الأربعاء، يونيو 15، 2005

غراميّات الفرزدق وقصاص ابن لادن

إلى أي مدى تكون الإجابة على بعض الأسئلة البسيطة هامة و ذات أثر يتجاوز الزمان و المكان؟ هل الرسالة الإسلامية نفعية للإنسانية جمعاء, أم أنها مجرد علاقة بين الخالق و العباد تنتهي بأداء الفرائض؟ لن تكون الإجابة على تساؤل كهذا صعبة, لذلك سأتوجه نحو سؤال أصعب قليلاً, و الإجابة عليه موضع خلاف وشقاق, رغم أن الإجابة تكون بنعم أو لا. هل من أخطاء المسلمين الفادحة اعتقادهم أن الدين _أي التشريع الديني الموروث فقط_ فيه كل الحلول لكل المشاكل, و كل الأجوبة لكل الأسئلة؟
الواقع, إن الغالبية العظمى من المسلمين يوقنون أن اعتقادهم السابق ليس خطئاً على الإطلاق, بل هو ميزة. و القلة يرون العكس تماماً. و يقولون إن هذا الاعتقاد كان سبباً في محدودية التفكير الإسلامي المعاصر. لذلك لم تسع العامة للبحث خارج الفكر الديني عن أية فكرة أو توجيه لحياتهم, أو النظر نحو أية نظم مبتكرة. و بالتالي كان همهم الوحيد الدفاع عن الأفكار القديمة, و تحميلها ما لا تحمل. و بهذا انحسرت وظيفة العقل و غدا واجبه الأول العمل و البحث في إيجابيات الموروث و محاسنه, و درء الشبهات عنه و الذود عن حياض السلف.
و للمساعدة في تحديد موقف واضح مما سبق نستعرض بعض الأمثلة ذات الدلالة غير المباشرة, علها تأخذ بيدنا نحو المضي في بحثنا, و تهيئ لنا المناخ للخوض أعمق نحو إجابات واضحة و صريحة.
فمثلاً عمر بن الخطاب (رض) كان يخشى البحر, و يشفق على جنود المسلمين من الخوض فيه, لكن تاريخ غزوات المسلمين البحرية أثبت خلاف رؤية عمر. أيضاً كان الفاروق لا يحبذ غزو الترك, اعتماداً على أحاديث نبوية. لكن و كما هو معلوم, إن المسلمين غزوا الترك, و فتحوا بلادهم و انتهت الخلافة إليهم. و من هذا القبيل نذكر هنا إن عمر بن عبد العزيز كان يعارض غزو أسبانيا. و الحضارة الإسلامية هناك حققت نجاحات باهرة ما زال المسلمون يفاخرون بها في كل مناسبة. و هذا يعني أن رؤية عمر بن عبد العزيز كانت خاطئة في هذا المجال. بعد هذه الأمثلة لعله من المفيد هنا طرح السؤال التالي: لماذا قام المسلمون في عهد المأمون و في عهد الأندلس بترجمة كل ما وصل إلى أيديهم من كتب الرومان و اليونان إلى العربية, و من ضمن ذلك كتب الفلسفة و اللاهوت؟
بعد تلك المقدمة نصل إلى لب الموضوع الذي يتناول قضية هامة, يعد بحثها و من ثمة حل معضلتها سببا حاسما في النظر بواقعية و تجدد نحو مستقبل مختلف تماما. و سنطرح مسألتنا على شكل تساؤلات و هي : هل هناك أحكام شرعية منصوص عليها توَقـّف العمل بها رغم بقاء حكمها, والنصوص الدالة عليها. و هل حقا استطاع المسلمون بعد قرون طويلة تنفيذ كل ما ورد إليهم من أحكام فقهية, و أصبحوا الآن قادرين على تسيير حياتهم بالكامل وفقا لما قرره علماء الشريعة المعاصرون و الفقهاء الأقدمون؟ قد تكون الإجابة بسيطة و قوية لا لبس فيها, لكننا لن نتسرع في الرد, بل سنقوم بفتح نوافذ نطل من خلالها على بعض النظم و الأحكام الشرعية بنظرات محايدة و عقول منفتحة, خلافا لما جرت عليه العادة في مجتمعاتنا الحديثة. _و أقصد هنا الحداثة الزمنية فقط_ نظرات من الخارج إلى الداخل لا تتبنى أحكاما مسبقة أو تقييمات جاهزة. و ذلك في تجربة جديدة ربما استطعنا من خلالها فتح آفاق جديدة أكثر رحابة و أقل إعاقة.
نظرات في سورة الأحزاب :
سورة الأحزاب مدنية أي نزلت في المدينة المنورة. و كانت تعادل سورة البقرة, أي ما يقارب المائتي آية. فنسخ منها. و لم يبق منها إلا ثلاث وسبعون آية. أخرج أبو عبيد في الفضائل و ابن الأنباري و ابن مرودية عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي (ص) مائتي آية, فلما كتب عثمان المصاحف لم يقرر منها إلا ما هو الآن.(1)
بعملية حسابية بسيطة يظهر التالي:
تمّ نسخ ما يعادل 7% من القرآن الكريم, في سورة الأحزاب وحدها. ومّما نسخ في سورة الأحزاب آية رجم الشّيخ و الشّيخة إذا زنيا.
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس أنّ عمر بن الخطاب قام فحمد الله, وأثنى عليه. ثمّ قال: أمّا بعد, أيّها النّاس: إنّ الله بعث محمّداً بالحق, وأنزل عليه الكتاب. فكان فيما أنزل عليه آية الرّجم. فقرأناها ووعيناها «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم« رجم رسول الله (ص) ورجمنا بعده. فأخشى أن يطول بالناس زمان يقول قائل: لا نجد آية الرّجم في كتاب الله, فيضلوا بذلك فريضة أنزلها الله. انتهى. فرجم الشيخ والشيخة, أي كبار السّن, إذا زنيا فريضة من الله. والرّجم هو الرّمي بالحجارة حتى الموت للزاني المحصن. وهذا حكم معطل بفعل الزمان. ولن يكون تطبيقه مقبولاً, حتى لو أخذنا بنصيحة بعض العارفين, الذين قالوا ينفذ الحكم لبعض الوقت ليكون ردعاً, ثمّ يوقف. ويعاد العمل به إذا استشرى الوباء.
والواقع, إنّ تنفيذ حكم الرّجم لم يردع عنه فعل الزنى. فها هو عمر بن الخطاب (رض) يقول: رجم رسول الله (ص) ورجمنا بعده. أي إنّ تنفيذ الرّجم في عهد النبي (ص) لم يمتع وقوعه في عهد من بعده من الخلفاء, الذين رجموا كما رجم رسول الله (ص).
والسؤال هنا: منذ متى لم يطبّق حكم الرّجم بين المسلمين في بلاد المسلمين وفي غيرها؟ مرّت مئات طويلة من السّنين لم ينفذ, حتى جاء المذهب الابن لادنيّ, وطبّقه في أفغانستان. وزال اللادنيون من الحكم, ولم يطبق عند غيرهم.
نظرات في أحكام الأسرى:
سورة الأنفال, الآية (67) حتى (71) : «ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يتخن في الأرض... «
قال الشوكاني في فتح القدير: ومعنى ما كان لنبيّ, أي ما صحّ له, وما استقام. الإثخان, كثرة القتل والإثخان فيه... وقيل معنى الإثخان, التمكّن ومنه القوّة...
أخبر الله سبحانه أن قتل المشركين يوم بدرٍ كان أولى من أسرهم و فدائهم. ولما كثر المسلمون رخص الله في ذلك. فقال «فإمّا مناً بعدُ و إمّا فداء«.
رغب عمر بن الخطاب بشدّة في قتل الأسرى. فكرّر النبي السّؤال عمّا نفعله في الأسرى. فتنبّه أبو بكر إلى أنّ النّبيّ (ص) يريد رأياً آخر, فقال أبو بكر نرى أن نعفو عنهم وتقبل الفداء. وطالب عبد الله بن رواحة بإحراقهم... وكان بينهم العبّـاس عمّ النبي, وعقيل بن أبي طالب, ابن عمّ النبيّ (ص).
شبّه النبيّ أبا بكرٍ بإبراهيم, عليه السّلام. الذي قال: من تبعني فإنّه مني ومن عصانيّ فإنّك غفورّ رحيم. وشبّهه بعيسى عليه السّلام الذي قال: إن تعذبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك غفور رحيم. وشبّه عمر بن الخطاب بنوح عليه السّلام, حين قال: ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا. وشبّهه بموسى عليه السّلام حين قال: ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
لما علم النبي (ص) أن العبّاس بين الأسرى, وأن الأنصار وعدوا بقتله, خشي النبي على العبّاس. فذهب عمر وأحضر العبّاسمن بين الأسرى. وطلب منه الإسلام. وقال عمر للعبّاس: يا عباس أسلم. فوالله إن تسلم أحبّ إليّ من أن يسلم الخطاب (والد عمر).
قال المفسرون:
إنّ الله غفر له , وسامحهم على عدم قتل الأسرى وقبول الفداء منهم, بسبب عدم علمهم بحرمة الأمر, أي بحرمة العفو عن أسرى بدر. وذلك قبل ورود الرّخصة فيما بعد.
قال ابن عبّاس: سبقت لهم الرحمة من الله, قبل أن يعملوا بالمعصية.
إذاً العبّاس دون غيره عُرض عليه الإسلام, أنّه أسلم بعد ذاك, بل بعد الفداء. ودفع الفداء عنه وعن عقيل بن أبي طالب.
ولمّا جاء النبيّ بعد زمن مالٌ من البحرين أتاه العبّاس فقال: يا رسول الله, إني دفعت فدائي وفداء عقيلٍ يوم بدر. أعطني من هذا المال. فقالَ: خذ,فحثا في خميصته ثمّ ذهب_أي العبّاس_ ينصرف, فلم يستطع_أي من ثقل الحمل_ فرفع رأسه وقال يا رسول الله ارفع عليّ. فتبسّم رسول الله (ص), وذهب العبّاس.
يبدو جليّا أنّ الحكم تغيّر تغيُّراً جذريّاً. فبعد غزوة بدر تغيّر الحكم وصار على الشّكل التالي:
«فإمّا منّاً بعدُ وإمّا فداء«. فهل يصحّ أو يعقل أن يأتي عالم ويقول: إنّ حكم قتل الأسرى مازال جارياً, ويقوم بتنفيذ ذلك. وهذا ما وصل إليه اجتهاد الزرقاويّين في العراق اليوم, فهم حسب زعمهم ينفّذون حكم الله في الإثخان بالأسرى._وهو كما مرّ معنا كثرة القتل و المبالغة فيه_
فهل يقبل أن يكون هذا الحكم ظرفياً, مقترناً بالظروف المشابهة للذي كان منذ خمسة عشر قرناً؟ عندها نقرّر إعادة تطبيق حكم الإثخان بالأسرى.
يذكر التاريخ أن الحسن البصري كان يناقش الزّنادقة في وجود الله ضمن مساجد البصرة. وتبهرنا أشعار الفرزدق, وهو يتحدّث عن غرامياته المحرّمة, والتي ينشرها على الملأ. رغم أنّه يعدّ الناطق الإعلامي الرّسميّ للدّولة الأمويّة آنذاك. وليس ببعيدٍ عنه زمنيّاً ما كان يفصح عنه أبو نوّاس, شارحاً عشقه الغريب, ونوادي الشّراب التي لا تنتهي. وكلّ ذلك مدوّن, معلوم وشائع لا تعتيم عليه ولا تبرير.
أريد ممّا سبق الوصول إلى أنّ الحرّيّة الفكريّة والحرّيّة الشّخصيّة كانت سائدة, ومعروفة في عهود كان فيها المسلمون أقرّب منا كثيراً إلى مهد الرِّسالة. وكانوا أيضاً من أقطاب العالم الرّئيسيّة, يحسب لهم ألف حساب. ولا أعني بهذا أننا نعيش في أحسن حال, أننا خيار الخيار, بل أريد التأكيد على ضرورة التغيير من منطلقات علميّة, وآراء نقدية جريئة وصريحة. وبيان أنّ ما نعاصر من قيود على الرّأي والفكر, ليس من الدُّول, فهذا أمر مفروغ منه, بل من الشّعوب أيضاً. فنحن في زمن تحاصر العامّة فيه كلّ فكرة نيِّرة, أو رأي جديد, وتضربه بالنّار والحديد.

ليست هناك تعليقات: