السبت، فبراير 23، 2008

العقل العربي و أغلال الفكر الأصولي



إحسان طالب

2008 / 1 / 30

تسيطر الثقافة الأصولية في فضاء الفكر العربي على مجمل مناحي الإبداع و الخلق الأدبي و المعرفي ،و تحتل كتب المرجعيات الدينية قائمة المنشورات و المطبوعات المتداولة في معارض الكتب المفترض أنها بوابة للتعرف على ما جد من نتاج العقل الإنساني.
يختزن العقل العربي كما هائلا متراكما من المنقولات المرجعية تحاصر نزوعه نحو الخلق و الابتكار ، وتثقل كاهله بضوابط صارمة لا تسمح بمرور منتج يخل بتوازناتها و سيطرتها .فقبل الشروع في عملية الخلق يتبادر إلى الذهن فوبيا الوقوع في المحرم ،خاصة و أن التابوهات تمتزج بكل جزيئات الحركة الذهنية وردود الأفعال الوجدانية.
الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي يميل إلى التواصل و الاختلاط و الانسجام داخل مجموعة يشترك معها بكثير أو قليل من الاهتمامات و الصفات و الأفكار، و يفضل البعض العزلة و الإنفراد وهي حالة استثنائية تعود في أغلب الحالات لظروف اجتماعية أو مرضية و أحيانا إبداعية ، إلا أن الوضع الأخير لا يستمر ويرغب المبدع في إيصال ما أنتجه للعالم و إلا غص داخله و خنقه. ترتبط أحكامنا و مواقفنا إلى حد بعيد بخلفيتنا الفكرية وكثير ما نستعرض الصفحة الأولى أو مقدمة الموضوع ولا ندخله ،نرتكب خطأ جسيما بالحكم على النص من خلال مقدمته ، وليس بالضرورة أن يكون المكتوب ظاهر من عنوانه ،هذه القاعدة الشهيرة و السائدة سطحية وخادعة .تلك هي أولى أخطاء النظرة الشمولية العمومية للنقد و النقاش انطلاقا من أيديولوجية دنيوية أو غيبية مغلقة .
الحوار و إبداء الرأي وسماع وجهة نظر الآخرين أهم عوامل النضج و التفتح نحو عوامل جديدة و قيم حقيقية تقرب البشر و تستقطبهم حولها .يتفق الكثيرون مع الظن بأن أبرز عيوب المثقف العربي حساسيته من الرأي المخالف و خشيته من النقد و لذلك مبررات أخلاقية و ثقافية تربوية . فالثقافة العربية ثقافة نص و سماع ، تدور حولهما النشاطات و الإنتاجيات العقلية و الاجتماعية،و يقترن الكتاب بصورة إلزامية في مخيلتنا بالموروث وما يحمله من إبداعات و جماليات و انجاز حضاري و إنساني خلاق .وما يحمله أيضا من تراكمات مقيدة للنهوض المبدع .
لقد تطورت النظرة للتراث في العقود الأخيرة الماضية و بات التراث بمجمله موصوفا بالفكر الديني و أخذ تدريجا يبعد التجديد و التنوير و يقتصر على كتب التعليم و التقليد المذهبي ،حتى كادت الكتب التراثية الجمالية تغيب عن محافل الثقافة و تجمعاتها لتحل محلها كتب تحمل ثقافة أصولية متزمتة تعيد استنساخ مقولات ونظريات عكف العلماء دهرا لتجاوزها و تغليف آثارها السلبية. ومثال ذلك كتب التعصب المذهبي و العقائدي الرائجة من جديد .
و تدور الحوارات و السجالات الفكرية و الثقافية في عمومها في عالمنا العربي حول نص مجتزأ أو فكرة مركزية بطريقة حلزونية و مهما حاولت الدراسات التنويرية الابتعاد تبقى مرتبطة بالمركز لا تملك منه فكاكا ،تجد نفسها مرغمة على دعم نتائج بحثها الفكري بالمدلولات الشرعية تقتنص قولا منها و اجتهادا من هناك و تفسير معزولا لآية أو حديث أو قول تكون النتيجة إبداعا محدود الإطار قاصرا عن استيعاب التغير و التطور قابلا للدحض و التدمير . حتى تلك الدراسات التي كانت بمنأى عن الارتباط الحيوي بالمنقول النصي و ما جاوره كالأبحاث العلمية و الاجتماعية باتت ملزمة بارتداء جبة المراجع و المشايخ لتحظى بالرضا و القبول و الانتشار.ومن ثمة تسبب البعد عن المنهج العلمي و الافتراق عن المسيرة الحضارية العالمية بغربة ترتد إقصاء و عداء ًورغبة شديدة لدى الجمهور في الحفاظ على الهوية المهددة لأسباب علمية بحتة في المقام الأول و نفسية في المقام الثاني .
وتتضامن مخاوف ثلاثة في معمل الإبداع العربي تحاصره و تثقله بقيود تمنعه من التحليق .أولها المخاوف الأمنية المرعبة ذات السيف المسلط فوق رقبته ، وثانيها سيطرة السائد و التقليدي على الأجواء العامة في ذلك الأفق المفترض أنه لا يخضع لاعتبارات الالتزام الديني و المذهبي , وثالثها الكرت الأحمر المتوفر بكثرة في جيوب المشتغلين في الشأن الفكري و الثقافي ، ففي أي خلاف أو تباين في الآراء أو وجهات النظر يلقى في وجه الباحث و الدارس نصوص دينية قطعية لا تحتمل النقاش أو الجدال تنذر الثبور و عظيم الأمور . لقد امتلك المسلمون الأوائل الصدق و الشجاعة و الجرأة ووقفوا في مواجهة النصوص وفهموها كما يريدون و كما تمليه مصالحهم و مصالح رعاياهم . تستلب حالة التخلف و العجز و الضعف المثقف العربي فتثقله بقيود داخلية و أصفاد مجتمعية و أغلال موروثة تحارب النهوض و إبداع و التجديد .يتحمل المثقف مسؤولية مزدوجة بشقين الأول ذاتي تلزمه العمل و البحث المستمر عن الحق و الحقيقة والصواب و ثانيهما مجتمعية تجبره على إرشاد الناس إلى مكامن العجز و أسباب وحقيقة التلف و التقهقر الجمعية المقترنة بدينامية الحراك الفكري العربي الراهن .

ليست هناك تعليقات: