الخميس، يونيو 16، 2005

قوى اليسار الديمقراطي والتيارات الليبرالية مسؤولية بناء دستور علماني وحمايته



ليس خافياً على أي متابع الضرورة البالغة صياغة دستور عراقي علماني ديمقراطي يؤسس لحقبة تاريخية قادمة في مستقبل العراق والدول المجاورة وحتى بقية الدول العربية. حيث سيؤخذ الدستور المنشود نموذجاً ومثالاً يقتدى به كأساس للتغيير في منطقتنا التي تقف على مفترق طرق ليس واضحاً إلى ما ستصل إليه الأوضاع في المستقبل القريب.
وإذا كانت هذه المهمة على قدر كبير من التأثير في الحاضر والمستقبل والداخل والخارج كان من الضروري الوقوف ومراجعة الواقع والمواقف السابقة لتحقيق المنشود في قادمات الأيام.
أثبتت الانتخابات العراقية ونتائجها أن القوى اليسارية والقوى العلمانية الديمقراطية ليس لها تلك القدرة أو الفاعلية المطلوبة حيث نستطيع القول بأن التيارات الدينية القبلية أثبتت وجودها بفاعلية أكبر وهي والحالة هذه ستؤثر إلى حد بعيد على نوعية الدستور وتوجهاته.
ويعد من أولى واجبات القوى العلمانية الديمقراطية واليسارية أن تضع لنفسها مشروعاً وطنياً تبين فيه رؤيتها لبيان الدستور والقيم والمبادئ التي ينبغي تحقيقها والانطلاق منها. ربما كانت ضبابية الرؤيا وتشتت التوجهات وعدم ترتيب الأولويات والحرص على المصالح الحزبية سبباً مؤثراً في تراجع تأثير القوى المذكورة على الشارع العراقي الذي لا يختلف كثيراً عما هو عليه في سوريا مثلاً فالتركيبية الدينية والعشائرية للثقافة الاجتماعية والعقلية السائدة لدى المكونات الفكرية للمجتمعات العربية والأخرى المحيط بها كان لها أكبر الأثر في الاختيارات الانتخابية والتوجهات النهائية للعمل السياسي.
إن تأجيل وإعادة دراسة المنطلقات الفكرية للقوى اليسارية ومراجعة مبادئها وغاياتها على أسس من الحداثة الفكرية والعلمانية بمفاهيمها الجديدة والشاملة ضرورة ملحة لتتمكن من صياغة المشروع السياسي الوطني القادر على استقطاب الشارع وبقايا الأحزاب القومية شبه العلمانية التي إلى الآن ترى نفسها أقرب إلى توجهات التيار الديني الملتوي والمتلون.
إن إدراك حقيقة ابتلاع التيارات الدينية والعشائرية لما يزيد على سبعين بالمئة من أصوات الناخبين يدعو إلى وقفة جادة للبحث عن الأسباب التي أدت بغالبية الناخبين إلى الهروب نحو الأحزاب الدينية.
وهذا يعني القيام بدراسة استقرائية وميدانية لمعرفة إذا ما كان هذا التوجه أصيلاً ومتجذراً أم أنه رد فعل على ما يعتقده غالبية الناس من اعتبار النظام البعثي السابق علمانياً مما رسخ في فكر العامة العداء للعلمانية لارتباطها تاريخياً في العراق وسوريا بقيم الاستبداد والفساد والإجرام وهنا تبدو ضرورة لبيان انفصال العلمانية عن الأنظمة الشمولية والتأكيد بالشرح والتفسير أن النظام البعثي السابق كانت له صفة وحيدة فقط لا يوجد لها مثيل في العالم أجمع وهي بكل وضوح السيطرة واستمرار السيطرة وتوريث القهر والاستبداد وليس لها أية علاقة لا من قريب ولا من بعيد لأية قيم أو مبادئ أو أفكار.
إن استثمار التوجه الديني للنظام البعثي المندحر في العراق بطريقة تؤدي إلى كشف موقف التيار الديني وخاصة السني الذي كان سنداً معنوياً وفكرياً قوياً للنظام الاستبدادي البائد، سيساعد في جذب الناخبين ويدعم توجهات تيارات موجودة وما زالت لم تحسن أمرها بعد.

المشروع السياسي الوطني:
عندما نقول صياغة المشروع السياسي الوطني نقصد يذلك المشروع الذي يشمل كافة أطياف ومكونات المجتمع بل تعقيداته وتنوعه، ونقصد أيضاً انطلاقه من المصالح المباشرة والإستراتيجية للوطن باعتباره أرضاً وشعباً وحضارة. وصياغة مثل هكذا مشروع لا تتحقق إلا إذا كانت المنطلقات الأساسية والمكونات الفكرية له قائمة على أسس علمانية ديمقراطية تتيح للجميع الحفاظ على مكتسباتها السابقة وتكون حامية وحارسة لاستمرار العملية السياسية الديمقراطية بما يتيح في الحاضر والمستقبل استمرار فصل السلطات وتداول الحكم.
ربما كان من الضروري للمساعدة في تحقيق هذه المهمة تأكيد الحوار والانفتاح بين القوى اليسارية الديمقراطية والتيارات الليبرالية وتحقيق التقارب والتوافق بينها للتخفيف من حدة الخلافات النظرية التي كانت تعد دائماً سبباً للتنافر وحتى الاستعداء. إن المصلحة المشتركة في بناء دستور علماني ديمقراطي يوجب على القوى اليسارية أن تفكر بطريقة عملية وتتخلى عن النهج الإيديولوجي الذي جعل الكثير من تلك القوى لا تختلف في نمط تفكيرها وأسلوب معالجتا للقضايا والمشاكل الاجتماعية والسياسية عن الأنظمة الشمولية التي حاربتها لعقود خلت. فالالتزام بالمناهج الأيديولوجية المنغلقة لن يعطي الفرصة لفرز وطرح مشاريع حديثة قادرة على النهوض بالاقتصاد ومواجهة تحديات العولمة والتنافس الدولي التجاري القائم على فلسفة اقتصاد السوق الاستثماري.
لقد آن الأوان لندرك أن تحقيق مستويات عالية من التنمية البشرية والاقتصادية لا يتوفر إلى وفق اقتصاديات حرة واستثمارات نقدية دولية. ولندرك أيضاً أن السعي الدءوب للحفاظ على مصالح الطبقات الأدنى والأفقر في المجتمع لا يتحقق بتكسير وتفكيك الاقتصاديات والاستثمارات الفردية والخاصة. أي بعبارة أخرى لا يصح بحال من الأحوال السعي لتوحيد طبقات المجتمع في الحد المتوسط فذلك لم ولن يتحقق والحل الذي يتيح لكل الطبقات الفرصة لقيام ذاتها وبناء استثماراتها يتم الوصول إليه بالديمقراطية الاقتصادية آخذين بعين الاعتبار الحرص على العدالة الاجتماعية وترك الباب مفتوحاً دائماً للمراقبة والمسائلة وسن القوانين التي تحد من قدرة فرد أو مؤسسة على ابتلاع اقتصاديات المجتمع وتحويل خيرات الوطن إلى قطاع فئوي فردي كما يحدث حالياً في دول عربية ذات أنظمة شمولية حيث يسيطر أفراد معدودون على كل مناح الفاعلات الاقتصادية.

التحالف بين القوى اليسارية والتيار الديني:
في مناسبات عديدة تساءل الكثيرون عن إمكانية وجدوى التحالف بين القوى اليسارية والتيار الديني. وذلك على قاعدة الديمقراطية السياسية التي تعطي الحق للجميع في ممارسة الحكم ومراقبته ومسألته. وإذا كانت الديمقراطية تعطي الحق لكافة القوميات والانتماءات العقائدية في المشاركة بالعملية السياسية والاقتصادية والثقافية. التيار الديني عادة ما يرضى بهذه المنطلقات النظرية ولكن في التطبيق يتحول إلى سلطة شمولية لا تترك مجالاً للرأي الآخر إلى في حدود الدائرة المرسومة بالنصوص والفتاوى والأحكام وأقرب مثال على ذلك إيران حيث لم تنجح التجربة الديمقراطية الإيرانية في إدماج التيارات المختلفة والانتماءات العرقية والعقائدية في العملية السياسية الجارية هناك وتحولت التجربة إلى ديمقراطية المرشد الأعلى الذي يعين الرئيس العام للقضاء ويعين نصف أعضاء مجلس صيانة الدستور الذي يعد السلطة الأقوى بعد المرشد العام.
إن التحالف مع التيارات الدينية لا يحقق إلا مصالحها فقط فهي قادرة على ابتلاع حلفائها أو على الأقل تنحيتهم لأنها في النهاية لا تقبل التعددية الفكرية أو حرية الاعتقاد فذلك ببساطة يتعارض مع أهم وأبسط قناعاتها ألا وهو العقيدة الإيمانية التي ترى في الآخر كافراً يستحق العقاب في الدنيا والنار في الآخرة، وإذا قبلت بالآخر لظروف ضعف أو لتكتيكات مرحلية فإنها لا بد وأن تنبذه عندما تملك القدرة على ذلك.
لذلك أرى أنه من غير المجدي والمفيد التحالف مع التيار الديني وهذا لا يعني معاداته أو محاربته بل لا بد من القبول به وحواره لكي يقبل بالآخر على ما هو عليه. أي الاعتراف بحق وجود تلك الفئة أو الفئات التي لا تنهج ولا تعتقد ببعض قين ومبادئ التيار الديني. فالعلاقة إذا تقوم على أساس من الاعتراف المتبادل والفوارق الحقيقية بين التيارات الدينية والقوى اليسارية وهذا لا يعني عدم وجود تقاطعت أو توافقت مرتبطة بحاضر الوطن ومستقبله إلا أنه ينبغي الحذر من التماهي أو التشابه في العموميات التي لا يختلف أحد عندما تطرح كشعارات غير محددة أو غير واضحة كمفهوم الحرية مثلاً.

خاتمة:
لا بد لقوى اليسار الديمقراطي من التحالف مع التيار اللبرالي الديمقراطي في مواجهة التيارات الدينية من خلال منافسة شريفة مفتوحة ضمن أجواء من الحرية والشفافية تلك التي تتوفر الآن في العراق. لذلك يبدو خطئاً كثيراً ترك الساحة السياسية والشارع الثقافي لأحزاب محدودة ذات طابع ديني وهذا يدعو إلى الاهتمام والعمل مع التجمعات الشعبية والتحرك عبر وسائل الإعلام المختلفة وخاصة تلك التي تصل إلى شريحة أكبر من الناس – كالتلفاز مثلاً- والانخراط في المنظمات الأهلية والمدنية والتجمعات النقابية والثقافية وتأسيس هيئات وتجمعات جديدة آخذة بعين الاعتبار السعي الحثيث لجذب النساء ومشاركتهن الفعالة والاهتمام بضمهن وتحقيق قدرتهن الكبيرة في كل مناحي العمل الثقافي والسياسي والشعبي.
إن التغيير المنشود لم يتوقف عند سقوط النظام البائد بل لا بد من العمل الحثيث والمستمر من أجل التغيير الثقافي والفكري وبناء الفكر النقدي الذي يتخذ العقل قيمة إنسانية لا حدود لها. وهذا العمل يتطلب حشد طاقات المفكرين والكتاب ونشطاء منظمات المجتمع المدني والهيئات الطلابية وجمعيات الاتحاديات الجامعية ذات الصلة المباشرة بشرائح المجتمع ومنتدياته الثقافية والفكرية وهنا أؤكد على دعم المفكرين والكتاب أصحاب الأقلام المتنورة والأخذ بيدها وإتاحة الفرصة لها للمساهمة في ترسيخ قيم ومفاهيم الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان وممارسة حق المواطنة.

ليست هناك تعليقات: