التحالف بين التيار الديني و الأنظمة الشمولية الفردية
عندما جاء البعث إلى الحكم من خلال انقلاب آذار 1963 رفع شعار الحرية والاشتراكية و اعتبر التيار الديني رجعياً برجوازياً معادياً للثورة و بأيديولوجية صارمة أخذت السلطة الجديدة بتصفية الثقافة الدينية لتحل محلها الثقافة القومية و لم تنجح هذه السياسة سوى في مزيد من تقوقع المتدينين داخل فكر يميل إلى الانغلاق و استعداء المجتمع و الدولة. و كرد على مصادرة الحريات من قبل النظام البعثي لجأ التيار الديني إلى تشكيل تنظيمات سرية و ضعت نصب عينها الوصول إلى السلطة و تغيير النظام القائم و تأجل الصراع المرير بسبب نكسة حزيران و إبان فترة التصارع على السلطة حتى عام 1970 و انتظر المتدينون مع غيرهم التغيير و جاءت حرب تشرين لتأجل المشروع الوطني إلى أن تفجر الصراع الدامي في نهاية السبعينيات.
و بعد ما تمت إزالة آثار الحرب رفعت السلطة شعار لا حياة في هذا البلد إلا للتقدم و الاشتراكية و كانت تعني الموت لكل من يفكر في الوصول إلى السلطة من خارج النظام و في بداية عقد الثمانينيات خمد التيار الديني وتوارى عن الساحة السياسية ثم ما لبث أن ظهرت شخصيات مثل الشيخ أحمد كفتارو و الأستاذ سعيد البوطي قادرة على لعب دور في المصالحة بين النظام و المتدينين على أساس ارتباط القومية بالدين لكن تلك النخبة المتدينة لم تستطع تأسيس فكر ديني قادر على الولوج في العمل السياسي بمعزل عن السلطة و تم الدمج بين السلطة الشمولية و التيار الديني الحكومي الصاعد.
و من أجل البعد عن الأنظمة الديكتاتورية تحاشياً لبطشها و قمعها جاءت المدرسة السننية الاجتهادية بمطروحات متقدمة رداً على كتابات و دراسات كانت تطرح حلاً وحيداً لكل الأزمات و المشاكل الوطنية و الكونية المتمثل في العودة إلى النص المقدس
(لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها و لم يصلح أولها إلا بالعودة إلى الكتاب و السنة)
و رأت المدرسة الجديدة التي أسسها مالك بن نبي و أحياها جودت سعيد في كتابه (حتى يغيروا ما بأنفسهم) البحث عن حلول حقيقية تقترب أكثر من العلم و العقل و ذلك في مواجهة المدرسة التقليدية و روادها أبو الأعلى المودودي الباكستاني و أبو الحسن الندوي الهندي و سيد قطب المصري.
و بدأ يلوح في الأفق منهج التغيير و السنن كثورة فكرية قادرة على تقديم مفاهيم جديدة و رؤية حديثة تطرح الفكر الديني في قوالب متجددة بما تحمله من عودة إلى النهج العلمي و فتح مباشر لباب الاجتهاد الموصد إلا أنها لم تلقَ الدعم و الاستمرار و لم تأخذ القدر الكافي من الاهتمام من أجل صياغة نظرية إسلامية جديدة قادرة على التعامل مع المتغيرات الاقتصادية و الدولية, و تم الالتفات عليها و نقدها من أصحاب المدرسة السلفية (الشيخ ناصر الألباني) و الأخرى المذهبية التقليدية (الشيخ صالح فرفور) و تم الانعطاف للتيار الديني الشعبي في اتجاه الأصولية التي ترى الحلول عاطفية و غيبية.
و عاد الغزل بين السلطة الفردية و التيار الديني و أخذ أشكالاً أقرب ما تكون إلى المصالحة و تبادل المنافع. و تحولت استراتيجيات الديكتاتوريات الحاكمة في البلاد العربية من الصراع مع الحركات الإسلامية إلى الاستفادة منها و تبادل المنافع و المساعدات على حساب الشعوب, فبدلاً من التضارب و الصراع و التيار الديني اقتنع هذا التيار بالسماح له بتعميم مظاهر التدين في المجتمعات مقابل المساهمة في تهميش الناس و إخراجهم من اللعبة السياسية و إبعادهم عن العمل الثقافي و تغييب كامل لمفاهيم المجتمع المدني و حقوق الإنسان و إفراغ مفاهيم الحرية في الفساد و التحلل الأخلاقي. و حصر مواقف المتدينين في قوالب عاطفية تذرف الدمع عند سماع ((إن عذاب ربك لشديد)) و لا تحرك ساكناً أمام هدر حياة الآلاف من أبناء الوطن والسكوت المطبق عن النهب المنظم لموارد البلد, بحجة الحصول من السلطة على مزيد من المزايا فانتشرت المعاهد الدينية تحت و فوق و جنب كل مسجد و ازدهرت الجمعيات الخيرية التي يتم تقاسم أرباحها و تم إعداد تنظيم محكم لبناء مئات المساجد الجديدة و ما يترتب على ذلك من منافع مادية لأركان النظام و رموز المتدينين.
وهكذا صارت العلاقة جدلية و وجدت السلطة الفردية فائدة عظمى من انتشار تيار ديني عام مغفل و منفعل بقوة في نفس الوقت فالثقافة المشايخية تسوغ مفاهيم الرضوخ و الذل و كل أنواع التمييز و الظلم الاجتماعي و الاقتصادي تحت مبدأ ((و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)) الشورى_30_
فالنظام الحاكم ليس مسئولا عن أي شيء من المآسي و العذابات التي يعيشها الناس بل الذنوب و البعد عن منهج التقوى هو الذي يؤدي إلى حياة العذاب و الشقاء ((و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)) طه_124_
و هكذا ينم تأويل و توظيف كل المأثور لصالح الاستمرار في نهج الخدمات المتبادلة بين الحكام و أئمة المساجد و المعاهد. فتغيير ما في النفس قائم أساساً على تطهيرها من الذنوب و المعاصي و كلما ازداد الخشوع في الصلاة و إطالة السجود و الركوع و قيام الساعات الطويلة في الليل أدى ذلك إلى تغيير الأوضاع المنحرفة لأن تغيير ما في النفس يغير الواقع. هكذا تختزل القيم الكبرى و تختصر في حركات و أقوال. يقول محمد الغزالي: (إنه من الظلم للحقيقة الكبرى أن تتحول إلى أسطورة خارقة)ا.ه
يسعى المشايخ إلى جمع الناس و تركيز اهتماماتهم نحو الغيب و معالجة هموم الواقع بالهروب منه و طلب الحل المعجز من السماء ففي سنسن الجفاف تتم الدعوة إلى الخشوع و البكاء و صلاة الاستسقاء و إظهار الخضوع للخالق و الوقوف في العراء و رفع اليد و الصوت بالدعاء لإنزال الغيث, لقد ورد عن النبي صلاة الاستسقاء لكنها كانت الحل الوحيد. في منتصف السبعينيات أوجد علماء الروس نظاماً علمياً للاستمطار و حقق هذا البرنامج نجاحات كبرى و ما زال يتطور أما في بلدنا فعندما يتأخر موسم الأمطار ينبري المشايخ لتحميلنا المسؤولية فالنساء الكاسيات العاريات و الشباب الفاسد المتعلق بالموسيقا و الرياضة و الانصراف عن الاعتكاف في المساجد و قضاء الساعات الطويلة خلف الكومبيوتر هو السبب في انقطاع الغيث من السماء.
و بهذا تبرأ ساحة السلطة الحاكمة تماماً فلا السياسات الملوثة للبيئة و لا التصحر و لا قطع ملايين الأشجار من المدن و جلب الآلاف من الحافلات التي تبث السموم و تفسد السماء له أي أثر فهنيئاً للأنظمة بأئمة التيار الديني الذي لديه العصا السحرية لتبريء ساحتها و إلقاء اللوم على عامة الناس بتردي الأوضاع الإنسانية و المعيشية التي تعيشها الشعوب.
و في السنوات الأخيرة أخذ التحالف بين التيار الديني و السلطة بعداً أيديولوجياً و التقاءً عقائدياً راسخاً و تداخلت السياسات البراغماتية للنظام مع مصالح أئمة التيار و أتباعه فخطباء المساجد و علماء الدروس دأبوا على ترسيخ مبادئ الخضوع المطلق نحو القائد الأعلى تحت ذريعة محاربة الخارج الكافر الذي يحيك المؤامرات و يسعى لاقتلاع الدين من جذوره و تدمير العقيدة و هدم الأخلاق. فكل الغضب و السخط ينبغي توجيهه نحو الأعداء المتربصين بنا و الخطر الداهم يقضي بنسيان الحقوق المهدورة و المسلوبة للوطن و المواطن في الداخل و التفرغ للعدو الكافر الغاشم الذي ينتظر على الأبواب. و بهذا تفرغ دعاوى الإصلاح السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و تغدو المطالبة بحقوق المواطن في الحرية و الديموقراطية ذنباً و إثماً عظيماً, فالغالي و الرخيص يهون أمام الرباط في سبيل الله و صد الغزو الخارجي و هذا هو الواجب الديني الأول في هذه المرحلة (و في كل المراحل السابقة أيضاً).
إن الشكوك التي يبديها التيار العلماني الليبرالي في بلدنا تجاه تحركات التيار الديني ليست تاريخية أو أيديولوجية إنما هي مخاوف أوجدتها نتائج ملموسة و تجارب معاشة في الماضي القريب و الحاضر الراهن. لكن ذلك لا يعني رفض الحوار أو التعاون بقدر ما يعني السعي لإحياء تفاهمات و توافقيات على أسس و قيم و مبادئ مشتركة موجودة في طيات الفكر الديني كانت محركاً فعالاً في مراحل تاريخية ضد الظلم و الاستبداد.
عندما نقف جميعاً على مسافة واحدة من الرغبة الحقيقية في التعاون من أجل التغيير فإن كثيراً من الاختلافات ستذوب و سيذكر التاريخ قريباً أن أبناء سورية استطاعوا النهوض بتفكيرهم و أحلوا العقلانية في حوارهم حتى تمكنوا من إعادة الحقوق إلى نصابها و بناء سورية وطناً حراً ديمقراطياً يتساوى فيه أبناء الشعب الحضاري الذي عرف أول مجلس نيابي عربي منتخب عام 1956 تمثلت فيه كل أطياف الوطن السياسية و العرقية و الدينية.. كانت اللوائح الانتخابية آنذاك تفصل على أسس وطنية تتجاوز الاختلافات العقائدية و المذهبية,فكتلة فارس الخوري الوطنية تفوقت على كتلة مصطفى السباعي الدينية. إنه نموذج ما زال حياً يستذكره أبناء سورية كما يستذكره البعثيون حيث كانوا ممثلين في ذلك المجلس و هم قبل غيرهم يعلمون إلى أي حد كانت الانتخابات آنذاك حرة و ديمقراطية و هذا لا يعني أن تلك الحقبة كانت منزهة عن الأخطاء و العيوب لكنها كانت الأفضل بدون شك.
إن تعاون كافة الأطياف السورية الساعية للتغيير من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مهم جداً و سيساهم في حماية الوطن من التجارب السابقة الخاطئة التي أدت إلى الكوارث في أوائل الثمانينيات.
فالعمل على أسس علنية واضحة سلمية تنبذ العنف و تلغي التغيير بالقوة و تبتعد عن كل ما يسيء لوطنيتها وتؤمن بالمساواة و التعددية و تعترف بالفسيفساء العرقي و الفكري و الديني السوري هي الضمانة الوحيدة للحفاظ على بلدنا الحبيب من الكوارث و العواصف الخارجية والاضطرابات الداخلية.
عندما جاء البعث إلى الحكم من خلال انقلاب آذار 1963 رفع شعار الحرية والاشتراكية و اعتبر التيار الديني رجعياً برجوازياً معادياً للثورة و بأيديولوجية صارمة أخذت السلطة الجديدة بتصفية الثقافة الدينية لتحل محلها الثقافة القومية و لم تنجح هذه السياسة سوى في مزيد من تقوقع المتدينين داخل فكر يميل إلى الانغلاق و استعداء المجتمع و الدولة. و كرد على مصادرة الحريات من قبل النظام البعثي لجأ التيار الديني إلى تشكيل تنظيمات سرية و ضعت نصب عينها الوصول إلى السلطة و تغيير النظام القائم و تأجل الصراع المرير بسبب نكسة حزيران و إبان فترة التصارع على السلطة حتى عام 1970 و انتظر المتدينون مع غيرهم التغيير و جاءت حرب تشرين لتأجل المشروع الوطني إلى أن تفجر الصراع الدامي في نهاية السبعينيات.
و بعد ما تمت إزالة آثار الحرب رفعت السلطة شعار لا حياة في هذا البلد إلا للتقدم و الاشتراكية و كانت تعني الموت لكل من يفكر في الوصول إلى السلطة من خارج النظام و في بداية عقد الثمانينيات خمد التيار الديني وتوارى عن الساحة السياسية ثم ما لبث أن ظهرت شخصيات مثل الشيخ أحمد كفتارو و الأستاذ سعيد البوطي قادرة على لعب دور في المصالحة بين النظام و المتدينين على أساس ارتباط القومية بالدين لكن تلك النخبة المتدينة لم تستطع تأسيس فكر ديني قادر على الولوج في العمل السياسي بمعزل عن السلطة و تم الدمج بين السلطة الشمولية و التيار الديني الحكومي الصاعد.
و من أجل البعد عن الأنظمة الديكتاتورية تحاشياً لبطشها و قمعها جاءت المدرسة السننية الاجتهادية بمطروحات متقدمة رداً على كتابات و دراسات كانت تطرح حلاً وحيداً لكل الأزمات و المشاكل الوطنية و الكونية المتمثل في العودة إلى النص المقدس
(لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها و لم يصلح أولها إلا بالعودة إلى الكتاب و السنة)
و رأت المدرسة الجديدة التي أسسها مالك بن نبي و أحياها جودت سعيد في كتابه (حتى يغيروا ما بأنفسهم) البحث عن حلول حقيقية تقترب أكثر من العلم و العقل و ذلك في مواجهة المدرسة التقليدية و روادها أبو الأعلى المودودي الباكستاني و أبو الحسن الندوي الهندي و سيد قطب المصري.
و بدأ يلوح في الأفق منهج التغيير و السنن كثورة فكرية قادرة على تقديم مفاهيم جديدة و رؤية حديثة تطرح الفكر الديني في قوالب متجددة بما تحمله من عودة إلى النهج العلمي و فتح مباشر لباب الاجتهاد الموصد إلا أنها لم تلقَ الدعم و الاستمرار و لم تأخذ القدر الكافي من الاهتمام من أجل صياغة نظرية إسلامية جديدة قادرة على التعامل مع المتغيرات الاقتصادية و الدولية, و تم الالتفات عليها و نقدها من أصحاب المدرسة السلفية (الشيخ ناصر الألباني) و الأخرى المذهبية التقليدية (الشيخ صالح فرفور) و تم الانعطاف للتيار الديني الشعبي في اتجاه الأصولية التي ترى الحلول عاطفية و غيبية.
و عاد الغزل بين السلطة الفردية و التيار الديني و أخذ أشكالاً أقرب ما تكون إلى المصالحة و تبادل المنافع. و تحولت استراتيجيات الديكتاتوريات الحاكمة في البلاد العربية من الصراع مع الحركات الإسلامية إلى الاستفادة منها و تبادل المنافع و المساعدات على حساب الشعوب, فبدلاً من التضارب و الصراع و التيار الديني اقتنع هذا التيار بالسماح له بتعميم مظاهر التدين في المجتمعات مقابل المساهمة في تهميش الناس و إخراجهم من اللعبة السياسية و إبعادهم عن العمل الثقافي و تغييب كامل لمفاهيم المجتمع المدني و حقوق الإنسان و إفراغ مفاهيم الحرية في الفساد و التحلل الأخلاقي. و حصر مواقف المتدينين في قوالب عاطفية تذرف الدمع عند سماع ((إن عذاب ربك لشديد)) و لا تحرك ساكناً أمام هدر حياة الآلاف من أبناء الوطن والسكوت المطبق عن النهب المنظم لموارد البلد, بحجة الحصول من السلطة على مزيد من المزايا فانتشرت المعاهد الدينية تحت و فوق و جنب كل مسجد و ازدهرت الجمعيات الخيرية التي يتم تقاسم أرباحها و تم إعداد تنظيم محكم لبناء مئات المساجد الجديدة و ما يترتب على ذلك من منافع مادية لأركان النظام و رموز المتدينين.
وهكذا صارت العلاقة جدلية و وجدت السلطة الفردية فائدة عظمى من انتشار تيار ديني عام مغفل و منفعل بقوة في نفس الوقت فالثقافة المشايخية تسوغ مفاهيم الرضوخ و الذل و كل أنواع التمييز و الظلم الاجتماعي و الاقتصادي تحت مبدأ ((و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)) الشورى_30_
فالنظام الحاكم ليس مسئولا عن أي شيء من المآسي و العذابات التي يعيشها الناس بل الذنوب و البعد عن منهج التقوى هو الذي يؤدي إلى حياة العذاب و الشقاء ((و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)) طه_124_
و هكذا ينم تأويل و توظيف كل المأثور لصالح الاستمرار في نهج الخدمات المتبادلة بين الحكام و أئمة المساجد و المعاهد. فتغيير ما في النفس قائم أساساً على تطهيرها من الذنوب و المعاصي و كلما ازداد الخشوع في الصلاة و إطالة السجود و الركوع و قيام الساعات الطويلة في الليل أدى ذلك إلى تغيير الأوضاع المنحرفة لأن تغيير ما في النفس يغير الواقع. هكذا تختزل القيم الكبرى و تختصر في حركات و أقوال. يقول محمد الغزالي: (إنه من الظلم للحقيقة الكبرى أن تتحول إلى أسطورة خارقة)ا.ه
يسعى المشايخ إلى جمع الناس و تركيز اهتماماتهم نحو الغيب و معالجة هموم الواقع بالهروب منه و طلب الحل المعجز من السماء ففي سنسن الجفاف تتم الدعوة إلى الخشوع و البكاء و صلاة الاستسقاء و إظهار الخضوع للخالق و الوقوف في العراء و رفع اليد و الصوت بالدعاء لإنزال الغيث, لقد ورد عن النبي صلاة الاستسقاء لكنها كانت الحل الوحيد. في منتصف السبعينيات أوجد علماء الروس نظاماً علمياً للاستمطار و حقق هذا البرنامج نجاحات كبرى و ما زال يتطور أما في بلدنا فعندما يتأخر موسم الأمطار ينبري المشايخ لتحميلنا المسؤولية فالنساء الكاسيات العاريات و الشباب الفاسد المتعلق بالموسيقا و الرياضة و الانصراف عن الاعتكاف في المساجد و قضاء الساعات الطويلة خلف الكومبيوتر هو السبب في انقطاع الغيث من السماء.
و بهذا تبرأ ساحة السلطة الحاكمة تماماً فلا السياسات الملوثة للبيئة و لا التصحر و لا قطع ملايين الأشجار من المدن و جلب الآلاف من الحافلات التي تبث السموم و تفسد السماء له أي أثر فهنيئاً للأنظمة بأئمة التيار الديني الذي لديه العصا السحرية لتبريء ساحتها و إلقاء اللوم على عامة الناس بتردي الأوضاع الإنسانية و المعيشية التي تعيشها الشعوب.
و في السنوات الأخيرة أخذ التحالف بين التيار الديني و السلطة بعداً أيديولوجياً و التقاءً عقائدياً راسخاً و تداخلت السياسات البراغماتية للنظام مع مصالح أئمة التيار و أتباعه فخطباء المساجد و علماء الدروس دأبوا على ترسيخ مبادئ الخضوع المطلق نحو القائد الأعلى تحت ذريعة محاربة الخارج الكافر الذي يحيك المؤامرات و يسعى لاقتلاع الدين من جذوره و تدمير العقيدة و هدم الأخلاق. فكل الغضب و السخط ينبغي توجيهه نحو الأعداء المتربصين بنا و الخطر الداهم يقضي بنسيان الحقوق المهدورة و المسلوبة للوطن و المواطن في الداخل و التفرغ للعدو الكافر الغاشم الذي ينتظر على الأبواب. و بهذا تفرغ دعاوى الإصلاح السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و تغدو المطالبة بحقوق المواطن في الحرية و الديموقراطية ذنباً و إثماً عظيماً, فالغالي و الرخيص يهون أمام الرباط في سبيل الله و صد الغزو الخارجي و هذا هو الواجب الديني الأول في هذه المرحلة (و في كل المراحل السابقة أيضاً).
إن الشكوك التي يبديها التيار العلماني الليبرالي في بلدنا تجاه تحركات التيار الديني ليست تاريخية أو أيديولوجية إنما هي مخاوف أوجدتها نتائج ملموسة و تجارب معاشة في الماضي القريب و الحاضر الراهن. لكن ذلك لا يعني رفض الحوار أو التعاون بقدر ما يعني السعي لإحياء تفاهمات و توافقيات على أسس و قيم و مبادئ مشتركة موجودة في طيات الفكر الديني كانت محركاً فعالاً في مراحل تاريخية ضد الظلم و الاستبداد.
عندما نقف جميعاً على مسافة واحدة من الرغبة الحقيقية في التعاون من أجل التغيير فإن كثيراً من الاختلافات ستذوب و سيذكر التاريخ قريباً أن أبناء سورية استطاعوا النهوض بتفكيرهم و أحلوا العقلانية في حوارهم حتى تمكنوا من إعادة الحقوق إلى نصابها و بناء سورية وطناً حراً ديمقراطياً يتساوى فيه أبناء الشعب الحضاري الذي عرف أول مجلس نيابي عربي منتخب عام 1956 تمثلت فيه كل أطياف الوطن السياسية و العرقية و الدينية.. كانت اللوائح الانتخابية آنذاك تفصل على أسس وطنية تتجاوز الاختلافات العقائدية و المذهبية,فكتلة فارس الخوري الوطنية تفوقت على كتلة مصطفى السباعي الدينية. إنه نموذج ما زال حياً يستذكره أبناء سورية كما يستذكره البعثيون حيث كانوا ممثلين في ذلك المجلس و هم قبل غيرهم يعلمون إلى أي حد كانت الانتخابات آنذاك حرة و ديمقراطية و هذا لا يعني أن تلك الحقبة كانت منزهة عن الأخطاء و العيوب لكنها كانت الأفضل بدون شك.
إن تعاون كافة الأطياف السورية الساعية للتغيير من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مهم جداً و سيساهم في حماية الوطن من التجارب السابقة الخاطئة التي أدت إلى الكوارث في أوائل الثمانينيات.
فالعمل على أسس علنية واضحة سلمية تنبذ العنف و تلغي التغيير بالقوة و تبتعد عن كل ما يسيء لوطنيتها وتؤمن بالمساواة و التعددية و تعترف بالفسيفساء العرقي و الفكري و الديني السوري هي الضمانة الوحيدة للحفاظ على بلدنا الحبيب من الكوارث و العواصف الخارجية والاضطرابات الداخلية.