدلالات العملية المحدودة في السيرة النبوية للشورى كأساس ومنطلق للمشاركة السياسية خاصة وأن الفقه السياسي أجمع على عدم إلزامية الشورى.

في النظام السياسي الإسلامي:

إشكالية انتفاء المعارضة وعزل الخليفة :
عندما تبايع الأكثرية الخليفة أو الأمير أو القائد تكره أي تجبر الأقلية على المبايعة و مفهوم الأكثرية المقصود هنا هو قرار النخبة الغالبة أي الأقوى أو المسيطرة وهذا عائد لطبيعة التفكير السياسي الديني المرتبط بوحدانية الحق و مطلق الحقيقية ،فبعد مبايعة أبي بكر على الخلافة أجبر ـ أكره علي على البيعة وبعد مبايعة علي أميرا للمؤمنين أجبر الزبير و طلحة على البيعة ،كماأجبر معاوية بن سفيان علماء المدينة و بقية أصحاب الرسول على مبايعة ابنه يزيد و اشتهرت تلك الحادثة ببيعة السيف ، و كانت حجة يزيد في محاربة الإمام الحسين وقتله شديدة اللصوق بضوابط البيعة . و أصبح الأمر فيما بعد صوريا, حيث تنتقل الخلافة ـ أي رئاسة الدولة أوتوماتيكيا لولي العهد دون شورى أو انتخاب من باب أولى و بطبيعة الحال كان الرعايا مبعدين تماما عن مسألة من يتولى قيادتهم و حكمهم ولم يكن للعامة أي دور يذكر في هذا الشأن و استمر الحال على ما هو عليه إلى عام ـ 1876تاريخ أول برلمان في الدولة الإسلامية وقد استمر سنة واحدة ثم حله السلطان عبد الحميد الثاني بعد الخسائر الكبيرة التي مني بها الجيش العثماني على يد الروس واعتبر عبد الحميد البرلمان مسئولا عن الهزيمة . هذا بالاستعراض التاريخي .
في الراهن فإن الحكم الإسلامي في إيران رغم وجود مظاهر ديمقراطية من انتخابات حرة وشفافة نسبيا وتنافس و تعددية إلا أن انتفاء و جود المعارضة خلل جوهري في النظام السياسي الإيراني خاصة والإسلامي عموما.ولا ينكر وجود المعارضة على الدوام في التاريخ الإسلامي لكنها معارضة مضطهدة و محاربة كما هو الحال في الأنظمة الفردية الاستبدادية المعاصرة.
ولما كان نظام الحكم في الإسلام غير محدد وغير واضح لم تتعرف في العهود الأولى طرق لتنصيب الخليفة و لم يتطرق البحث إلى وسائل عزله. و لقد تجلى ذلك النقص في الحيرة و العجز حيال الموقف من الخليفة الثالث عثمان بن عفان و تمت محاصرة بيته لثلاثة شهور ثم فك الحصار بعد تسليمه كتاب عزل والي مصر ولما أكتشف ما في الكتاب من أمر للوالي بقتل حاملي الرسالة عادت الفتنة من جديد و تمت محاصرة عثمان واقتحم قصره و قتل وهو يتلو القرآن .آخذين هنا بعين الاعتبار الروايات السنية عن الموضوع والدالة إلى وجود مؤامرة يهودية هدفها إثارة الفتنة بين المسلمين ، إلا أن الوقائع وما آلت إليه الأمور هي بؤرة البحث و مصب استخلاص النتيجة .
الإباضية و الخوارج:
ينتسب الإباضيون إلى جابر بن زيد الأزدي التابعي العماني و لد عام 22هجرية كما ينسبون إلى عبد الله بن يحيى بن إباض المري الذي عاصر معاوية وخرج على حكام بني أمية عام 128هـ و قتل عام 130 على يد جيش مروان بن محمد و يعتبرهم الشيعة من الخوارج لخروجهم على الإمام علي،وأنكروا التحكيم ورفعوا شعار :قبلت الدنية و لا حاكم إلا الله ولعل هذا هو أهم رابط بينهم و بين الخوارج ويعدهم السنة من الشيعة لسبهم عثمان. والمذهب الإباضي بالنظر إلى تأسيسه و نشأته أقدم المذاهب الفقهية الإسلامية وهو نتاج مدرستي العراق و البصرة خصوصا واستخدم الرأي و القياس بالرغم من أن جابر محدث . أهمية الوقوف عند هذا المذهب هو أن أصحابه دعوا إلى إمامة المسلمين عن طريق حرية الاختيار و الكفاءة الشرعية لهذا المنصب ولم يشترطوا الإمامة في قريش و لا يجوز عندهم الخروج على الإمام العادل أما الظالم فالخروج عليه ليس ممنوعا كما عند الأشاعرة.و ما زال أتباعهم حاضرين كثرا وهم قريبون من أهل السنة .
ومن غرائب النظام السياسي الإسلامي أن الخوارج و هم فئة ضالة بنظر أهل السنة و الشيعة، اعتقدوا بأن الخليفة لا يكون إلا بانتخاب حر وصحيح يقوم به عامة المسلمين، لا فرق بينهم و يستمر خليفة مادام قائما بالعدل مقيما للشرع مبتعدا عن الخطأ فان حاد وجب عزله و قتله. و الإمامة في نظرهم جائزة وليست واجبة تقتضيها المصلحة العامة فإذا أمكن أن يعيشوا فيما بينهم بالعدل و الإنصاف لا ضرورة للحاكم فإذا فسد الحال
وجبت الإمامة .إلا أنهم أسسوا لمذاهب العنف و القتل و تسرعوا في أحكامها الجائرة و قتلوا المخالف و لم يرحموا طفلا أو شيخا أو حاملا و كانوا شديدي التعصب و الالتزام. و تقتفي أثرهم بعض الفئات الإرهابية الضالة في عصرنا الراهن.
والواقع أن رؤية الخوارج لنظرية الحكم رؤية بدائية غوغائية تعود بمآلها إلى التصورات العشائرية و مجتمعات الإنسان ما قبل الدولة. يتجلى ذلك من خلال قولهم بعدم وجوب الإمامة و أمرهم بقتل الخليفة أو الإمام عندما يحيد أو يخطئ

نتيجة البحث :
لقد أثرى العلماء و الفلاسفة المسلمون الحضارة الإنسانية بمؤلفات قيمة و ساهموا في إغناء التراث الحضاري الإنساني ومازالت علوم أبن خلدون الاجتماعية صالحة ليومنا هذا و مازالت آداب الحكم حرية ً بالقراءة والفهم. ولا ينسى العالم حكاماً مسلمين قل و ندر أن تعرف البشرية أمثالهم كيوسف بن أيوب الفارس النبيل صلاح الدين الأيوبي.
ألا أن الأزمة تستمر وتعود من جديد كلما تجدد البحث السلفي في النصوص و زاد الإصرار على أولوية ووحدانية المرجعية الدينية و تجاوز العلوم و المعارف التي اشتغل عليها وأنتجها العلماء و الفلاسفة، و حصر البحث في قائمة من الكتب التراثية المذهبية و تصنيف الناس على أساسها و يمارس العنف بفتاواها ويعمل من أجل إعادة عجلة التاريخ إلى الخلف. إن ارتباط السياسي بالديني كان على الدوام لمصلحة السياسي و كل الجرائم الإنسانية التي ارتكبت بقرار سياسي تمت تحت مظلة قرار ديني أو أيديولوجي.
وحتى عصرنا الراهن لم يتمكن العلماء و المختصون في علوم الشريعة و مذاهبها من إبرام نظرية حكم متكاملة تمتلك الآليات و الوسائل الإجرائية العملية المنظومة في أطر و قواعد مضبوطة و محددة.وكل ما دار الحديث حوله ومازال منصب في إقامة مراد الوحي الذي يعتقد بتفاهة الحياة الدنيا مقابل عظمة وسرمدية الحياة الثانية بعد الموت.وما زال البحث قائما في اجترار صور و أشكال مبعثرة لأساليب الحكم التي عرفها تاريخ الدولة الإسلامية التي غابت عنها على الدوام إرادة العامة و مراقبتها.وما نظرية ولاية الفقيه التي ينص عليها الدستور الإيراني إلا وجه جديد لقالب قديم منح الحاكم أو الملك صلاحيات مطلقة بتفويض رباني.
يقول سيد القمني مختصرا المسيرة التاريخية لنظرية الحكم في بلادنا التي سيطر عليها نظام الحكم الفردي المستند إلى مرجعية دينية وما أل إليه الراهن كمسيرة طبيعية لتولي الهيمنة المرجعية: (في معظم عالمنا الإسلامي ديكتاتوريتان تتصارعان على استمرار الديكتاتورية و ليس إقامة الديمقراطية:
1. ديكتاتورية عسكر و أسر حاكمة و يمثلون الخليفة الإسلامي التاريخي، و يحاكون نظامه.
2. ديكتاتورية دينية سواء حليفة للسلطة أو معارضة لها ، و يمثلها الإمام أو الشيخ.
و كلاهما الحاكم أو الخليفة، و الشيخ أو الإمام، في حالة صراعية حول من يأخذ أكثر من نصيب الآخر من الفريسة، لكنهما لا يختلفان مصيرياً و لا منهجياً ، إنه صراع الإمام و الخليفة منذ فصل معاوية بين سلطة الحكم و إمامة الصلاة و عين للصلاة الجامعة شيخاً إماماً ) "الحوار المتمدن 2208"
لقد كانت الديمقراطية وما تزال غائبة و مغيبة ولم تعرف أنظمة الحكم الإسلامية تاريخيا مفهوم سيادة الشعب ولا مشاركته، وفي عصرنا الراهن تزداد قيم الحرية و المشاركة السياسية غربة وحصارا حيث استطاعت الأنظمة السائدة التغلغل في الوجدان الشعبي المكون من دغمائية دينية بحتة وأوجدت حالة من العداء مع الفكرة والمفهوم الديمقراطي باعتبارها مستوردة وغريبة لم تعرف المنقولات التراثية دليلا عليها ولم تثبت ممارستها.وفي الجانب الآخر ما زالت الأحزاب الدينية تعد الديمقراطية عربة تستقلها للوصول ثم تتركها عند أخر محطة تريد الوصول إليها وهي كرسي الحكم ،وبعد تلك المحطة تحيل المركبة للتقاعد وتحيي أساليب وطرائق الحكم الموروثة ضاربة عرض الحائض بالمبادئ و القيم التي أوصلتها وكانت تنادي بها وتناضل من أجلها .ولعل الفتوى التي أصدرتها جماعة أنصار السنة في الشهر الثاني من العام 2008 في مصر ـ وهي جماعة سلفية تعتقد بوجوب الرجوع إلى الكتاب و السنة في كامل توجهاتها الدنيوية و الدينية ـ بجواز توريث الحم على أساس أنه ينطبق مع التوجهات الشرعية، دليل رمزي على ما أسسنا له و استنتجناه .
إن البحث السياسي الديني يدور حول السياسة و أخلاقياتها وغاياتها يدعم السلاطين في الأغلب ولا يدخل في عمق البحث السياسي و علومه إلا من خلال الدراسات الوضعية الشرقية و الغربية.

نماذج حديثة للنظرية السياسية الإسلامية:
من وجهة نظر سنية:
أولا :أنها نظام رباني في أسسها و قواعدها ،ليست من وضع البشر بل هي من و ضع خالقهم
((أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يقنون )) المائدة 50
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ))الملك 13
ثانيا : أنها نظام أخلاقي يقوم على الفضيلة و احترام حقوق الإنسان .
ثالثا :أنها نظام عقائدي يقوم على أساس عقيدة التوحيد.
رابعا: أنها نظام شامل كامل .
خامساً: أنها نظام العدالة والمساواة.
سادسا : أنها نظام عالمي صالح لكل زمان و مكان
وأما أهداف هذه السياسة الشرعية الإسلامية فهي أهداف سامية،أهمها:
أولا: إقامة الدين لله وتحقيق العبودية الخالصة لرب العالمين.
ثانياً: إقامة العدل ودفع الظلم عن الناس.
ثالثاً: إصلاح الدنيا وعمارة الأرض.
والمتأمل لمقاصد قواعد النظام السياسي الإسلامي يجده يهدف إلى ثلاثة مقاصد مهمة (درء المفاسد وجلب المصالح والحث على مكارم الأخلاق).
وإما قواعد هذا النظام السياسي فهي الشورى والطاعة والعدل والحرية.
ولهذا يجب أن تكون سياستنا سياسة شرعية قائمة على أصول الكتاب والسنة وان نضع القوانين الملائمة لزماننا ومقتضيات واقعنا الحالي شريطة أن لا نبيح لأنفسنا سنّ قوانين تتعارض مع الشريعة أو مقاصدها، وذلك لتحقيق الغاية والهدف الأسمى وهو إقامة المجتمع المسلم على منهاج النبوة ــ15ــ الخلافة الراشدة) ـ
يتطرق النموذج لعموميات تصلح عناوين كبيرة لبحث ديني لا ينحصر ولا يتخصص في العلوم و المبادئ السياسية ولا يصلح بحال من الأحوال كنظرية سياسية للحكم.ذلك أن القواعد
والأهداف والمهام المطروحة تسبغ الطابع الديني العام المعاد و المكرر عند الإنشاء أو التأسيس لأي من المناهج و العلوم و المعارف الإنسانية من منطلقات إسلامية . فهو يصلح منطلقا لعلم الاجتماع و أساسا لعلم النفس وضابطا لعلوم الاقتصاد ، ومؤسسا لمناهج الثقافة.هكذا هو الحال في غالبية الدراسات الإسلامية الحديثة المتنطعة لشرح و بيان النظرية السياسية للحكم من منظور ديني إسلامي، تضع عناوين وشعارات تصلح لتكون وعاءا ولباسا يوضع فيه ما يتواءم معه و ما يتفق مع التوجهات المرحلية و الإستراتيجية المؤقتة للمستقبل المنظور .

و بالنظر إلى نماذج لمدارس فقهية شيعية :
بكونها نموذج متطور ومحاولة جادة وقيمة ينطوي على إضافة وتجديد هامين إلا أنه يبقى أسير الدليل الشرعي المختلف علية و المتناقض أحيانا عند المرجعيات الشرعية المذهبية
وهو في الواقع يظهر بجلاء ووضوح العملية التركيبة المتبعة من قبل الباحثين الإسلاميين عندما يدخلون أعمق من العناوين و الشعارات و يكونون أكثر تحديدا في مجال البحث و التخصص يلجئون للدراسات و الأبحاث و النظريات الوضعية شرقية كانت أم غربية و يحاولون صبغها أو تلوينها باللون الديني ويمارسون الشرح و التوصيف باعتبارها مباحث و معارف إسلامية ، و إذا كانت تلك الطريقة و ذلك الأسلوب خطوة متقدمة و توجها سليما َ باتجاه البحث العلمي فإن المأخذ الأساس عليها هو محاولة أسلمة النظريات و العلوم بحيث تنطبق عليها محاذير الوقوف عند المرجعيات الدينية فقد يغدو المخالف لما تم تبنيه خارجا عن الدين مفارقا للجماعة ، كما يحظر نقدها أو تخطيئها .
هكذا تستمر إشكالية البحث الديني السياسي و يتفاقم تناقضه مع المفهوم المركزي للسياسة باعتبارها علما و فنا مرنا متغيرا يراعي الحاجات و المصالح البشرية غير ملتزم بثوابت مطلقة غيبية لا تعدل ولا تتغير ومن باب أولى ألا تناقش.

موجز حول مسألة التعددية:
في مجمل بحثنا لنقد نظرية الحكم الإسلامية قدمنا نماذج مطولة من الدراسات و الأبحاث التي تدور في فلك الموضوع و تغوص داخل تفاصيل بنيانه و تراكيبه , وذلك توخيا للموضوعية في الدراسة و البحث ،و نستطيع الوقوف حيال تلك المطروحات بعين التقدير و الاهتمام لما تقدمة من طرح جديد و محاولة لتأسيس نظرية متكاملة تكون ذات مرجعية مقبولة و معتمدة من الأكثرية الملحقة بضرورة سيادية الإسلام السياسي . ولقد سعت الأبحاث المنقولة لإسناد أطروحاتها بالدليل الشرعي من المصادر الأولية الكتاب و السنة و أدلة المذاهب الفقهية و أراء
ومواقف أقطاب الفكر الديني الحديث و المعاصر وذلك بهدف حشد التأيد اللازم و الكافي لتبنيها والتعامل بها .
وبالنظر بعمق نجد بعض المسائل الإشكالية الحائلة دون انتقال تلك النظريات إلى عالم التطبيق و الواقع .فهي بداية مازالت تبحث في أساسيات لعلها باتت مسلمة في علوم السياسة و مناهجها فمثلا لم يتمكن فريق من أقطاب الإسلام السياسي من حسم مسألة التعددية في الحكم دون الخروج من دائرة الدليل أو قيد النص حيث مازال تفسير النصوص محل جدل و اختلاف لم يستقر بعد على رأي أو توافق .مازالت تلك المحاولات الجادة تبحث في قضايا و أمور تجاوزها نظام الدولة المعاصرة و تخطى البحث فيها ، فأشكال المبايعة و الأمارة لم تعد ذات بال في المنظومة السياسية الحديثة للمجتمعات و إذا كانت ما تزال مطروحة و معتمدة في بعض الدول العربية فلا يعني ذلك سوى تخلف تلك الدول و أنظمتها عن ركب العلاقات السوية بين الحاكم المجتمع المدني .
تظهر الأبحاث السياسية الدينية عموما بجلاء محاولة فرش النص و إطالته أفقيا ليكون مناسبا لتغطية وجهة نظر ما في سعي متكلف يظهر العجز عن مغادرة الأنموذج التراثي في الحكم ( استدل القائلون بجواز التعددية: بالقرآن، والسنة، وقواعد الشريعة ومقاصدها، وكذلك بالمعقول:
أولاً: القرآن الكريم:
1. قال الله تعالى: " وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "سورة آل عمرن الآية رقم 104.
وجه الدلالة: يأمر الله تعالى جماعة من المسلمين أن تكون متصدية لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر الرباني يفيد الوجوب في قوله: " وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ " وأمة يقصد بها جماعة، وفي هذا دلالة على مشروعية العمل الجماعي، والناس بطبيعتهم يختلفون في الأفكار والسياسات لتحقيق أهدافهم، فتتشكل الأحزاب السياسية كوسيلة شرعية للقيام بهذه الفريضة.)
كم يبدو التكلف واضحا في إسناد حكم التعددية لآية الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فالآية شديدة العمومية و لم يتطرق أي من التفاسير التقليدية المعروفة ـ عند السنة ـ للوصول إلى تلك الدلالة البعيدة المنال من النص القرآني الكريم .
وللأسف فان حجج المعارضين للتعددية السياسية أقوى و أوضح وأشد، وتمتلك و البراهين المختلفة و المتعددة بدأ من التفاسير المنقولة و الموروثة للنصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وصولا إلى التطبيق العملي تاريخيا في مختلف حقب و عصور الحكم الإسلامي .ويستدل أصحاب الرأي المناهض للتعددية بحزمة واسعة من العناصر تبدأ بقوله تعالى :" إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ "سورة الأنعام الآية رقم 159.
كذلك قوله تعالى : "ولا تكونوا من المشركين* من الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون " سورة الروم الآيتان 31 ـ32
و التوجه العام في الفكر السياسي الديني منصب نحو التوحيد و الوحدة و ينفر من التعدد و الاختلاف وهذا منطق شديد البساطة و الوضوح فالأصل واحد و المرجع معروف ومحدود والاجتهاد يبقى محصورا بالمفهوم الأصولي في حدود الفهم الصحيح القائم على الدليل و مخالفته لا تكون من باب الرأي الأخر بل من نافذة الخروج عن الجماعة.
موجز حول طاعة ولي الأمر :
ولي الأمر مصطلح شديد الأهمية في فقه السياسة الشرعية تقوم على بنيته القواعد و الأسس الناظمة لأنظمة وطرائق وأساليب الحكم الشرعية ن فالخليفة أو الإمام أو الولي وصولا إلى الملك و السلطان قائمون على تنفيذ أوامر و توصيات و توجهات المقام الأعلى وهو الوحي الإلهي وما نزل موازي له ( ألا إني أوتيت القرآن و مثله معه) وعلى مبدأ ضبط العلاقة بين الراعي و الرعية و مهام وواجبات كل منهما دارت الأحكام السلطانية وتطور مفهوم ولي الأمر في المذاهب السنية ليسترسل وصولا إلى أمير الجماعة وقائد الجند وحتى المسئول الموكل من قبل سلطة أعلى لإدارة شأن ما عام أو خاص .في حين تطور ذلك المفهوم في المدارس الشيعية باتجاه معاكس ليضيق ويحصر بالإمامة ووكلائها لحين ظهور المهدي المنتظر ، ويرى بعض علماء التفسير أن ولي الأمر يكون في المرتبة الأولى صاحب العلم و الفقه الشرعي وهذا منطق وسط بين المذاهب فهو يميل نحو الفهم الضيق للمدارس الشيعية و ينفتح نحو الحاكم بوصفة خليفة أو وكيلا لتنفيذ إرادة الوحي عند السنة .
"" ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولى الأمر منكم "" سورة النساء الآية 59
تدل الآية بوضوح على تراتبية في الطاعة فطاعة الله في المقام الأول و منها طاعة الرسول (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )( قل أطيعوا الله و الرسول ) سورة آل عمران الآيتان 31 ـ 32
أما و لي الأمر بمختلف دلالاته فلا طاعة له إلا في حدود طاعة الله فإذا خالف أمر ه فلا طاعة له، ولكن عندما يكتسي ولي الله كسوة العصمة تتبخر تلك القاعدة و ينوب الولي نيابة عامة لا تنتقص
هكذا يتداخل دائما السياسي بالديني و يختلط الأمر الدنيوي بالسماوي وتجد النظريات السياسية الدينية نفسها مضطرة للف والدوران حول نفسها و حول النص في مسعى للخروج من أسره مرة و الاستناد إليه أخرى. لقد وجدنا ضرورة لعرض نماذج مختارة من الأطروحات الحديثة المتناولة للنظرية و النظام السياسي الإسلامي لنكون أكثر موضوعية وأشد قربا وعمقا من مادة بحثا وذلك في محاولة جادة للبعد عن النتائج المسبقة والأحكام النمطية ،وحرصنا على الوصول إلى نتيجة مدعومة بالمعلومة والبحث الأكاديمي .
مجمل القول فإنني أعتقد بأن الحقيقة مسيرة دائمة لا تتوقف، يصعب بل يعجز احتكارها ، وهي في ذات الوقت مجزئة تقبل القسمة و الزيادة والطرح والجمع، متغيرة بقدر ما هي ثابتة ويبقى الإنسان وحريته وكرامته وحقوقه هي القيم الأسمى التي تدور في فلكها.

هوامش :

1 ــ يعرف هشام جعيط القداسة بأنها الشعور بالخوف أمام حضور الجلالة وليست مسألة أخلاقية . كتاب : الوحي القرآن النبوة ـ صفحة 111
2ــ محمد أركون الإسلام و أوربا : ترجمة هاشم صالح 1995
3ـ الشيخ أبو بكر جابر الجزائري العالم المفسر الداعية المصلح رئيس قسم التفسير و أستاذ الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة
4ــ هذه الرواية موجودة في العديد من تفاسير القرآن الكريم الشيعية كتفسير نور الثقلين للحويزي ومجمع البيان للطبرسي و الميزان للطبطبائي
5ــ تفسير فتح القدير لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني ج2ص483
ــ6المصدر السابق المجلد الرابع ص328
ـ 7الميزان في تفسير القرآن للعلامة محمد حسن الطبطبائي النسخة الألكترونية
ـ 8ــ رواه مسلم برقم 153ـوصحح مثله الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 157
ــ 9 ــرسالة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ص4
10ـ ـالدر السنية في الأجوبة النجدية 7/ 239ـ
11ـ تحرير الأحكام صفحة 55
12ــ منهاج السنة 1/142
13ــ جريدة الشرق الأوسط21/8/2003
14ــ كتاب الحكومة الإسلامية للإمام الخميني صفحة 43
51ـ فقه السياسة الشرعية في ضوء الكتاب والسنة : الشيخ ضياء الدين عبد الحميد محمد
اخترنا تلك الصيغة المعبرة عن السياسة الشرعية لكونها مختصرة و تحتوي على كل العناصر المطلوبة بدون إطالة

ليست هناك تعليقات: