تسيطر على عقولنا نحن العرب مجموعة من المسلمات و البديهيات تعد أساسا ً و قاعدة لمواقفنا وآرائنا تجاه الآخرين و تجاه قضايانا المزمنة و المعاصرة و من ذلك قناعتنا الراسخة بأننا أفضل الأمم و خير أمة حاضرا ً و ماضيا ً و مستقبلا ً و للحفاظ على هذا الوهم نقوم كأفراد و مؤسسات و حتى حكومات بتجميل الصورة و إخفاء العيوب و عدم التحدث عن أي من مظاهر التخلف و الرجعية و الفقر و المرض الذي تغص به مجتمعاتنا و أوطاننا و تغدو المسألة أكثر تعقيدا ً و أشد حرصا ً عندما تكون القصة متعلقة بالمرأة و أحوالها و أوضاعها و حقيقة مكانتها و دورها في المجتمع فنحن نعتقد جازمين بأننا أكثر شعوب الأرض تعظيما ً للمرأة و تقديرا ً لها و نصر على ذلك و نأتي بالأدلة و البراهين لتأكيد ذلك و في الوقت نفسه نغمض أعيننا عن مظاهر شديدة الوضوح لا تترك جدلا ً حول حقيقة الوضع المزري الذي تعيشه المرأة في أوطاننا و بلداننا فنحن نريد حجب عين الشمس بالمنخل. ما زالت الغالبية العظمى من السعوديين تعتبر قيادة المرأة للسيارة أمرا ً محرما ً و باب الفتنة و سببا ً لاختلاف المسلمين. و ما زالت المرأة اليمنية غير قادرة على كشف وجها في الجامعات و الدوائر الحكومية فضلا ً عن شوارع العاصمة صنعاء. إلى الآن ما زال نصف النواب في مجلس الأمة الكويتي يعارضون عمل المرأة في السياسة و يرفضون إعطاءها حقوقها السياسية رغم إقرار القوانين بذلك و لعله الهجوم الشرس الذي واجهته الوزيرة الأولى في الكويت دليلا ً على ذلك.
تستفحل المشكلة و تعمق و تستعصي على الحل كلما أوغل أصحابها في تجاهلها و عدم الإقرار بوجودها و السعي الدائم لإعطاء المبررات للعوارض و الظواهر الناجمة عن وجودها و تجزرها. هذه الحقيقة تنطبق تماما ً على ظاهرة العنف في مجتمعنا عموما ً و القسم المتعلق بالمرأة تحديدا ً.
لذلك كان لا بد من الاعتراف بهذه الظاهرة و الإحساس بها كمشكلة متأصلة حتى نبدأ السير في طريق الحل.
إن إشاعة فكرة الحوار و التحاور و قبول الآخر من خلال تأصيل ثقافة الديمقراطية في المجتمع عموما ً و في المنظمات و التجمعات و النقابات و المدارس و أفراد الأسرة الواحدة بعد خطوة ضرورية للبدء في معالجة مسألة العنف عموما ً و ضد الساء خصوصا ً ذلك أن الانطلاق من القنا عات الجامدة و التصورات المحددة بناء على أفكار أيديولوجية و أصولية متحجرة لا يترك مجالا ً لقبول الآخرين أو الإقرار بالخطأ أو بوجود المشكلة.
قبل سقوط الديكتاتور الروماني الشهير ( تشاوسيسكو) كانت المستشفيات تغص بالأطفال المصابين بالإيدز و كانت سياسة الحكومة آنذاك التعتيم و التضليل و عدم الاعتراف بوجود المشكلة مما أدى إلى تضاعف الوباء و تفشيه بشكل مرعب و لم يتم البدء بالإعلان عن الأرقام الحقيقية إلا بعد إقامة دولة ديمقراطية أخذت على عاتقها معالجة الأزمة, في مصر تؤكد و سائل الإعلام الرسمية على عظمة أوضاع الشعب المصري و رخاء عيشه و رفاهية حياته و للتأكيد على ذلك أنشأت الأجهزة حركة سمتها (حركة استمرار من أجل بقاء الازدهار), ازدهار في مجتمع ارتفعت نسبة البطالة فيه إلى28%.
و في وطننا الحبيب أقر أخيرا ً نائب رئيس مجلس الوزراء بوجود ما يعادل 29.4% من الشعب السوري تحت حد الفقر.
هذه الأمثلة تدل ببساطة على ضرورة الانعتاق من ثقافة سائدة و مسيطرة على مجتمعنا لا تقر بالشفافية و لا تعترف بالإنسان كقيمة فوق الأيديولوجيات و الأصول. إلى جانب ذلك تقف الرغبة الملحة في ثقافتنا إلى النصر الكامل و التفوق المطلق حافزا ً للعنف و رفض الآخر إلا بشرط خضوعه أو ولائه الكامل (إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابرة ساجدين)
(لنا الصدر دون العالمين أو القبر)
فإما الصدارة و الرياسة و الزعامة أو الحرب حتى و لو أفضت إلى القبر فلا مكان في ثقافتنا للحلول الوسط و التوافق أو التقارب (لا توجد منطقة وسطا ما بين الجنة و النار) _ مع الاعتذار لنزار_
و هذه الطريقة الفكرية و الأسلوب الثقافي ينعكس على تعاملنا داخل مجتمعاتنا و خارجها. فعندما نفاوض الآخر أو نحاوره إنما بهدف إقناعه بصوابية مواقفنا و عظمة ذاتنا فإذا لم يصل معنا إلى هذا الحل فلا بد من الحرب و الاقتتال (أمرت أن أقاتل الناس حتى يؤمنوا و يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكاة)
و كانت الجيوش الإسلامية تطرح على البلاد التي تريد غزوها ثلاثة حلول:
الإسلام - الجزية - أو الحرب. أذا ً لا مجال لقبول الآخر كما هو حيث أن قبوله مشروط بخضوعه (حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون)
الثقافة المؤسسة للعنف ضد المرأة:
يتحكم فكر الإنسان و قناعاته الراسخة بأسلوبه في التعامل مع الآخرين و في طريقة معالجته للمشاكل و الأزمات و ما ينطبق على المثقف و المفكر ينطبق على الأمي و الجاهل الذي تراكم في لا وعيه مجموعة من القيم و المبادئ التي يتساوى فيها مع العديد من رواد الجامعات و السبب في ذلك أن ربط المواقف من الآخرين و الأزمات بمجموعة من القواعد المقدسة التي لا تناقش و لا يأتيها الباطل لا من بين يديها و لا من خلفها يجعلنا نعتقد أننا على صواب دائما ً و بذلك يتعذر الإصلاح و يغدو حل المشاكل أمرا ً في غاية التعقيد.
تبدأ المشكلة باعتبار المرأة كائنا ً يخضع للوصاية و الرعاية بشكل مستمر فعندما تعتبر المرأة شخصا ً تتحكم به عواطفه و لا يمتلك القدر الكافي للاستفادة من عقله في المواقف العصيبة (كالقضاء مثلا ً) وجب وضعها في درجة أدنى و في حيز يقاد فيه من قبل الجنس الآخر و في هذه الخلفية ينشأ الطفل أو الشاب في بلادنا على الاعتقاد بعلو شأنه تجاه الأنثى حتى و لو كانت أكثر إنتاجا ً و ثقافة ً و حكمة ً فهو يربى باعتباره رجلا ً له الحق في إصدار الأحكام و تنفيذ العقوبة. و في الجو نفسه تنشأ الفتاة لتكون خاضعة راضية بما يمارس بحقها لأن المنطق الرجولي الذي تربت عليه يستند إلى تاريخ مقدس و نصوص قاطعة.
و تزداد مشكلة العنف ضد المرأة تعقيدا ً عندما تعد المرأة حرمة أي كائنا ً ينبغي حجبه و إبعاده عن المجتمع إلا لضرورة يقوي ذلك ويثبته الموقف الحساس جدا ً من مسألة الشرف و العرض و الحرام و الحلال الذي يوجد أرضية خصبة للرد على أي تجاوز لحدود تلك الحرمة حتى و لو كان الأمر مجرد شك فالتربية و النصوص تبيح الدفاع مباشرة بأشد العقوبات و لو لمجرد الشك (يجوز لصاحب البيت إدخال السهم في عين رجل رآه ينظر إلى حرمته عمدا ً) و بالمقابل يكون الموقف غاية في العنف عندما يكون الشك متعلقا ً بالمرأة ذاتها أو بمواقفها أو رغبتها في الانفراد في تقرير حاضرها و مستقبلها. و ما ينطبق على الفتاة في بيت أهلها يتحول إلى واجب مرتبط بالمآل و الجنة و النار عندما تتحول إلى زوجة يفرض عليها ضوابط و قواعد قاطعة يعد أي تجاوز لها اعتداءات على حرمات الله و خروجا ً على أصول الشريعة. و هنا يأتي النص بضرورة ضرب المرأة إذا عصت زوجها و لا يعد الضرب هنا عنيفا ً بل تأديبا ً و إعادة إلى جادة الصواب.
في استفتاء أجرته قناة اقرأ الفضائية على مجموعة من النساء أجابت الغالبية العظمى منها بحق الرجل بتأديب زوجته إذا عصته أو تأخرت في إطاعة أوامره و هنا يصبح الحديث عن العنف ضد المرأة ً تعديا ً على المقدسات ً و تجاوزا ً للخطوط الحمراء. و هذا أمر يدعو إلى مراجعة شاملة لثقافتنا الدينية و محاولة إدخال الحوار و النقاش إلى تلك الثقافة.
إن العمل لوقف العنف ضد النساء يتطلب مباشرة العمل على مشروع يتبنى المسألة و يبدأ التوعية بها انطلاقا ً من الاعتراف بوجودها و انتشارها و مضارها بشفافية و جرأة. و من ثمة إعادة الاعتبار للمرأة و مكانتها في المخيل الثقافي الشعبي الذي غالباً ما يساهم في دونيتها و تراجع موقعها. إن اعتقاد الرجل بحقه في تأديب المرأة يجعله يبادر إلى ضربها كلما رأى ضرورة لذلك أما عندما يعتبرها كائنا ً مساويا ً له يتمتع بنفس الحقوق و الواجبات و أنه لن يجد التغطية الشرعية أو الاجتماعية لممارسته للضرب سيبدأ بالكف عن اللجوء إلى العنف كحل وسيفكر مليا ً بالعواقب قبل نشر غضبه و بالمقابل فإن توعية النساء بحقوقهن و قناعتهن بحرمة ممارسة العنف ضدهن سيدفعهن للدفاع عن أنفسهم و الاستعانة بالآخرين لحل المشاكل و عدم الرضوخ و الرضا بالذل لمجرد كونهن نساء.
و الجدير ذكره ارتباط العنف بضعف التعليم لدى الجنسين فالجاهل عادة لا يتراجع عن رأيه أو موقفه كونه لا يملك الحجة للدفاع عن أفكاره أو قناعاته يلجأ إلى القوة و العنف كحل مباشر لقضايا الخلاف.
إن التأسيس لتعظيم قيمة الإنسان مقابل المعتقدات و القيم الأخرى يساهم بشكل فعال في الحد من العنف فإذا توصلنا إلى اعتبار الإنسان مجردا ً من كل انتماء عقائدي أو عرقي أو جنسي كائنا ً يستحق العيش بكرامة و لا يجوز التعرض له لمجرد الاختلاف و الشبهة يتيح الفرصة لمزيد من التعامل السلمي و البعد عن الخلافات بالقوة.
ختاما ً:
إن إشاعة ثقافة حقوق الإنسان و تدريس الميثاق العالمي الخاص بهذا الشأن في مدارسنا و قيمنا التربوية و في حوارنا و نقا شاتنا الخاصة أمرا ً هاما ً و بالغ التأثير في الالتفاف حول قيم إنسانية و مبادئ يشترك بها العالم أجمع بما يجعلنا جزء منسجما ً مع العالم حولنا يقر بالمساواة بين الجنسين و يعطيهما ذات الحقوق و الواجبات.